قرار "حماس" اللجوء الى "التوكيل والإنابة"، لتجاوز الغياب القسري للـمعتقلين مِن نوابها في "التشريعي"، هو قرار على قدر كبير مِن الخطورة، وينطوي على تداعيات عدة. فعلى الأقل، وبصورة مؤكدة، فإن نواب "فتح"، وأظن غيرهم مِن نواب القوائم الانتخابية الأخرى، سيقاطعون جلسة "التشريعي" التي جرت الدعوة لعقدها اليوم، ناهيك عن أن "فتح"، كثاني أكبر كتلة في "التشريعي"، على الأغلب ستلجأ الى خطوة مقابلة للرد على خطوة "حماس"، التي تريد مِن خلالها إعادة الحياة للـمجلس التشريعي، بهدف اتخاذ قرارات للرد على ما يصدره الرئيس مِن مراسيم، ما سيزيد الأزمة الفلسطينية الداخلية، تعقيداً على تعقيد، ويزيد طين فصل غزة عن الضفة بلة. فعلى الأقل، وقبل هذه الخطوة التصعيدية لـ "حماس"، كان طرفا الصراع الفلسطيني الداخلي، يقران بشرعية الرئاسة والـمجلس التشريعي الـمُعطَّل، رغم خلافهما على أي الحكومتين هي "الشرعية"، أما بعد هذه الخطوة، وما سيتلوها مِن ردات فعل وتداعيات، فقد بات الأمر مختلفاً، ذلك أن تنازع الشرعية سيكون أعمق. واستطراداً، فقد لفت انتباهي خلو خطاب السيد اسماعيل هنية مِن التأكيد على شرعية منظمة التحرير الفلسطينية، حتى ولو بالصيغة الـمعوَّمة التي درجت "حماس" على استخدامها.

ففي معرض حديثه عن الشرعية الفلسطينية، اقتصر مؤسساتها على الرئاسة والـمجلس التشريعي، بينما أكد أن حكومته الـمقالة (حكومة الوحدة الوطنية) هي الحكومة الشرعية. وكان يمكن تفسير إغفال ذكر منظمة التحرير بالسهو، (مثلاً)، لكن ترافق ذلك مع قرار العمل بـ "التوكيل والإنابة"، يشير الى أن الأمر (على الأغلب) مقصود، وليس سهواً. وهذا، فضلاً عن قرار إعادة الحياة للـمجلس التشريعي عبر "التوكيل"، يشي بقرارات تصعيدية، ستفاقم الـمأزق الفلسطيني، وتدفعه نحو الـمجهول خطوات أخرى الى الأمام، خاصة بحسبان، ما صدر مؤخراً مِن تصريحات عن امكانية سحْبِ ما جرى في غزة على الضفة.

بلى، إن الرياح التي تهب مِن غزة، فضلاً عما سيقابلها في الضفة، تشير بوضوح إلى أن الساحة الفلسطينية مقبلة على الـمزيد مِن عوامل التفكك والانقسام، الذي لا ينكر أحد، وبضمنهم طرفا الصراع، أنها في غير صالح الفلسطينيين، بل ويعتبرها الجميع بمثابة ربح صافٍ للاحتلال ومخططاته الرامية لتصفية القضية الفلسطينية، عبر استثمار هذا الانقسام، خاصة مع ما تحظى به السياسة الإسرائيلية مِن دعم دولي، أميركي أساساً، دون نسيان ما تعيشه الحالة الرسمية العربية مِن تفكك وعجز وارتهان. على أية حال؛ وبصورة مجردة؛ وخارج حالة الانقسام الداخلي، الذي يأتي قرار "حماس" الأخير في سياقه، فإنه لا يجوز الجدل حول ضرورة رفض إخضاع العمل السياسي الفلسطيني ومؤسساته لإجراءات الاحتلال القمعية، بل أكثر مِن ذلك، فإن تحدي هذه الإجراءات، وإيجاد الأساليب الكفيلة بتجاوزها، هو مطلب وطني، يجب ألا يكف الفلسطينيون عن الإبداع فيه، بما يخدم حقهم الـمشروع في ممارسة حياتهم السياسية بعيداً عن سطوة الاحتلال، التي لن تتوقف إلا بزواله.

استطراداً، فإن تحدي الفلسطينيين لإجراءات الاحتلال أمر ليس بالجديد، بل إن تجربتهم على هذا الصعيد واسعة وغنية. ومِن باب التدليل لا الحصر، لعل الجميع يتذكر كيف تحدى الفلسطينيون، موحدين، قرار الاحتلال حرمانهم مِن ممارسة حقهم الـمشروع في التعليم، وذلك عبر مواصلة العملية التعليمية في صفوف "التعليم الشعبي"، كبديل مؤقت عن صفوف الـمؤسسات التعليمية الرسمية، التي طالـما قامت سلطات الاحتلال بإغلاقها، وخاصة إبان فترة انتفاضة العام 1987.

