اعتدنا النظر فقط للعامل الخارجي في أزمتنا بدون النظر للعامل الداخلي، رغم الترابط الوثيق فيما بينهما. كان تضخيم البعض للعامل الموضوعي ينطوي على انحراف سياسي ليس أقله تبرير الضعف والتهاون والتراجع وإسقاطه على الخارج، أما تضخيم العامل الذاتي فكان انحرافاً يعكس إرادة مغامرة وتطرفاً موصولاً بنوع من اليوتوبيا. نحن نتعرض لحصار اقتصادي شامل، وتفرض علينا عزلة سياسية دولية وإقليمية وعربية لم يسبق لها مثيل. وتُشن ضدنا حرب تدميرية هدفها تفكيك بنية السلطة والمجتمع من أجل فرض حل البوندوستونات العنصري. طبعاً الذي يقود العدوان دولة الاحتلال الإسرائيلي والذي يقود الحصار الولايات المتحدة، ولا يحتاج هذا لقدرة ابداعية في الاكتشاف. ربما نتفق جميعا أو بأكثرية ساحقة على هذا التشخيص. غير أن هذا يشكل نصف المشكلة، وعلينا البحث في النصف الثاني، فبدون رؤية النصف الآخر أو دور الذات لا يمكننا معالجة المشكلة ولا مقاومتها ولا حتى التخفيف من وطأتها. والنصف الثاتي هو العامل الذاتي ممثلاً بالحكومة الحالية التي مضى على تشكيلها نصف عام وعلى انتخاب قاعدتها في المجلس التشريعي ثمانية أشهر.

قبل مناقشة دور الحكومة من المهم التنويه لتقليد خاطئ في العلاقة بين السلطة والمعارضة أو بين الاتجاه المركزي والاتجاه المعارض في التجربة الفلسطينية. المعارضة في كلا الحالين لا ينبغي ولا يجوز ان تضعف سلطتها او قيادتها لمصلحة الخصم المشترك، الإضعاف وكسب النقاط من المفترض أن يصب في مصلحة المعارضة والتغيير الداخلي فقط، إلا في حالة واحدة هي اندماج مصالح السلطة أو القيادة بمصالح عدو الشعب الخارجي وتحولهما الى عدو واحد. في هذا المجال ارتكبت معارضتنا العتيدة أخطاء عديدة، فقد جرى إضعاف سلطة "أوسلو" من قبل معارضتها الإسلامية لمصلحة دولة الاحتلال التي ازدادت تشدداً إبان المفاوضات على الانسحاب في المرحلة الثانية عن طريق موجة العمليات في العمق الاسرائيلي ضد أهداف مدنية، وكان يمكن لتنظيم موجة العمليات ضد أهداف عسكرية في الضفة والقطاع إضعاف سلطة الاحتلال لمصلحة سلطة "أوسلو" ولمصلحة المعارضة كتحصيل حاصل. وساهمت موجة العمليات في العمق الاسرائيلي وضد أهداف مدنية ايضا بتقويض السلطة من خلال اجتياح المدن وفرض قبضة الاحتلال وتوجيه ضربات شديدة لبنية المقاومة على اختلاف انتماءاتها. اليوم لا ينبغي تكرار الخطأ ذاته من قبل المعارضة الجديدة ضد السلطة الجديدة. نماذج من نوع حزب الله اللبناني الذي أتقن فن التعاطي مع المعادلة الداخلية، والحركة الاسلامية المغربية التي تقدم حسابات دقيقة لموقع المغرب وقدرته على احتمال التغيير الداخلي الذي تستطيع الحركة الاسلامية احداثه، ونموذج حزب اكيلو القبرصي الذي يسيطر على البرلمان ويمتنع عن تشكيل الحكومة لأن مصلحة البلد لا تحتمل.

يجوز القول لا جديد فيما يتصل بالعدوان والعقوبات الاسرائيلية ضد الشعب الفلسطيني إلا من زاوية العيار الثقيل، ولا جديد في سياسة الانحياز الأميركي عن ظهر قلب لاسرائيل، أما المواقف الاوروبية والروسية والعربية والإسلامية التي دخلت دائرة الاصطفاف ضد الشعب الفلسطيني أو خرجت من دائرة تأييده فتعتبر متغيراً خطيراً لا يمكن القفز عنه ببساطة، لأن قضيتنا تعتمد أساساً على ميزان قوى سياسي يعطي الغلبة والتفوق للقضية الفلسطينية في مواجهة التفوق العسكري الساحق لاسرائيل. نحن لا نستطيع ان نعيش في عزلة خارجية كاملة وداخل قبضة الاحتلال الحديدية الماضية في تفتيت بنيتنا وطاقتنا، ولمن يتشكك في هذه المقولة فليقدم لنا مثلاً واحداً على انتصار وصمود حركة تحرر واحدة بدون دعم وتحالفات خارجية بدون مستوى من الحماية الدولية وبدون تأمين المقومات الضرورية للمقاومة والصمود. من تجربة فيتنام التي كانت الصين الشعبية تخصص لها عشرة آلاف عامل صيني لاصلاح سكة الحديد التي تتعرض للقصف الأميركي على مدار الساعة، وهذا غيض من فيض المساعدات اللوجستية عدا العسكرية. الى تجربة حزب الله الذي وفر مقومات هائلة لصمود الشعب اللبناني عدا عن الدعم العسكري واللوجستي الذي وفره الحلفاء بسخاء ويسر .

