هناك ظروف تجعل من واقعها ظلالاً للعمل السياسي الذي يطاوع ويكيّف آليته كي تتحرك تحت هذا السقف، وهناك أيضاً ظروف تجعل من وطأتها وخياراتها المحدودة منطلقاً للتحدي في قيادة العمل السياسي على طريق تحقيق استراتيجيته، وقد يتخذ العمل السياسي المنهج البراغماتي أو سياسة البين وبين، لكنه في هذه الحالة يكون قد مال إلى المصلحة المرحلية والظرفية ولم يعد يحتكم إلى المبدأ الذي كان الشعار الذي أوصله إلى الصدارة سياسياً ونضالياً، ولا ندري كيف ستتصرف حركة حماس من خلال الحكومة الفلسطينية في ظل الظروف السائدة والخيارات المحدودة وتكالب الضغوط الدولية عليها من كل حدب وصوب؟
ليس طرح التساؤل أعلاه يمثل طرحاً تشاؤمياً بقدر ما يريد توصيف الحالة المعقدة التي تواجهها حماس في بداية حكمها، وخصوصاً على الصعيد الفلسطيني المتأزم، وكذلك بالنسبة لشراكة الحكم مع مؤسسة الرئاسة أو الرئيس محمود عباس الذي بادر أخيراً إلى وضع شؤون المعابر والحدود وكذلك الأمن العام تحت إشرافه وليس تحت إشراف وزارة الداخلية، وهو أمر قوبل برفض من قبل رئيس الحكومة اسماعيل هنية.
تبدو الحواجز على طريق حكم حماس موضوعة بغرض العرقلة في جميع الجوانب الفلسطينية و”الإسرائيلية” والأمريكية والأوروبية، مع ان الجوانب الثلاثة الأخيرة في اتساق واحد بالنسبة للغرض والتنسيق، إلا أن من الواضح أن تلك الجوانب سوف تستفيد أيضاً من الجانب الفلسطيني في إحكام العرقلة بعدما بدا واضحاً ان الجانب المذكور لا يقل تأثيراً في عملية حصار حكومة حماس، وجعلها بالتالي تتراجع استراتيجياً أمام الشروط “الإسرائيلية” والأمريكية والأوروبية من خلال الاعتراف ب”إسرائيل” والتعامل معها سياسياً بمنظار السلطة الفلسطينية (الفتحاوية) السابقة وكذلك التخلي عن المقاومة. وهو أمر يتطلب من حكومة حماس أو الحكومة الفلسطينية الجديدة تجاوز حواجز العرقلة في آن داخلياً وخارجياً، مع أن عملية التجاوز المطلوبة هذه تحتاج إلى عوامل جدية ومضمونة خصوصاً أن هذه الحواجز تعتمد قوائمها على ارتكازات أمنية وسياسية واقتصادية، ليس من السهولة على حكومة فتية وطرية العود مواجهتها من دون دعم فلسطيني وطني، مع ان الدعم الشعبي متوافر وعلى الأقل في هذه المرحلة، إلا ان ذلك لن يكون كافياً لاسيما أن أمريكا وأوروبا و”إسرائيل” بدأت باستخدام “دبلوماسية الرغيف” حيال القاعدة الشعبية لحماس بل ولعموم الشعب الفلسطيني، كي تضيف حاجزاً آخر من الضغط والحصار، وهو ما يعني أن الثالوث الأمريكي الأوروبي “الإسرائيلي” يعمد إلى استخدام الورقة الفلسطينية شعبياً بهدف زعزعة وخلخلة تلك القاعدة والشارع الفلسطيني لإيجاد فجوة من التباعد والافتراق بينها وبين الحكومة الفلسطينية الجديدة التي تمثلها حركة حماس.
لا شك أن حاجز الجانب الفلسطيني يلعب دوراً أساسياً في التأثير سلبياً في حكومة حماس، كونه عامل خنق لها من الداخل، وهو ما يحرص الثالوث الأمريكي الأوروبي “الإسرائيلي” على تغذية ودعم دوره في تحقيق هذا الخنق، حتى يستتب المشهد الفلسطيني في الأخير على ان الفلسطينيين في الأراضي الفلسطينية تأكدوا من أن رهانهم على حماس في الانتخابات كان مجانباً للصواب، وهو ما اضطرهم إلى القيام بانقلاب مقابل بعدما تأكدوا من عجز الحركة المذكورة عن الاضطلاع بدور الحكم عندما أخفقت في القيام بدور السلطة وتحقيق أهدافها التي أعلنتها عندما كانت خارج الحكم، وهذا يعني التحاقها بركب منافستها فتح في هذا المضمار، أو تحديداً إخضاع حماس للمشيئة “الإسرائيلية” الأمريكية أو إسقاط حكومتها بردة فعل من الشارع الفلسطيني على المجاعة وتدهور الحالة الاقتصادية، وهو أمر يفسح المجال لإجراء انتخابات فلسطينية مبكرة يكون الفوز فيها من نصيب مرشحي فتح وبعض المستقلين الذين لا يختلف منظارهم العلماني عن منظار فتح ايديولوجياً على غرار أسلوب التعامل مع “إسرائيل” وفق السياسة التي اتبعتها السلطة السابقة والتي لم تمنع “إسرائيل” من الاستمرار في مخططاتها الرامية إلى خلق واقع تعجيزي أمام مشروع قيام دولة فلسطينية تملك مقومات الديمومة والحياة، كي تستطيع “إسرائيل” من خلال هذا الواقع استكمال حائط العزل وزيادة الاستيطان، وسياسات الانسحاب أحادي الجانب، وبالتالي المضي قدماً في سياساتها العملية في عدم التسليم بالحقوق الفلسطينية المشروعة بما في ذلك قيام دولة فلسطينية.
وفي الجانب أعلاه بادر رئيس الحكومة الفلسطينية إلى إعطاء الضوء الأخضر لوزرائه المعنيين بالشؤون الخدمية والمعيشية في إجراء الاتصالات مع الجانب “الإسرائيلي” بهدف الأمور التي تتعلق بشؤون وزاراتهم الخدمية والمعيشية، وقد عدها المراقبون مبادرة تتجاوب مع معطيات الواقع الذي يفرض ان يكون هناك اتصال مع الجانب “الإسرائيلي” بخصوص الشؤون الخدمية والمعيشية التي تتعلق باحتياجات المواطنين الفلسطينيين.
وعلى كل حال، لم يظهر إلى حد الآن على حركة حماس من خلال الحكومة الفلسطينية الجديدة، أي بوادر أو علامات تفصح عن إمكانية التحول عن الأهداف الاستراتيجية وفق ما هو معلن في مشروعها السياسي والنضالي (الجهادي). - الخليج الاماراتية 18/4/2006 -