نقلت احدى وكالات الانباء يوم ٧/٤/٢٠٠٨ عن احد مسؤولي حركة حماس في قطاع غزة قوله: «نحذر من انفجار وشيك وغير مسبوق»، وبدا وكأنه يتحدث بوتيرة الناطقين العسكريين الملثمين، حيث تابع القول: «ان كل الخيارات مفتوحة لكسر الحصار»، ثم رفع من درجة التحذير عندما قال: «اتوقع ان ما هو قادم اكثر مما حدث في السابق»، وما دام يشير الى ما حدث في السابق فيبدو وكأنه يعني بحديثه مصر مع من يعنيهم من الاخرين.
على كثرة ما تدفق شلال الدم الفلسطيني منذ اكثر من سبعين عاماً، في ثورة 1936، وما تلاها، في تضحيات بشرية خلال نضاله العسكري، الا انه لم يستطع ان يتعامل مع الوقائع السياسية الصلبة والمتشظية بحوافها الحادة ورؤوسها الابرية، فلذلك ظل يخسر على هذا الصعيد.
العلاقة الاستراتيجية بين مصر وفلسطين تضرب بجذورها في اعماق التاريخ، فطريق صلاح الدين الذي انطلق عبره لمواجهة الصليبيين، كان قبله طريق تحتمس الثالث الذي بنى امبراطورية من النيل الى الفرات، وبعده كان طريق قطز الذي هزم التتار في عين جالوت، وفي التاريخ القريب كان طريق ابراهيم باشا الى كوتاهية وتهديد استنبول، والكثيرون من عساكر ابراهيم باشا طاب لهم المقام في فلسطين فأقاموا في قراها ومدنها، ومن بين احفادهم اليوم كثير من الذين اصبحوا لاجئين فلسطينيين.
منذ ان دخل الجيش المصري الى فلسطين في 15/5/1948، كان رئيس الوزراء محمود فهمي النقراشي باشا، حريصاً وصارماً للابقاء على السيطرة العسكرية والسياسية في المناطق التي يتواجد فيها الجيش المصري في فلسطين بيد الحكومة المصرية. لذلك امر بعد دخول الجيش الى فلسطين بترحيل المتطوعين غير النظاميين من اعضاء جماعة الاخوان المسلمين الى مصر، خشية ان يعود هؤلاء للانقضاض على الحكم في مصر، ولذلك استمرت ملاحقتهم في مصر من قبل جهاز «البوليس السري»، او ما يسمى اليوم بـ «امن الدولة».
اما الاجراء الاخر الذي اتخذه النقراشي باشا، فكان على الصعيد الفلسطيني، ففي 28/9/1948، استطاع الحاج امين الحسيني مغادرة القاهرة سراً والوصول الى غزة بمساعدة ضباط من الاخوان المسلمين والضباط الاحرار لانه كان ممنوعاً من مغادرة القاهرة. وفي 30/9/1948 اجتمع المجلس الوطني الفلسطيني الذي لم يتجاوز اعضاؤه «90» عضواً في مدرسة الفلاح في حي الدرج. وفي 1/10/1948 اعلن المؤتمر تشكيل حكومة عموم فلسطين التي لم تكن لها سيطرة على الارض ولا تملك المال ولا السلاح. وبعد بضعة ايام قام الجيش المصري بأمر من النقراشي باشا بترحيل الحاج امين الحسيني الى القاهرة، لانه لا يريد في المناطق الفلسطينية التي يسيطر عليها الجيش المصري اي قوة عسكرية او سلطة سياسية اخرى.
ان حركة حماس الجهادية الاسلامية الفلسطينية، ككل الحركات والاحزاب العقائدية في هذه الدنيا، لا ترى العالم ولا تفسر احداثه الا من خلال منظارها الخاص. ولدينا قدر من العقل ندرك به ان حماس لن تكون غير حماس، ولكننا نحاول ان نذكرها بأن هناك دنيا اخرى غير الدنيا التي تراها، وان هناك مليون ونصف مليون مواطن فلسطيني لهم الحق في توفر وسائل المعيشة والحياة الامنة في قطاع غزة مثل بقية البشر..
في متابعتنا لمسلسل العلاقات الفلسطينية-المصرية المعاصرة، نرى ان منظمة التحرير الفلسطينية كانت في العام 1964 انتاجاً مصرياً خالصاً، حيث ظل احمد الشقيري رئيس المنظمة، واعضاء لجنتها التنفيذية تحت العباءة المصرية، وعندما هبطت اسهم الطاقم القديم مع هزيمة 1967، وارتفعت اسهم حركة فتح، منحت مصر المنظمة لفتح، وظلت فتح تحت العباءة المصرية، وامتنعت عن النشاط العسكري بشكل تام من الحدود المصرية. وفي المرات التي حاولت فيها فتح الخروج من تحت العباءة المصرية، فإنها غادرت الاردن 1970 مع مبادرات روجرز، وفي لبنان 1975 مع نشاط كيسنجر، واقتلعت من لبنان وحدثت مذابح صبرا وشاتيلا 1982، بعد توقيع معاهدة السلام المصرية-الاسرائيلية 1979. وعندما ادركت فتح من خلال عمق التجربة، وطول المراس حدود الافاق في وطن تحيط به ثلاث دول متعاهدة على السلام هي مصر والاردن واسرائيل، فإنها تحاول انقاذ ما يمكن انقاذه بالمفاوضات.
ان حركة حماس تشكو من الحصار في قطاع غزة، وشكواها حقيقية، فهناك حصار معيشي من حيث الغذاء والدواء، وهذا يطال كل سكان قطاع غزة، وهناك حصار سياسي موجه ضد حركة حماس من اسرائيل والمجتمع الدولي في معظمه، والى جانب الحصار السياسي والمعيشي في قطاع غزة، هناك اشتباكات عسكرية بين المجاهدين الفلسطينيين وقوات الاحتلال الاسرائيلية.
ولهذا الوضع المتأزم في غزة، هل هناك من حل؟
ان الحل في قطاع غزة لا يمكن ان يتحقق الا بالسلم او الحرب، وايهما لا يمكن ان يتحقق الا اذا كانت مصر شريكاً كامل الشراكة فيه، ولا يعتقد احد بأن في امكان حماس ان تدفع مصر لحرب ضد اسرائيل. كما ان حماس بحكم تحالفاتها الاقليمية مع سوريا وايران، وبحكم تعبئتها العقائدية لاعضائها لا تستطيع بين عشية وضحاها ان تأخذ قراراً بالسلام. ومع تعدد الخيارات السياسية الواقعية والمتخيلة، الا ان حقائق الجغرافيا وتجارب التاريخ تقول بأن على غزة ان تتأقلم مع مصر اولاً...حتى يحتفظ شعبها بهويته العربية قبل ان تتخاطفها الذئاب الاقليمية والدولية.
محمد جلال عناية-كاتب فلسطيني يقيم في الولايات المتحدة الاميركية
القدس