متى، في "الحوار" مع "الآخر" الذي هو "كل مَنْ هو ليس أنا"، يمكن ويجب وَقْف الحوار والامتناع عنه؟ عندما يأتيكَ "الآخر" طالبا الدليل على وجود النهار، فتجيء به إلى "النهار"، وتقول له أُنْظُر هذا هو، فيُصِرُّ، مع ذلك، على طلب الدليل. في حوارٍ مع سائلٍ، أو متشكِّكٍ، أو معارِضٍ، من هذا النمط يمكن ويجب أن يتوقَّف الحوار، فلا يصحُّ في الإفهام شيء إذا ما احتاج النهار إلى دليل. باستثناء ذلك، يمكن ويجب أن يستمر الحوار.

"الأزمة"، على ما أراها، إنَّما تكمن، في المقام الأوَّل، ليس في "الحوار" في حدِّ ذاته، منطقاً وأسلوبا وشروطا، وإنَّما في رفض الإسلاميين المتزمتين من ذوي النفوس الكبيرة والعقول الصغيرة الاعتراف بوجود "الآخر"، وبـ "حِّقه في الوجود". أمَّا لو اضطررتهم إلى أن يقولوا بغير هذا الذي يضرب جذوره عميقا في عقولهم ونفوسهم فسوف تراهم يَفْهمون "الآخر"، الذي يعترفون له بـ "حق الوجود"، على أنَّه المُخْتَلِف عنهم، والمخالِف لهم، في كل ما لا يَضُرُّ ولا يَنْفَع. هذا "الآخر" إنَّما يشبه معارِضاً يُعارِضهم في "سُنَن دخول الحمَّام والخروج منه"، فهناك من يقول بدخوله بالرجل اليمنى، وهناك من يقول بدخوله بالرجل اليسرى. مع "معارِضٍ" كهذا تراهم يَسْتَنْفِدون جهدهم ووقتهم في حواره والسعي في إقناعه بأنَّه على ضلال، فإذا اقتنع ازدادوا اقتناعا بحيوية وقوَّة فكرهم، وإذا لم يقتنع وظلَّ متشبثا برأيه قالوا في فخر وحبور: هذه هي "تعدُّديتنا الفكرية التي ليس من نظير لها!".

هؤلاء المتزمتين، الذين يمكن أن ينتهي بهم سعيهم إلى إلغاء "الآخر" إلى "الانتحار"؛ لأنَّهم كالنار إذا لم تَجِد شيئا تأكله أكلت نفسها، إنَّما يضربون صفحا عن حقيقة في منتهى الأهمية الفكرية والتاريخية هي أنَّ الإسلام ذاته، أي الفكر الإسلامي، قد نشأ وتطوَّر في الحوار، وبالحوار، مع "الآخر"، الذي كان "مُشْرِكاً"، أو "كافِراً"، أو يدين بديانة أخرى. وكانت مخاطبة العقل، أي عقل "الآخر"، هي الوسيلة المتَّبعة، على وجه العموم، لنشر الإسلام، أي لجعل الفكر الإسلامي الجديد يتغلَّب في داخل العقل على الفكر الآخر القديم، فالعقل هو وحده الذي لا يُفْتَح بحدِّ السيف.

عندما أضْطَّر إلى محاورة إسلاميين متزمتين أعْلَم أنني لا أحاوِر عقلا حرَّاً طليقاً، فعقولهم إنَّما هي العقل الإنساني المُثْخَن بجراح "المُسلَّمات"، التي يتَّخِذونها دائما دليل إثبات أو نفي لقضية ما مع أنَّ حقائق الحياة التي في متناول كل عين تُبْصِر وعقل يَفْهَم تتحدَّاهم أن يقيموا الدليل المُقْنِع على أنَّ مسلَّماتهم هي حقَّا مُسلَّمات، أي مستوفية لشروط مُسَلَّمة من قبيل "باريس هي عاصمة فرنسا".

إنني لا أعترض على أنَّ لهم الحق في أن يفهموا ما يستبد بعقولهم من أفكار على أنَّها مُسلَّمات.. لا أعترض على حقِّهم هذا ولو مارسوه بما يجعلهم يَظْهرون على أنَّهم مؤمنون بأنَّ "الجزء أكبر من الكل"، وبأنَّ "الحب الأفلاطوني يُنْجِب أطفالا"، وبأنَّهم ينحدرون من سلالة مَرِّيخيَّة".

لا أعترض؛ ولكن عليهم، في المقابل، ألا يعترضوا على أنَّ لي الحق في أن أُناقشهم في مسلَّماتهم، وفي أن أشكِّك فيها، وأُظْهِر تهافتها المنطقي، ومخالفتها لحقائق الواقع، فعقلي حرٌّ، وليس بـ "مستعمرة لإبليس"، ومن حقِّه أن يظل على إيمانه بأنَّ 1+1=2 حتى تُوَفَّقوا في إقناعه بأنَّ 1+1= قِرْد.

