عقد السيد خالد مشعل رئيس المكتب السياسي لحماس في بداية الاسبوع مؤتمراً صحافياً كان اشبه بمحاضرة طويلة وفضفاضة شرح فيها بإسهاب موقف الحركة في ضوء التصعيد الاسرائيلي والجهود العريبة الرامية الى اطلاق سبيل الجندي. وإذ جاءت إدانته للقتل والتدمير الاسرائيلي وتفسيره لدوافع سياسة اولمرت واهدافها في مكانها، إلا ان تبسيطه للتحديات المفروضة على حماس وتبريره او تجاهله لفشل الحركة في استباق او ردع وفضح الاعتداءات الاسرائيلية تتطلب صراحة أكثر.
قال السيد مشعل بتبسيط مبالغ فيه ان العالم قال لحماس ادخلوا السياسة فدخلناها وفزنا في الانتخابات ثم لم يعطونا الفرصة لادارة الحكومة. هذا تعليق يمكن أن يقدمه محلل سياسي لا قائد سياسي يتحمل تبعات قرارات تفتقد الى رؤية بعيدة المدى وتعي ان العالم يرى تناقضات بين حكومة ومقاومة تحت الاحتلال ولن يقبل بالخلط بين الاثنين، وان اسرائيل لن تسمح لحماس المنتخبة بأن تتمسك بكل مواقفها الرافضة للاتفاقيات والاعتراف بها وكذلك بالمقاومة المسلحة، ومن ثم ان تقوم بمهماتها الحكومية الرسمية بدون رادع. وهنالك تناقض لم تحله قيادة حماس بين حكومة رسمية تنبع شرعيتها من قيامها بمهماتها في حماية المواطن اولاً وتقديم الخدمات له ثانياً، ومقاومة سرية غير متكافئة تحتمي بالمجتمع وتتتغذى من صموده. لقد صوت الشعب لحماس لأنه سئم إضطهاد إسرائيل «السلمي» واهاناتها لقيادات فتح، ولعباس وقريع بالتحديد، فهل تدمير الاسبوعين الاخيرين واحتجاز اسرائيل لثلثي الحكومة والمجلس التشريعي يقدم نموذجاً حماسياً مغايراً لما قدمته قيادة فتح في مواجهة اسرائيل؟
أطال زعيم حماس في مديح بطولات الشعب الفسطيني أمام آلة الدمار الاسرائيلية وصموده في وجه سياسة العقوبات الجماعية المخالفة للقوانين الدولية وهنأ نفسه وحركته والعالم العربي والاسلامي بهذا الشعب العظيم... ولكن لأنه بالفعل شعب عظيم صمد لأكثر من خمسة قرون فحريٌ بحماس ان تخفف من أعبائه ليستطيع ان يقاوم ويصمد أطول وقت ممكن. هذا لا يعني ان حماس تتحمل مسؤولية معاناة الفلسطينيين وعذاباتهم، فهذه من إختصاصات الاحتلال، لكن حماس تتحمل مسؤولية ان يتطور صمود المجتمع ونصرة قضيته بأقل كلفة ممكنة. لأن الفلسطينيين يعشقون الحياة ولا يتمنون الموت وليسوا «مازوخيين» يحبون أن يعذبوا بل ان قضيتهم تهدف اولاً وأخيراً الى التحرر وتصبو الى الحرية وهذه مصطلحات صادرتها الادارة الاميركية نظرياً ويطبقها الفلسطينيون عملياً. وليس حتمياً أو بديهياً ان يُقتل الفلسطينيون كل يوم وكأن هذا هو قضاؤهم وقدرهم. صحيح ان الشعوب التي عانت من الاحتلال على مدى القرن الماضي تحررت بفضل مقاومتها، ولكن هذا تحليل اكاديمي وتاريخي وليس موقف قيادة تحرر. فعلى حماس ان تقدم رؤيتها الظرفية واستراتيجيتها المفصلة - المكلفة للإحتلال بأقل كلفة ممكنة للمجتمع وبهذا تكون حماس وسيلة بيد الشعب تحقق طموحاته وليس العكس.
وتفاخر القائد الفلسطيني بعملية «تبديد الوهم» التي آلت الى مقتل جندييين إسرائيليين وإحتجاز ثالث - وهي فعلاً عملية نوعية - وأصرّ على مبدأ تبادل الاسرى، وهذا موقف مبدئي تدعمه غالبية القوى السياسية. ولكن هل يكفي ان تقوم القيادة العسكرية لحماس بعملية جريئة ثم يتحمل الشعب وحكومته ومنتخبوه تبعاتها بدون اي خطة سياسية او امنية لليوم التالي وهي تعي ان اسرائيل لن تقف مكتفة الايدي وأنها سترد بقوة؟ وهل استمرار الاجتياح الاسرائيلي، الذي سيؤدي على الارجح الى مقتل الجندي شاليت المأسور، يُعتبر نجاحاً فلسطينياً مقابل مئة شهيد وآلاف الجرحى وتدمير جديد للبنية التحتية للإقتصاد والمجتمع والحكومة على اقل تقدير؟ وهل يعتبر اطلاق سراح مئة اسيرة مقابل استشهاد مئة طفل وإمرأة ورجل نجاحا في قاموس حماس؟ لا شك ان المقاومة حق مشروع بحسب المواثيق والقوانين الدولية وواجب وطني، وأن على اسرائيل ان تحرر الاسرى، لكن بنية اي عملية مقاومة وتوقيتها وموقعها وهدفها وتدبيرها يجب ان تتم في إطار استراتيجية سياسية وديبلوماسية وحتى مجتمعية تزيد من فاعليتها وتقلل من نتائجها السلبية. الجندي الاسرائيلي محتجز واسرائيل تدمر وتغتال وترهب بدون رادع... على حماس ان تتحمل تبعات سياستها بعيداً عن الاعتداد بالنفس.
