عمدت إسرائيل و منذ بدايات نشأتها إلى التركيز على سياسة تملك الأراضي بأية وسيلة ممكنه، فأنشأت صندوق أرض إسرائيل ( الكيرن كييمت) و رصدت الأموال الطائلة و وضعت الخطط والوسائل العديدة ، بدءا ً من سن القوانين و التشريعات و إصدار الأوامر العسكرية لاحقاً و انتهاءً بتوظيف زمرة خارجة عن الصف الوطني من سماسرة الأراضي ، كل هذا من منطلق أن فلسطين هي أرض بلا شعب و لا بد من تطهيرها من « الأغيار» و السيطرة على هذه الأراضي.
كانت بدايات السيطرة و الاستيلاء على الأرض العربية الفلسطينية من خلال أنظمة الطوارئ لسنة1945 و بالتحديد المادة 125 المتعلقة بأهلية السلطة إغلاق مناطق معينة لأهداف تتعلق بأنظمة الطوارئ، ثم جاءت القوانين المتلاحقة مثل قانون الغابات لسنة 1926 و قانون أراضي الموات - البور- لسنة1921 و قانون تسوية الأراضي لسنة 1928، قانون وضع اليد على الأراضي في حالات الطوارئ لسنة1950، قانون أملاك الغائبين لسنة 1950، و قانون سلطة التطوير سنة 1950، قانون استملاك الأراضي و التعويض سنة1953، و قانون صندوق أراضي إسرائيل لسنة1953، قانون وضع اليد المؤقت سنة 1956، قانون تقادم الزمن سنة1958، قانون أراضي إسرائيل سنة1960، قانون الأراضي سنة 1961، قانون تسوية الحقوق في الأراضي سنة1919 و قانون الاستيطان الزراعي سنة 1967.
بالطبع ساهمت نتائج المجازرالتي اقترفت في ترويع وتهجير الكثير من السكان العرب، الأمر الذي أفسح مجالاً واسعاً لتحقيق هدف سلب الأرض.
سردت وبشكل سريع أسماء القوانين الإسرائيلية المتبعة للسيطرة على الأرض، ليس بهدف الخوض بها قانونياً و لا لتفنيد مشروعية هذه القوانين أو دحضها بل : -
* لتبيان أن هناك نهجاً منظماً و مدروساً للسيطرة على الأرض و للسؤال: ماذا فعلت منظمة التحرير ، الفصائل الوطنية و الإسلامية، الاتحادات و الأطر الجماهيرية الفلسطينية لمواجهة هذه الحملات المنظمة قانونياً و إعلاميا.
أين تركزت غالبية المشاريع الإسكانية الفلسطينية الناجحة -و هي قليلة- ! ألم تسهم تلك في تفريغ الريف الفلسطيني و هجرته إما إلى الخارج أو الهجرة الداخلية من القرى إلى المدن الفلسطينية. أين و متى بدأنا بإنشاء البنية التحتية من كهرباء ومياه و مجاري في الريف الفلسطيني!
لنا هنا أن نشكر حكومات اليابان و ألمانيا لاهتمامها مؤخراً في هذا المجال في بعض المناطق الفلسطينية مؤخرا .
جاءت السلطة الوطنية الفلسطينية و كنا ننتظر تطبيق برامج تنمية و صمود تشمل كل الجغرافيا و القطاعات السكانية، للأسف و من خلال بركان الوظائف الحكومية، على اختلاف مسمياتها و مراتبها، هجر الشاب و المزارع الفلسطيني قريته و تخلى الحرفي عن حرفته ليتبوأ مركزاً و وظيفة مدير عام أو مدير أ.و.ب.و.ج. و انعكس ذلك على نمو الاقتصاد الوطني الفلسطيني و سرعان ما انكشفت آثار هذه السياسة في حالة الجوع و الانهيار الذي تعرض له الموظف حين تم قطع الرواتب بموجب سياسة عقابية شاركت بها إسرائيل و الولايات المتحدة و غالبية الدول العربية الممولة لمشروع السلطة الوطنية الفلسطينية.
مؤسساتنا الثقافية و الدينية و الاجتماعية و النقابية و حتى التنظيمات الفلسطينية هي أيضاً عجزت عن مقاومة الاستيطان فعلاً لا قولاً.
ثقافياً، و على مدار ستين عاماً من النكبة، نصيب الأرض في المنتوج الثقافي و الأدبي كان يجب إيلاء الاهتمام إليه أكثر، و التعرض لقضايا النهب و المحاسبة و العقاب بشكل ثوري صريح و جريء أكبر.
