إذا سأل سائل، من المشغول الآن بالقضية الفلسطينية، فلن يعثر على إجابة محددة، وسوف يفاجأ بأنه لا أحد مشغول بتلك القضية، فليس يخفى على أحد أن الجميع في الخارج ـ تقريبا ـ نفضوا أيديهم منها، أما في الداخل، فالصراع الحاصل الآن بين رئاسة السلطة الفتحاوية وبين الحكومة الحمساوية يجيبك على السؤال، وتلك مفارقه مدهشة، لم تخطر على بال أحد ممن عاشوا زمنا كان الجميع يتحدثون فيه عن أن فلسطين هي القضية المركزية في العالم العربي والإسلامي، ويعتبرون حلها على نحو عادل ومنصف هو مفتاح الاستقرار في الشرق الأوسط كله، وإذا دارت دورة الزمن واختفى ذلك الخطاب تدريجيا، فإن المآل يطرح علينا السؤال مجددا: من المشغول بملف القضية؟.

في تلك المرحلة التي اعتبرت فيها فلسطين قضية مركزية في العالم العربي، كانت الأمة العربية على وعي كاف بمتطلبات أمنها القومي، الذي ضربته إسرائيل بقوة، ومثلت تهديدا صريحا له منذ إنشائها في عام 1948، وشاءت المقادير أن تتوفر وقتذاك بيئة دولية مؤاتية نسبيا، في ظل وجود الاتحاد السوفيتي كقطب آخر في المعادلة، الأمر الذي أبقى على الفكرة حية في الوجدان العام وفي الخطاب السياسي العربي.

غير أن ذلك التوازن لم يستمر، ولكنه اختل لاحقا بسبب عاملين، أولهما توقيع اتفاقيات كامب ديفيد بين مصر وإسرائيل في عام 1978، الأمر الذي مثّل اختراقا في الصف العربي، أضعفه من ناحية، وفتح الأبواب للتغول الأميركي بتأثيراته السلبية على التوجهات المصرية في ناحية ثانية. أما العامل الثاني فهو انهيار الاتحاد السوفيتي، ومن ثم اختفاء القطب الآخر، وما استصحبه ذلك من تفرد واشنطن بصدارة الساحة الدولية وتمكينها من التحكم في القرار الدولي.

ضعف الموقف المصري والتغول الأميركي، أوصلا إلى اتفاقيات أوسلو، وما سمي بطور التسوية السياسية، الذي أطلق في ظله سراب الحلول السلمية تحت عناوين مختلفة، الأمر الذي أوصل القضية في ظل الخلل المخيم في موازين القوة إلى ما وصلت إليه، من تراجع للدور العربي وتوسع وتمكين للإسرائيليين، مع تعاظم للدور الأميركي في مسار التسوية.

بمضي الوقت، استقر الاقتناع في العالم العربي بالشعار الذي أطلقة الرئيس السادات حينا من الدهر، وتحدث فيه عن أن 99 بالمائة من الأوراق في يد الولايات المتحدة، الأمر الذي بدا إعلانا صريحا عن الاستقالة من القضية، وتسليم مفاتيحها إلى واشنطن. والكل يعرف ما جرى بعد ذلك، سواء في عهد الرئيس الأميركي بيل كلينتون، أو خلفه الرئيس جورج بوش الذي جاء محمولا على أكتاف المحافظين الجدد، وما أدراك ما هم.

منذ أوسلو إلى بداية العام الحالي، أي طيلة ثلاثة عشر عاما، شهد العالم العربي عروضا أميركية متعددة لأفكار ومشاريع التسوية السياسية التي كانت خريطة الطريق آخرها، وفيما كان العالم العربي يقوم بدور المتلقي والمتفرج، فإن إسرائيل لم تأخذ تلك الأفكار على محمل الجد، ومن ثم لم تعول عليها، ومضت تنفذ مخططاتها التوسعية والاستيطانية، مطمئنة إلى أنها مهما فعلت أو تجاوزت فإن الغطاء الأميركي كفيل بتأمينها.

ذلك كله انتهى الآن بصورة نسبية، فإسرائيل ألغت الطرف الفلسطيني واعتبرته غير موجود، وقررت أن تمد السور إلى غايته وأن ترسم حدودها على النحو الذي ارتأته، بغض النظر عن أية استحقاقات فلسطينية، وبالتالي حركة «حماس» في الانتخابات التشريعية وتشكيلها للحكومة ذريعة إضافية استخدمتها لتبرير موقفها. ليس ذلك فحسب، وإنما اصطفت وراءها الإدارة الأميركية، والرباعية الأوروبية، والأمم المتحدة، حين امتثلت للقرار الإسرائيلي، وقررت مقاطعة حكومة «حماس»، ووقف أي تعامل سياسي أو اقتصادي معها، ومن الناحية العلمية فإن هذه الأطراف الخارجية التي ظلت تتداول ملف القضية خلال العقود الثلاثة الأخيرة، رفعت أيديها عنها، وأصبحت القضية الآن بلا «صاحب».

