لم يسبق لي أن تمت استضافتي بدعوة رسمية للوقوف ما يقارب الساعتين في حضرة الشمس الحارقة على طريق المحطة. المكان: جميل كما هي بلادي.. و الزمان: مغتصب كباقي أزمان عباد بلادي.. و المدعوون: عابرو طريق كباقي سكان بلادي.. والداعي: لم يعرف له التاريخ حضارة وأبت أن تلملمه جغرافيا الكون وما تزال تقاوم أسلاكه الشائكة حدود بلادي.. والوليمة: شباب بلادي!
تم دعوتي مع ما يقارب حمولة "فورد" للنزول على الحاجز ... أسباب الدعوة كانت مجهولة في البداية ولكن حالما بدأ أهل الحاجز بالحركة العشوائية والاعتباطية معا .. هجم "على قولة عمنا الصحاف " العلوج ممسكين بصورة لوجه شاب وصلت إلى أيديهم عبر "فاعل خير "... وللمصادفة كان الشاب الذي استقل معنا تلك الحافلة يشبه إلى حد كبير ملامح ذلك الوجه الرجولية وعنفوان شاب لم يتجاوز العشرين من عمره وحدة في نظراته تعكس طبيعة جبال بلادي الشامخة دائما وأبدا.."قال :هويتك ....أعطاه اياها ..تمعن به ..اتصل بغيره :وجدناه...تتسارع الجبات والهمرات ...توقف حركة السير بالكامل وتغلق جميع الطرقات.. انزل ..شحطوه إلى مكان آخر ليتفحص الوليمة طامع آخر...يذهب معهم وتلحقه عيوننا من خلال زجاج النوافذ والكل يدعو "يا رب ما يكون هوه المطلوب .. يا حرام الله يعينه ع رعبته .. ما تخافوش هدا بحاله ما عليهوش اشي...الله يعين امه.. صحيح ابن مين هوه .. ولك مش عارفه خواله دار فلان ..بتعرفي قصاصة الشعر بتكون خالتو ...أها عرفتو..." في هذه الأثناء لم ينقطع نظري عن الشاب الذي حالما بدأ بالرد على ذلك الشيء حتى بدأ بدفعه ولطمه بضربات متتالية ...وسرعان ما كبل يده و ساقه إلى تحت شجرة الخروب التي طالما استضافت أمثاله من المحتجزين وذلك لموقعها الاستراتيجي على مفترق الطريق !
وقد حان الآن دورنا و" ع قول أجدادنا : إجاك الموت يا تارك الصلاة " ..توجه للسائق وأمره بتفريغ الحمولة... نزلنا ... وحكولنا صفوا تحت العمود ...أخدوا الهويات وكملوها وأخدوا البيليفونات .. من ايش خايفين مش عارف" ..ما شغل نفكيري في تلك اللحظة هو ما يحمله مثل هذا الموقف من جمالية التناقض ....ففي غمرة الحدث وشدة التعب من طول الوقوف تحت أشعة الشمس إلى أن النساء بدأن حفلة تعارف خفيفة دم" ...مين حضرتك؟ أنا مرت فلان ..مش هذا جوز فلانة ...أه ما هي ضرتي ! "والأخرى "هسه جوزي بنجن إزا ما رديتش ع البيليفون وبقول أبصر وين راحت المرة " وأحاديث طويلة دامت على طول الوقفة والأمر ما مر به السائق المسكين فقد فتشوا السيارة وقلبوها رأسا على عقب وكل من أحاط بنا من بعيد يواسي "الله بعين بالمال ولا بالعيال ...ولا يهمك كله تحت اجرك". في خضم الحوار استدعى أحد الجنود السائق حتى يسقي ذلك الشاب الذي ظل يحاول التغيير من جلسته ويتقلب في جميع الاتجاهات ...فيديه المكبلتين شلت حركته فأخذت على عاتقها باقي أعضاء جسمه مسؤولية التململ في المكان حتى يشعر بالقليل من الراحة.ذهب السائق وأسقى الشاب القليل من الماء وإذا بشخص معنا يدلي بتعليق "يللا هاي نقطة إنسانية عندهم...."
بعد ذلك الوقت المستقطع عنوة من نهارنا ...أعط الجنود إشارة للسائقين بالتحرك وبدأ الشارع ينبض بالحركة من جديد وكل من مر بنا من السيارات أخذ بالتمعن فينا فنحن مميزون "وما حدا قدنا" لكوننا مدعوون بقرار رسمي وعلى فكرة فك رباط الوليمة، فقد حدث خطأ فني.... والدعوة مفتوحة لضيافة الحاجز ....زمن الدعوة "سربرايز" والمكان قارعة أو مفترق طريق على ارض بلادي . - مفتاح 13/9/2007 -