كانت الأغنية و الأهازيج الشعبية كلها للأرض، لكنها أضحت اليوم لأبو فلان و أبو علان، تمجيد هذه المجموعة أو تلك. عجزت المؤسسة الثقافية بشكل عام عن بلورة سياسة وعي بخطورة التسليم بالأمر الواقع و السير في المركب مع الآخرين، بدءاً من الاستهلاك و انتهاءً حتى بالمراسيم الحياتية اليومية، بدءاً من الطبخ و انتهاءً بالتخلي عن الزي الشعبي الوطني و وضع السلسال و الحلق...الخ.
اجتماعياً حتى عاداتنا و تقاليدنا الاجتماعية طوعناها لتستجيب لإفرازات العمل في المستوطنات الإسرائيلية، الزواج يوم السبت و الاحتفالات و الاجتماعات العائلية يوم السبت، زيارات الأقارب في المناسبات الخاصة و العامة أخذت تتأثر بتلك الإفرازات الناجمة عن العمل في العمل الإسرائيلي.
كان و لا يزال بإمكان المؤسسة الدينية أن تلعب دوراً هاماً في مقاومة الاستيطان من خلال تحريم بيع أو تسريب الأرض و حتى العمل في بناء المستوطنات، ليس فقط من خلال إصدار الفتاوى و المواقف الشرعية، بل و أيضاً من خلال تطبيق سياسة الحرمان الديني على كل من يبيع / يسرب أرضاً أو حتى يعمل في مستوطنة.
مثير للدهشة أن نرى العجز الكامل و المطلق للاتحادات الشعبية و النقابات العمالية في إثارة الوعي لردع الطبقة العاملة الفلسطينية عن العمل في المستوطنات و جدران العزل و الفصل. أنا شخصياً لم و لن أستطيع استيعاب الدمج بين الدور النقابي الوطني و قبول العمل في المستوطنات الجاثمة على صدورنا و على أرضنا لا أدري كيف هبطت علينا من السماء توليفة و معادلة القبول هذه.
في بداية السبعينات، أدركت الحركة الوطنية الفلسطينية خطورة العمل في السوق الإسرائيلي، و بدأت حركة توعية و مقاومة اتخذت أشكالاً عديدة من مقاومة مسلحة إلى الدراسات و البحث و الكتابة في هذا المجال. سنة 1980 أصدرت شخصياً بالتعاون مع زميل آخر كتاباً بعنوان « دور العمال الفلسطينيين في الاقتصاد الإسرائيلي» - العمال الفلسطينيون جيش احتياط لإسرائيل - ، صدرت الدراسة عن المكتب الفلسطيني للصحافة و الإعلام بالقدس و صدرت قبله و بعده العديد من الدراسات و الأبحاث التي تحذر من خطورة الظاهرة و ضرورة العمل المنظم لمواجهة الاستيطان، و لكن للأسف... ماذا كانت سياستنا على أرض الواقع و لغاية اليوم في مواجهة الاستيطان!! أولى مطالب الجهات الرسمية الفلسطينية عند التنسيق مع الطرف الآخر هو السماح للعمال الإسرائيليين بالعودة إلى سوق العمل الإسرائيلي!!
لم نكتف بمواصلة نفس الدور، وعدم وضع الخطط العملية الموضوعية التي تمكن المواطن الفلسطيني من التشبث بأرضه، و لكن للأسف واصلنا نفس الدور السلبي.
ذات يوم رافقني باحث أجنبي إلى إحدى قرى شمال غرب القدس، هذه القرية التي ابتلع الاستيطان غالبية أراضيها و لم يتبق سوى البيوت التي يسكنونها . التقينا العديد من المواطنين هناك وتحدثنا عن التغيرات الاجتماعية و الآثار الاقتصادية كنهب أراضيهم ثم دخلنا إحدى محلات البقالة الكبيرة لشراء شيء نشربه، هنا نزلت علي الصاعقة من خلال سؤال وجهه لي هذا الباحث الأجنبي قائلاً: انظر هل توجد سلعة عربية واحدة على الرفوف!! انظر أليست هذه السلع من نتاج المستوطنات هذه! كيف لهؤلاء السكان العرب القبول بذلك، تنهب أرضهم و يعملون في بناء المستوطنات المقامة عليها و يسوقون منتوجاتها!! أي حالة اضطراب نفسي هذه و أي حالة تناقض قيمي يا ترى!!
لم أجد جواباً شافياً للرد عليه، فلا أستطيع أن أقول له ببساطه يريدون مواصلة الحياة، لأنني لست ممن يؤمنون بذلك، فالحياة يجب أن نعيشها بعزة و كرامه لا بذل و هوان، و إلا فالموت أفضل.
