خلافتها من الإنسان. من هنا كانت الوطنية عند الإنسان غير مطلقة العذرية ، لكي لا يقتصر إعمار الأرض على مكان دون الآخر ، ولكي لا ينتفي سعي الإنسان في مناكبها من أجل الأهداف النبيلة لنشر الخير وإعمار الأرض. ولم يحرم الله الهجرة عن الوطن من أجل الخير ونشر السلام. فأمر خيرة أنبيائه بالهجرة ، بداية بسيدنا نوح ، ومروراً بسيدنا ابراهيم وسيدنا موسى وانتهاءاً بسيدنا محمد عليهم السلام جميعاً ، وأمرهم بفض غشاء بكارة الوطنية من أجل الأهداف الأسمى ، وكان يعلم مدى قسوة الهجرة عن الوطن على نفوسهم ، ومن أجل ذلك كانوا من أولي العزم من الرسل. وهذا ما يقودنا الى مفهوم السياسة ، واللجوء الى المناورة السياسية عندما يستعصي الحل بالقوة لظروف محيطة تقوى على الإمكانات المتاحة.

لذا كانت العذرية الوطنية أشبه ما تكون بعذرية الفتاة البكر ، عذرية مقدسة ، ومن أغلى ما تملك الفتاة من رأس المال إلى وقت معلوم وإلى حد معين ، إن استمرت الفتاة في عذريتها من أجل هدف الحفاظ عليها فقط أو من أجل تعصب ديني كالرهبانية لتسخير النفس للعبادة فقط ، فسوف تفقد دورها وهدفها الذي خلقت من أجله. الا وهو جريان الغرائز في مجاريها السوية والمشروعة من أجل الحفاظ على النوع بالتناسل وتربية الأجيال لإشباع فطرة الأمومة والإستمتاع بغريزة فطرية أودعها الله في مخلوقاته لتحقيق الخلافة في الأرض وإعمارها بالخير ومحاربة الشر. من هنا كان المتعبد لله المتزوج والساعي في الأرض أفضل عند الله من المتعبد له المتفرغ للعبادة فقط.

فإذا فهمنا العذرية الوطنية بمفهومٍ مطلق ، فسوف تكون الهجرة عن الوطن (مثلاً لا حصراً) من أجل أهدافٍ نبيلة محرمة في قاموسنا ولكنها محللة عند الله ، وبالتالي سنكون حدنا عن الطريق وخالفنا الشرائع السماوية ، وأخطأنا الهدف وضللنا الطريق إليه. من هنا ربما يفهم المتعصبون المناورة السياسية فهماً خاطئاً ومغلوطاً وبأنها تفض غشاء بكارتهم الوطنية بطريقة الإغتصاب. وتصبح المناورة السياسية من المحرمات ، في حين لجأ اليها معظم الرسل في دعوتهم للايمان بالله وإقامة العدل ونشر الخير والسلام في الأرض. ولقد إنتهجها نبينا محمد وأبدع في المناورة السياسية مع الخصوم وأبرم الإتفاقيات ومعاهدات الصلح على ضوء الواقع وليس من نسج الخيال اعتماداً على أن يهبه الله النصر لأنه صاحب حق ، وكان لا يغلق باب المناورة السياسية إن كانت ستحقق إنجازاً مرحلياً يتفق مع الواقع والإمكانات، وكانت سبباً في الفتوحات الإسلامية ودخول الناس طوعاً في هذا الدين بدون إراقة للدماء لسماحته واعترافه بالغير وعدم إكراههم في الدخول فيه ووصايا أمراء المسلمين للفاتحين المشهورة.

والعذرية الوطنية تخلق مع المخلوقات بالفطرة ، أمانة من الخالق يودعها الله فيهم ، ويحتفظ بها المخلوق كرصيد ينفق منه طيلة حياته ، وهي معرضة للتناقص بالتنازلات تبعاً للظروف القهرية والإبتلاء وللطواريء والكوارث ، وربما يتدنى رصيدها ويقترب من الصفر ، ولكن لا يمكن أن يكون بالناقص (سالبا بالمعنى العلمي أو مكشوفا بالمعنى المصرفي). وحينها سوف تصل الى درجة الخيانة الوطنية عند التفريط بالثوابت الوطنية التي أجمع عليها أهل الوطن ، وتصبح تآمراً مع الأعداء ضد مصالح الوطن ومواطنيه.