إنني أريد أن أسألهم السؤال ألآتي: هل في "الإيمان الديني" تخيير أم تسيير؟ عنهم، أجيب قائلا: "الإنسان مخيَّر، وليس بمسيَّر، في إيمانه الديني، أو في كفره". الله وهبه "العقل" الذي من خلاله يُقارِن، ويُفاضِل، ويَزِن الأمور، فإمَّا أن يتوصَّل إلى "الإيمان الديني" وإمَّا أن يتوصَّل إلى نقيضه. أعْلَمُ أنَّ "المصالح (الواقعية)" للبشر ليست بـ "بريئة"، فهي يمكن أن تَحْمِل صاحبها على محاربة بديهية هندسية وعلى السعي في إلغائها إنْ هي تعارضت معها. على أنَّ هذا لا يعني أنَّ الذي له مصلحة في محاربة بديهية من قبيل "الجزء أصغر من الكل" يمكن أن يُرْغِم عقله على إنكار هذه البديهية. هذا إنَّما يعني فحسب أنَّ الإنسان، في هذه الحال، يشتد الميْل لديه إلى أن يُظْهِر من المُعْتَقَد ما يُوافِق مصالحه، وما يُضاد، في الوقت نفسه، عقله، أي كل ما هو مُقْتَنِع به.

إذا قُلْنا بهذا "التخيير" فَلِمَ نجتهد بعد ذلك في إفراغ "التخيير" من معانيه الحقيقية، فنقول، على سبيل المثال، إنَّ هذا الإنسان لم يَخْتَر نقيض "الإيمان الديني" اختيارا، وإنَّ عقله الذي أحكم إبليس قبضته عليه هو الذي حَمَلَه على الكفر، أو ما شابه؟!

الله وهب الإنسان العقل وهو يَعْلَم علم اليقين عواقب استعماله لعقله، فالله ليس كأنظمة الحكم العربية لا تَهِب شعوبها ومجتمعاتها من الديمقراطية والحرِّيات العامَّة إلا المحسوب والمضمون العواقب.

حتى إبليس سمح الله له بمحاورته وبالاعتراض على مشيئته.. وكان حوارا عقلانيا هذا الذي تجرَّأ عليه إبليس، فالله خَلَق إبليس من مادة، وفي طريقة، جعلته يعتقد بأنَّه يفوق آدم أهمية، فلَّما أمره الله أن يسجد لآدم أبى واستكبر، وحاوَر الله، الذي حاوره هو أيضا. ولمَّا ظلَّ على عصيانه عاقبه الله؛ ولكن "عقابا رحيما"، فلم يقطع رأسه، ولم يهدر دمه، ولم يُدْخِله في غياهب السجون. إبليس طلب أن يمنحه الله الحرِّية في أن يُفِسِد ويُجنِّد له أتباعا، فلم يَرُدَّ الله طلبه، مُقَدِّرا أنَّ في الإنسان الذي خلقه من القوى المضادة ما يكفي لإحباط سعي إبليس.

إنني لا أميل إلى فهم "النتائج الفكرية" لاستخدام الإنسان لعقله الذي وهبه إيَّاه الله على أنَّها ثمرة صراع بين المشيئة الإلهية ومشيئة إبليس. وهذا إنَّما يعني أن ننأى عن تفسير إيمان المؤمن على أنَّه ثمرة رغبة إلهية في أن يؤمن، وكُفْر الكافِر على أنَّه ثمرة نجاح لإبليس في جهده المضاد، فتفسير كهذا إنَّما يشبه التفسير لنتائج حربٍ، وكأنَّ ميزانا للقوى هو الذي يتحكَّم في الحجم النسبي للمعسكرين الأرضيين: معسكر المؤمنين، ومعسكر غير المؤمنين.

لقد وددتُ قول كل هذا حتى أوضِّح أنَّ العقل هو الذي ينبغي له أن يَحْكُم المؤمن في إيمانه، والكافِر في كفره، وأنَّ الفكر الذي يسعى في منع العقل من التفكير الحر هو فكر ميِّت، مميتٌ للقائلين به مهما توهَّموا أنَّهم أبناء الحياة.

الحوار الحقيقي مع "الآخر" إنَّما هو الحوار الذي ينطلق من التشكيك في ما يَنْظُر إليه كلا الطرفين على أنَّه "مسلَّمات"، فعندما آتيكَ بما أعتبره حجَّة ينبغي لكَ أن تأتيني بما تعتبره حجَّة، فعقل الإنسان لا يتخلَّى عمَّا هو مُقْتَنِعٌ به إلا إذا اقتنع بغيره، فلا إغراء ولا إكراه يمكن أن يَحْمِل العقل على تغيير موقفه. قد يَحْمِل صاحب العقل على أن يُظْهِر، في أقواله وأفعاله، خلاف ما يُبْطِن في عقله؛ ولكنَّه لن يتمكَّن أبدا من التأثير إيجابا أو سلبا في موقف العقل ذاته.

تَعَلَّموا "الحوار" مع "الآخر" مهما خالفكم واختلف معكم، وتجرَّأوا على خوض معتركه، وكونوا أهلاً لتحدِّي "الآخر" لكم، بفكره وسؤاله وشكِّه.. فالفكر الحيوي القوي يستطيع غزو "الرأس" من غير قطعها! - مفتاح 16/7/2007 -