في باكورة عهد حكومة "حماس" جرى التعويل على الدعم السياسي والمالي العربي والإسلامي، ولم يمض شهر واحد حتى تبخر الوهم وانتهى الى أن قرار الدعم العربي والاسلامي مرتبط بالقرار الاميركي والدولي، وجرى التعويل على الدعم الايراني ولم يتحقق منه شيء، حتى الوعد الايراني بتقديم مئة مليون الذي قدم لوزير الخارجية لم ير النور. ولم تتعهد ايران بإعادة إعمار قطاع غزة الذي دمر بنيته التحتية الاحتلال كما تعهدت بإعمار لبنان. تراجعت الوعود الدولية عن تحريك العملية السياسية وتطبيق الخارطة، توقفت مشاريع البنية التحتية بعد الانسحاب الاضطراري من قطاع غزة، وتوقف الاستثمار الداخلي والخارجي، وتوقف الدعم الخارجي للسلطة، وتم حجب عائدات الضرائب بطريق القرصنة. وجرى تجديد الالتزام بالتهدئة ووقف أعمال المقاومة. ولم تتبق لنا إلا حالة من الاحتراق الداخلي في ظل عملية سياسية وتنموية متوقفة تماماً، ومقاومة متوقفة إلا من بعض الردود. في هذه الحالة بقي وضع الحكومة على حاله، ولم توضح لشعبها الذي منحها الثقة، ما هو السبيل للخروج من الأزمة. كيف يقاوم الحصار ويخرج من العزلة وتخلص من العقوبات، وما هي الخطة والمهام المطروحة والمدى الزمني المتوقع لتحقيقها، ولماذا وقعت الحكومة في تقديرات خاطئة وخيالية ولماذا لا يتم تصويبها.

للاسف اختارت الحكومة أسهل الطرق وهي رفع الشعارات العامة "الجوع ولا الركوع" "لا للتنازل عن الثوابت الوطنية" لا للمؤامرة التي تستهدف الحكومة". لا أحد يختلف مع الحكومة على رفض الركوع والتمسك بالثوابت الوطنية وبحق الحكومة في البقاء. وفي الأساس لا يوجد من يستطيع التفريط بالحقوق والثوابت الوطنية لانه سيعزل فورا ويفقد شرعيته الفلسطينية، إلا إذا كانت الثوابت تحرير فلسطين من الماء الى الماء. إن عدم وجود طرف فلسطيني يقبل بالمشروع الاسرائيلي الكولونيالي، اكتشفه الاحتلال في وقت مبكر ودفعه لرفض الشراكة الفلسطينية وطرح الحل من طرف واحد، ولا يغير من هذه الحقيقة وجود عناصر متهافتة سياسياً تحاول اللعب على الحبال على هامش العملية، لأن الاتجاهات الأساسية متمسكة بالثوابت لحسن حظ الحكومة.

وإذا جرى تحييد الثوابت الوطنية فلن يجد السيناريو الحكومي لحل الأزمة أي عنصر مقنع، وخاصة لجهة انتظار الفرج بمعزل عن خطة ومهمات ومدى زمني. إن مطالبة المواطن تحمل الأعباء بدون حوافز حتى معنوية وبدون أمل حقيقي بالحل لن تؤدي إلا الى المراوحة في المكان. إن أي مقارنة بين البرنامج الانتخابي لحركة حماس الذي تحول الى برنامج للحكومة وبين البرنامج التطبيقي لحكومة "حماس" ستصل الى نتيجة صادمة. ولم يعد الجواب الجاهز أن المؤامرة هي التي حالت دون تطبيق البرنامج مقنعاً، لأن أي برنامج يستمد نجاحه من القدرة على التطبيق أخذاً بالعوامل التي تمكنه من ذلك، أما البرنامج المنعزل عن الشروط الواقعية فسيبقى محلقاً في السماء.

بدأ الإضراب الذي يعبر عن أزمة حقيقية مضمونها سياسي بامتياز، وقيمة الاضراب الفعلية تتحدد بالقدر الذي تستطيع فيه المعارضة والسلطة تلمس المخرج السياسي الحقيقي للازمة الفلسطينية الاخطر في تاريخ الشعب.