قصدت القول: إن ابتكار الفلسطينيين لأية أساليب عملية، مِن شأنه كسر سطوة الاحتلال على مجريات حياتهم، هو أمر ليس مرحباً به فقط، بل يجب عدم الكف عنه أيضاً، إنما بما لا يقود، بوعي أو مِن دونه، الى عكس الهدف الوطني الـمتوخى. في السياق؛ ومِن باب أخذ العبرة، فإن ولادة أفعال البشر لعكس ما يريدون، هي مسألة معروفة، وحولها يقول هيغل في كتاب (فلسفة التاريخ): "إنه في تاريخ العالـم ينتج مِن أفعال البشر شيء غير الذي أرادوه، شيء مختلف عما يعرفونه أو يريدونه". وأظن، وليس كل الظن إثماً، أن قرار "حماس" آنف الذكر، ينطوي على شيء، حتى لا أقول كثيراً، مما أشار اليه هيغل، أما لـماذا؟!!!

بداية أعتقد أن مِن نافلة القول الإشارة الى أن الجدل حول قرار "حماس" يجب ألا يدور حول: هل اللجوء لإجراء توكيل النواب الـمعتقلين لغيرهم قانوني أم غير قانوني؟، ذلك أن الجميع يعلـم تماماً، أن الأزمة الفلسطينية التي أفضت بالنتيجة الى فصل غزة عن الضفة، لـم تنجم، ولـم تتفاقم، ولـم تصل الى ما وصلت اليه مِن مأزق مستعصٍ، بسبب خلاف حول التفسيرات القانونية، التي على أهميتها كمبدأ، غير أن الجدل حولها لن ينتهي، وسيجد كل طرفٍ مِن أطراف الصراع الداخلي، فقهاء قانونيين لدعم موقفه، حتى لو جئنا بمالك الذي "لا يفتى وهو في الـمدينة". نعم، الأزمة الداخلية الفلسطينية ليست قانونية، بل سياسية مِن الفها حتى يائها. وبالتالي، فإن محاولات تغطية شمس هذه الحقيقة الـمُرة بغربال السجال القانوني، لا يعدو أكثر مِن هروب للأمام، بل هو شكل مِن أشكال ذر الرماد في العيون، ولن يفضي إلا الى تكريس الأزمة وتعميقها، عبر تجاهل أسبابها الحقيقية، بغرض التملص مِن مواجهة الاستحقاقات الـمطلوبة لـمعالجتها معالجة مسؤولة وجادة، تقود الى إعادة السيطرة على تداعياتها، على طريق وضع حدٍ لها، بما يعطي الفلسطينيين أملاً في الخروج مِن مستنقعها، يدرك الجميع أن الاستغراق فيه، ينذر بانهيار مشروعهم الوطني، وتبديد طاقتهم ومنجزاتهم، ووضع مصيرهم ومستقبلهم في مهب ريح اضافي، هم في غنى عنه، بالنظر الى ما يهب على سفينتهم الـمحاصرة مِن رياح عاتية، بالكاد يقوون موحدين على مواجهتها، والصمود في وجهها. عليه، فإن مواصلة طرفي الأزمة الداخلية الفلسطينية، هنا في رام الله، وهناك في غزة، الغطس في لعبة الفعل ورد الفعل، وآخر فصولها قرار "حماس" اللجوء الى آلية "التوكيل"، يشير الى أنه لا يوجد في الأفق ما ينبئ بوجود إرادة قيادية فلسطينية جادة للتغلب على الأزمة، بما يشي برهان أطرافها على تدخل الأطراف الخارجية، عربية كانت أم غيرها، بل يبدو أن هنالك أوساطاً قيادية نافذة تعتقد أن كسب الـمزيد مِن أوراق القوة في اللعبة الداخلية، سيؤدي الى كسب الأطراف الخارجية، وخاصة العربية منها. والسؤال: ترى، هل هذا تفكير منطقي أو واقعي؟!!! على مَن يفكر بهذه الطريقة أن يعي أن الشرط القومي للقضية الفلسطينية، يعيش أسوأ حالاته، وأن أطرافه الرسمية مثخنة بما لا يحصى مِن جراح التفكك والعجز والارتهان والتشرذم والخلاف، وصلت حدَّ أن تمر عملية احتلال العراق والعبث في وحدته ومقدراته ومصيره، دون أيِّ تحرك رسمي عربي جاد وحقيقي، يتصدى لبؤس الوضع العراقي، بما ينتشله مِن وهدة ما يعانيه مِن تفتيت مذهبي دامٍ، سيكون له انعكاساته السلبية الاستراتيجية، لا على مستقبل العراق وحده فقط، بل على مستقبل كافة الدول العربية أيضاً. وكذا الحال فيما يتعلق بلبنان، الذي تتفاقم أزمته الداخلية يوماً بعد يوم، بينما لا تقوم السياسة الرسمية العربية بما هو جدي وفاعل مِن الخطوات الكفيلة بإبعاد شبح شق لبنان وإدخاله في أتون حرب أهلية كارثية، وهو البلد العربي الذي لـم يبرأ كلياً مِن ويلات حرب أهلية سابقة، كلفته والقضية الفلسطينية والعرب كثيراً.

خلاص الفلسطينيين مِن أزمتهم الداخلية بيدهم، وعلى مَن ينتظر الخلاص مِن الخارج، إمعان النظر في مأثور القول: "لن يأتي الترياق مِن العراق إلا والـمقروص قد مات". - مفتاح 7/11/2007 -