فالسياسة هي التصرف برصيد العذرية الوطنية ، والإنفاق منه على مصلحة الوطن والمواطنين ، مع الحفاظ على هذا الحساب مفتوحاً ودائناً بالرصيد الموجب لكي لا يتعرض للإغلاق ، وعدم السماح بكشفه ليكون سالباً لكي لا يتعرض للفوائد الربوية المحرمة والتي تعد من الكبائر. ويجب أن يغذى هذا الرصيد بإستمرار بالسيولة ، سيولة شحنات الوفاء والإخلاص والشوق والحنين وتلبية الواجب والنداء ، سيولة المال والدم ، سيولة التراث والثقافة والأدب والعلم والتطور والوعي والبناء ، لتكون ميراثاً للأجيال ، ليحافظوا على ما حققه وبناه الأسلاف ، ليبقى دائماً بذاكرة الأبناء ‘ سواءً كانوا على ترابه أو كانوا مهجرين ، لينهلوا من هذا الميراث ما يكون زادهم الروحي والعاطفي والعقلي والذهني ويزرع فيهم الولاء له، ويظلوا في تجاذب مستمر مع الوطن مهما بعدت بهم المسافة ومهما قست عليهم الظروف ، ومهما جفا بهم الأقارب ، ومهما ظلمهم العالم. ولكي لا ينال منهم الإستسلام للأمر الواقع ، ولكي لا تكسر إرادتهم في المطالبة بحقوق أجدادهم وحقوقهم المهدورة.

السياسة قوةٌ عندما تنفع القوة ، ولين عندما ينفع اللين ، وتفضيل درء المفاسد على جلب المنافع ، لئلا تنمو المفاسد على تراب المنافع وتطغى عليها ، والسياسة جدال باللتي هي أحسن ، جدال بالسيف وجدال باللسان وتفضيل الأجدى بالنتيجة الإيجابية على الصالح العام، والسياسة فن في المحاورة ، وفن في الخروج من المآزق والإبتلاءات ، والسياسة إتقاءٌ للعواصف ، والسياسة معرفة وتقييم للنفس وقدرها حق قدرها ، وهي عدم الإلقاء بالنفس الى التهلكة ، ووقف نزيف الدم المهدور بدون نتائج وحصد أرواح الشباب والأطفال الذين يمثلون عمقنا الديمغرافي والإستراتيجي في المعركة، وهي عدم إعطاء المبرر والفرصة للأعداء لتحقيق أهدافهم باستخدام الوسائل التي يتفوقون فيها علينا. السياسة أن نعمل لصالح مراكز القوة عندنا ومواطن الضعف عند الأعداء. الحرب جزءٌ من السياسة إذا أحسن توقيتها ولم تكن هدفاً بحد ذاته يستنزف قوانا دون جدوى ويغلب كفة أعدائنا على كفتنا. السياسة هي الوحدة في الأزمات ، وتجميع الطاقات والسمو عن الذات من أجل العام ، السياسة أن تسبق أخاك في المصافحة عند الخصام ، السياسة هي الإلتزام باالإتفاقات والتفاهمات فعلاً وقولاً. لا ضحكاً على الذقون بالتصريحات الخادعة البراقة للشعوب والإستهلاك.

المناورة السياسية وطنية عندما تخدم الوطن ، والسياسة واجب عندما تحقق مرحلةً نحو الهدف ، ونعلو بها درجة على سلم الهدف ، والسياسة واجب عندما ترسخ أقدامنا على جزءٍ من أرضنا ، وتبعد عنا التهجير القسري التآمري من عالم يقيس بمكيال الخصم.، ويرى بعينه ويسمع بأذنه.