أكد السيد مشعل على ان الجندي الاسرائيلي لن يُمس بالأذى او يقتل على اعتبار ان ذلك يتناقض من مبادئ وقيم الحركة الاسلامية. كنت أفهم لو ان هذا لن يتم لان ذلك يفقد العملية فعاليتها الردعية ويفقد حركة حماس محاولتها جرّ اسرائيل الى مفاوضات حول الاسرى تفتح باباً حديداً عليها يقلل من مناعتها وقوة ردعها في المستقبل. لكن ان يفسر هذا من منطلق أخلاقي وديني فهو يتضارب مع موقف حماس الذي اعتبر أن الغاية تبرر الوسيلة بما في ذلك قتل المدنيين الاسرائيليين (أطفال يأكلون البيتزا في مطعم ليسوا أعداء او أهداف مقاومة مشروعة ولو جاءت هذه كرد فعل على عملية استفزازية اسرائيلية)، ولن تمحو مثل هذه الادعاءات تهمة «غياب القيم» و»الارهاب» التي يصفها بها الغرب، ولا يفسر او يبرر العمليات الانتحارية (الاستشهادية) التي قامت بها الحركة في الماضي وكان لها تأثير اخلاقي سلبي كبير على شرعية المقاومة ووصفها بالارهاب وعلى مجمل القضية الفلسطينية. لقد كانت قوة القضية الفلسطينية ولا تزال في اخلاقياتها ومشروعياتها، فلا مصلحة للفسطينيين في موازاة بين اعتداءات اسرائيل بالجملة على الفلسطينيين وردود الفلسطينيين عليها بالمفرق وإذا كآنت القيادات السياسيية في الغرب تدعم اسرائيل فإن مجتمعاتها كانت ولا تزال في غالبيتها تؤمن بعدالة القضية الفلسطينية تؤيد الفلسطينيين في نضالاتهم، لكن حتى هذه قد تراجعت في الفترة الاخيرة بسبب سجل حماس وسياستها.
وإذ فضل مشعل كلمة جهود على وساطات عربية وإسلامية، فهذا لن يخفي التحدي الاقليمي الذي تواجهه حماس التي أصرّت قيادتها في الماضي القريب على ان تستبدل الدعم الغربي المشروط بدعم عربي واسلامي، حتى «إكتشفت» ولربما تفاجأت بأن القيادات العربية والاسلامية ترفض ان تتحدى إرادة الغرب لصالح حركة حماس وأن قيادات الحركة ووزراءها ليسوا مرحباً بهم في عواصم عربية عدة، فكيف بمساعدتهم على تحدي اسرائيل واميركا التي يُستقبل زعماؤها بأذرع مفتوحة في العواصم العربية. اوروبا التي تبنت موقفاً ضعيفاً من الجرائم الاسرائيلية في الايام الماضية ليست عدو الشعب الفلسطيني وهي برغم ضعف ممثليها ومواقفها في السياسة الخارجية إلا أنها كانت ولا تزال، للأسف، تدعم الفلسطينيين أكثر من الدول العربية والاسلامية، فليس كافياً اتهام اوروبا بالتقصير، وهي فعلاً مقصرة، بل من الضروري إيجاد لغة مشتركة معها ومع شعوبها بعيداً عن التهديد والتنديد خصوصاً أن الرأي العام الاوروبي لصالح القضية الفلسطينية في تراجع منذ بضعة أشهر ومنذ انتخاب حماس بالتحديد الأمر الذي لا بد من معالجته بحملة سياسية واعلامية ترتقي للتحدي.
لقد طمأن خالد مشعل الذي تعرض لمحاولة اغتيال اسرائيلية قبل عقد من الزمن انه لا يهاب التهديدات الاسرائيلية فكل يوم يعيشه هو يوم إضافي حتى يرى وجه ربه، ولذلك فمن المفروغ منه ان يغير مواقفه تحسباً لمحاولة اسرائيلية جديدة. وقد برهنت غالبية القيادات الفلسطينية لمختلف الفصائل انها قادرة على ان تضحي بكل ما هو غالي لنصرة قضيتها. لكن أليس الأفضل ان يعيش هؤلاء من اجل قضيتهم بدل ان يقتلوا في سبيلها، فلماذا هذا التحبب في الموت في سبيل الله والوطن بدل التمسك بالحياة والحرية في سبيل الله والوطن. إنه لمن سخرية القدر ان يتواقح الاسرائيليون بدعوة انهم لن يغفروا لنا إجبار شبابهم على قتلنا، في حين يفتخر بعض الفلسطينيين بأن إسرائيل لن تقتل بما فيه كفاية. فليكن شعار حماس هو الحكمة السياسية والوحدة الوطنية امام الله والناس ومن ثم النضال والتضحية في سبيلهما. فما معنى النضال بدون حكمة أو تضحية تبددها التفرقة. وحال الشعب انه يريد لقيادته المنتخبة والمشروعة طول العمر لكي تخدمه وتدافع عن كرامته. فالاعمار بيده عز وجل لا بيد الجيش الاسرائيلي.
دار الحياة (18/07/2006).