أسعفتني البديهة و قلت له: في الحقيقة هناك حيرة كبيرة وسط الجميع: لماذا أصبحنا هكذا!!
أحد الباحثين الإسرائيليين قال لي يوماً: مثلما فوجئت القيادة الاسرائيلية و الشارع الإسرائيلي بحجم و قوة و قدرة و ذكاء الشعب الفلسطيني خلال انتفاضة 1987، نفاجأ اليوم بحالة الخنوع و الخضوع و اللامبالاة و سرعة التأقلم الذي يبديها هذا الشعب مع ظروفه المزرية. حين بدأت إسرائيل ببناء جدار الفصل وضعت في مخططاتها استخدام عمال أجانب قادمين من الخارج، تحسباً لمقاومة فلسطينية مسلحة و بالتالي إراقة الدماء، و لأنها تحرص على عدم إراقة الدم اليهودي آثرت استخدام هؤلاء العمال الأجانب. و كانت المفاجأة الكبرى لهم أن نسبة العمال الفلسطينيين على اختلاف مهاراتهم العملية، الراغبين في العمل و ممن عملوا فعلاً في إقامة جدار الفصل هذا فاقت كل التوقعات الإسرائيلية الرسمية منها و غير الرسمية.
ماذا فعلنا على أرض الواقع بأموال الدعم الأوروبي و أموال الصمود العربي؟! كم هي عدد المشاريع و المصانع و ورش العمل الفلسطينية التي أنشئت لاستيعاب العامل الفلسطيني بدلاً من الهجرة للخارج، أو الوقوع في شبكات الإسقاط و في أحسن الحالات قتل روح المقاومة لديه و الإحساس بالوجود من خلال الاستكانة و الاعتماد على الطرود الغذائية المقدمة التي هي في رأيي سلاح ذو حدين!.
بكل مرارة، اكتفينا نحن جميعاً على الصعيد الرسمي و الشعبي بالصراخ و العويل و التنديد و الاستنكار لأي عملية مصادرة أرض يقوم بها الجانب الاسرائيلي، و من ثم التسليم بالأمر الواقع و كأن لسان حالنا يقول لنا» لا حول لنا و لا قوة إلا بالله» والجانب الآخر يدرك ويستغل ذلك . لم نسمح لذواتنا ، الاستفادة من تجاربنا الخاطئه و تجارب غيرنا الناجحة. لم نبدأ يوماً بعملية نقد ذاتي و جريء لنهجنا، بل العكس قبلنا و تأقلمنا و اصطففنا جميعا من أجل التصريح تاركين الحبل على غاربه لأصحاب النفوس الضعيفة من سماسرة و وسطاء مشبوهين بالفرصة الذهبية ليصولوا و يجولوا و المواطن يغرق في ذله و دينه و انهيار معنوياته!!
أيها الفلسطيني لست أنت الوحيد الملام في ذلك، بل الجميع شركاء في حالة القنوط و الإذعان. إذ أن الجميع، جامعة الدول العربية، منظمة المؤتمر الإسلامي، و كل الأطر و الاتحادات الشعبية العربية و الإسلامية، مطالبة بعدم الاكتفاء بموقف الاستنكار و الإدانة، فهناك الكثير الذي يمكن فعله لوقف الاستيطان بدءاً من توظيف العلاقات الدولية و المؤسساتية و انتهاء بوضع البرامج و الحلول الواقعية، و لتكن أول خطوات المواجهة، و إن تكن متأخرة وقف الاقتتال الداخلي بين حركتي فتح وحماس و ضرورة استجابة الحركتين لمتطلبات المرحلة الحالية و تلك القادمة و إلا فليسمح لي الشاعر حين قال:
هل نسيتم أو تناسيتم أن إسرائيل قد بنيت بأيد عربية
لأقول لكم: هل نسيتم أو تناسيتم أن، المستوطنات الإسرائيلية قد بنيت بأيد فلسطينية!!
و إنني لأخشى ذات يوم بأن تصبح المطالبة بتوسيع و دوام الاستيطان للبعض حقاً ووجهة نظر مثلما أصبحت امور اخرى مجرد وجهة نظر، منطلقاً من وهم عودة هذه المستوطنات إلى الفلسطينيين كما حصل في غزة متناسين أن الرؤية الإسرائيلية حيال غزة تختلف كلياً عن رؤيتها حيال الضفة الغربية لأسباب أمنية وتوسعية واقتصادية.
د. غسان عبد الله
القدس