إن التخلي عن بعض المفاهيم والعناوين والمكونات الوطنية في ظروف صعبة وقهرية ، من أجل إنقاذ الوطن والمواطنين ، يعتبر بحد ذاته وطنية، تماماً عندما يقرر قبطان السفينة إلقاء بعضٍ من حمولتها في البحر عندما يكون وزنها يعرض السفينة وركابها للغرق إثر هبوب عاصفة هوجاء ، ويكون إلقاء بعض الحمولة سبباً في نجاة السفينة وركابها وبعض من حمولتها الثمينة لإنقاذ ما يمكن إنقاذه قبل هلاك الجميع وغرقهم بالبحر. وهو تماماً كمثل شخص يعيش في بيته مع عائلته ، وتسللت إليه حية سامة ، واختبأت في تحفة أثرية ثمينة تعز على أهل البيت ، وضحوا بهذه التحفة من أجل قتل الحية قبل أن تقتل أحد أو معظم ساكنيه. وهل يعتبر ذلك خرقاً لمفاهيم الوطنية؟ لا شك أن الجواب معروف للجميع.

الوطنية هي نقش ونحت وحفر في الذاكرة والوجدان ، ولن تستطيع أي قوة في العالم مهما تعاظمت أن تنال منها ، إنها تراكمات متحدة ملتحمة لا تنفع معها القنابل والصواريخ ، ولا تقف أمامها المعاهدات والإتفاقات الوضعية لتحول دون إعمالها وتفعيلها وتفجرها بسلاح الحق والتاريخ ونصرها آجلاً ام عاجلاً عندما تتحقق لها أسباب النصر والعلو فوق كل الإعتبارات الشخصية والدنيوية. وهي تنتقل من ذاكرة الأسلاف الى ذاكرة الورثة. والوطنية كالنظرية النسبية ، لا تقاس اعتباطاً بل يكون تقييمها تبعاً لأطراف معادلاتها وعواملها المؤثرة. وإن تم إغفال عواملها تصبح عنداً وطنيا أجوفاً ومفرغاً من الوطنية وقاتلاً لصاحبه. والوطنية فعلٌ على الأرض لا قولٌ بعيد التحقيق والمنال في زمن معاندٍ ومجافٍ لذلك ، وهي ليست مكابرة وتحدٍ لا يملك مقومات النجاح. إن وطنية الفلسطيني نظرياً هي شحنات خلقية أزلية كامنة في داخله ، ولا يمكن لأحدٍ أن يزايد عليها ، ولن تجد فلسطينياً واحداً لا يحمل بداخله خارطة فلسطين التاريخية من البحر الى النهر ، ولا يختلف فلسطينيان على ذلك باختلاف الفصائل والتنظيمات ، ولكن الإختلاف على الإستراتيجية والتكتيك للوصول الى الهدف ، وتلك هي المعضلة بعينها ، وهذا هو سر قلة منجزاتها التي كادت أن تصل الى درجة العقم في وقتنا الراهن ، وادى الى جمود القضية وتجمدها ، وأفولها عن المسرح الدولي ، وتسليط الأضواء عليها كقضية إنسانية لا قضية وطنية ، وتحويلها من قضية وطن الى قضية لقمة عيش ، ومن قضية تهجير واستيطان الى قضية البحث عن أوطان بالتبني والتجنيس ، والتركيز على الخلافات الداخلية لمكونات الشعب الفلسطيني بين قطبيه الرئيسين. لترسيخ فكرة غياب الطرف القادر على تمثيل هذا الشعب ، لقيام كيان له على أرضه. وإظهاره مشرذماً ومنقسماً على نفسه لا يستحق وطناً ودولة. وكل ذلك مرده الى غياب الوعي السياسي عن الأقطاب الرئيسية اللاعبة في الساحة الفلسطينية ، وعدم التخلص من أطرٍ حركية ضيقة لا تخدم الوطن والمواطن. وعدم القدرة على الخروج من هذا المأزق الخانق والمنعطف التاريخي الذي يعصف بمسيرة القضية الفلسطينية ويهددها بالتصفية والتدحرج الى فخ ومخططات الأعداء الخبيثة والماكرة.

كفانا ضحكاً على الذقون بالتصريحات المتوافقة اليوم والمتناقضة غداً ، كفاناً تبشيراً بحكومة وحدة وطنية يبدو أنها ستولد معاقة للصراع على مراكز القوى فيها.لقد مللنا من تناقضاتكم على شاشات التلفزة ، ومللنا من شخوصكم المزمنة والمنتهية الصلاحية ، فلتفسحوا مجالاً للعقلاء في هذا الوطن ، وكفى إضاعة للوقت في جدل بيزنطي عقيم ، فالتاريخ لا يرحم والوقت كحد السيف. - مفتاح 27/11/2006 -