الفراغ الناشئ عن انفضاض تلك الأطراف من حول القضية، يسوغ لنا أن نتساءل: هل حان وقت استعادة العالم العربي للملف، بعد ثلاثة عقود من تحول مركز الثقة في إدارته إلى العالم الخارجي، وإذا جاز لمثلي أن يذهب به الخيال أو التمني إلى أبعد، فإنه يعني لي أن أتساءل: ألا يستحق الأمر «قمة تشاورية» يتداول فيها القادة العرب، في دول الجوار على الأقل، كيفية التعاطي مع القضية بحيث تحدد موقفا حازما إزاء المساعي الإسرائيلية الحثيثة لتصفيتها. وإزاء ما تمثله تلك المساعي من تهديد لأي من الدول العربية المجاورة. أخشى أن يكون ذلك مطلبا بعيد المنال، سواء بسبب حالة الانكفاء المفجعة التي أصابت أغلب الدول العربية، أو بسبب الاضطرابات والقلاقل الداخلية التي تعاني منها بعض تلك الأقطار، الأمر الذي قد يترتب عليه استمرار الفراغ المشار إليه، واستمرار الاندفاع الإسرائيلي في عملية التصفية بما تستصحبه من التهام لأراضي الضفة وتهويد للقدس.

ليس سرا أن بعض الدول العربية توجست من ظهور إيران على المسرح، ومحاولتها إثبات الحضور وملء بعض الفراغ في الساحة الفلسطينية، وهو ما تبدى مثلا في المؤتمر الدولي لدعم القضية الفلسطينية الذي عقد في طهران قبل أسبوعين، وفي قرارها تقديم مائة مليون دولار لمساعدة الشعب الفلسطيني على مواجهة الحصار المفروض عليه إسرائيليا وغربيا، وأيا كان الرأي في مدى صواب ذلك الموقف، فإنني من القائلين بأن على الدول العربية التي يقلقها ذلك الحضور الإيراني أن تتقدم هي من جانبها لتملأ الفراغ، ولا بأس من التنافس في مساندة الشعب الفلسطيني وإغاثته، حيث لا محل ولا منطق في تبني الموقف الذي يمتنع عن إنزال الرحمة بالخلق، وفي الوقت ذاته يعمل على مصادرة فرصة إنزال رحمة الله بهم من أي باب.

من ناحية ثانية، فإن التفاهم والتنسيق مع الإيرانيين وغيرهم حول مسألة الإغاثة، سواء تحت مظلة الجامعة العربية، أو منظمة المؤتمر الإسلامي، من شأنه أن يوفر دعما حقيقيا للشعب الفلسطيني كما أنه يفتح الأبواب لدور عربي وإسلامي في الشأن الفلسطيني الذي تخلى الآخرون عنه، بما يخفف من الضغوط الأميركية والأوروبية، على الأقل في الجانب المالي والاقتصادي.

وعلى صعيد آخر، فإنه من المحزن حقا أن ينشغل الفلسطينيون في الداخل بالصراع الحاصل بين السلطة والحكومة، وهو الصراع الذي بدأته السلطة حين اشتبكت مع الحكومة حول مسألة الصلاحيات، الأمر الذي أفرز موقفا عبثيا وضعنا بإزاء سلطة تستحوذ على الصلاحيات من دون أن تتحمل أية مسؤولية، وحكومة تحمل بالمسؤولية من دون أن تمكن من الصلاحيات التي تمكنها من النهوض بواجباتها.

لقد دأب الإعلام على وصف مساعي السلطة بأنها محاولة لإقامة «حكومة ظل» موازية للحكومة الشرعية، وهو وصف غير دقيق، لأن حكومة الظل في التجربة البريطانية تدرس وتراقب وتتأهب إذا ما حانت فرصة تداول السلطة، ولا تملك أية صلاحيات، في حين أن الحكومة الموازية التي أقيمت في «رام الله» تملك صلاحيات واسعة أمنية ومالية وإدارية تتجاوز بكثير ما تملكه الحكومة الشرعية. الأمر الذي أفرز وضعا استثنائيا، كان لا بد وأن يؤدي إلى تداخل الاختصاصات وإثارة الحساسيات بين مجموعة معينة استمرأت احتكار السلطة ورفضت أن تتخلى عن ميزاتها، وأخرى منتخبة جاءت بإرادة أغلبية الشعب الفلسطيني، أريد لها أن تبقى بلا حول ولا قوة.

وإذ يصيبنا ذلك التجاذب بالحزن والأسى، إلا أن أكثر ما يعنينا فيه هو انعكاساته على القضية، التي هي حتى الآن سلبية بكل المعايير لأن مثل هذا الصراع إذا استمر فإنه يصبح هدية مجانية ثمينة يقدمها الفلسطينيون إلى الإسرائيليين، الذين حددوا هدفهم الاستراتيجي بوضوح، ولا يزالون يعملون لأجله مستفيدين من كل الظروف المحيطة، في حين أن الفلسطينيين والعرب أجمعين لا يزالون يبحثون عن هدف يلتفون حوله، ولا تدل شواهد الواقع على أنهم اتفقوا على ذلك الهدف. - الشرق الأوسط 26/4/2006 -