بين نكبة وأخرى تمضي أيامنا.
تتصدَّر النكبة حياتنا وتجللها بالسواد، وحين تتسلل فضة النهار إلى عتمة الليل، ونسترق لحظة فرح؛ تفاجئنا نكبة أخرى لتظلِّل ذكرياتنا. وفي اللحظة نفسها، التي نستفيق ونضمِّد جراحنا؛ تطالعنا نكبة نحار في تسميتها! هل هي النكبة الصغرى؟ نسبة إلى الكبرى؟ ولكن هل تكون أصغر، وهمّنا يكبر؟! هل تكون أصغر وأملنا يذبل يوماً بعد يوم؟! هل هي النكسة؟ أم الفجيعة؟ أم الكارثة؟
وحين انتعشنا بعد الفاتح من يناير عام ألف وتسعمائة وخمسة وستين، بعد انطلاقة الثورة الفلسطينية، التي اشتد ساعدها بعد النكبة الثانية، أو النكسة، وبعد أن رفعنا رؤوسنا عالياً، ومشينا في طريق العزة والنضال، وترسيخ الهوية، وحضنّا مشروعنا الوطني بمآقينا، وطاولت هاماتنا السماء؛ عدنا إلى نقطة الصفر.
عدنا إلى نقطة البداية، حين اختلطت قيمنا ومفاهيمنا وتشوَّهت، وحين رفع بعضنا سلاحه في وجه بعضنا، وحين غامت أولوياتنا، ولم نعد نعرف أي المسالك طريقنا.
يأتي شهر نيسان، من العام ألفين وثمانية، والسابع عشر منه بالتحديد؛ ليصفعنا بواقع الحركة الأسيرة، وواقع الأسيرات والأسرى، وليذكِّرنا بسجننا الكبير، في وطننا. يأتي ليذكِّرنا بنكباتنا المتتالية، وآخرها نكبة الوطن الممزَّق والمستلب. آه غزة!
وبدلاً من أن يوحِّدنا العدوان، وتوحِّدنا المذابح المستمرَّة؛ نسنّ سكين إعلامنا، ومباضع حقدنا، ونشهرها في وجه بعضنا. يختلط الحلفاء والأعداء، ولا نعود ندري من هو صديقنا ومن هو عدونا! يا الله! أيّة نكبة أكبر من هذه النكبة؟
*****
"يأتى يوم الأسير الفلسطينى هذا العام 17/4/ 2008 وهنالك ما يقارب من 11.500 أسير فلسطيني وعربي موزعين على أكثر من 25 سجناً ومعتقلاً ومركز توقيف وتحقيق فى دولة الاحتلال، وهنالك ما يقارب 360 طفلا أصغرهم ابن 3 شهور، وهنالك ما يقارب 99 أسيرة فى سجن هشارون "تلموند" والجلمة، وما يقارب 352 من الأسرى القدامى، وما يقارب 81 منهم، ممن أمضى أكثر من عشرين عاماً، و13 منهم من أمضى ما يزيد عن ربع قرن من الزمان فى السجون الاسرائيلية، واثنان أمضيا أكثر من 30 عاماً متتالية "الأسير سعيد العتبة ونائل البرغوثى"، وما يقارب 1200 من الأسرى بالحكم الإدارى، و195 من الشهداء فى السجون منذ عام 1967، منهم 48 نتيجة الاهمال الطبى، و7 فى عام واحد "2007"، بالاضافة لأسير في هذا العام". "الأسرى للدراسات".
تقرير شامل بمناسبة يوم الأسير الفلسطيني الرابع والثلاثين.
*****
"ارتفع عدد الحواجز العسكرية في الضفة الغربية من 552 حاجزاً قبل مؤتمر أنابوليس، إلى 580 حاجزاً بعده، كما يوجد 67 سياجاً على امتداد الشوارع، و28 قناة تمنع مرور السيارات، و84 بوابة مغلقة في مداخل القرى، حيث يحتفظ الجيش بالمفاتيح الخاصة بأقفال هذه البوابات، و208 سواتر ترابية، و24 مقطع شارع يُمنع المرور منها".
تقرير أعدَّه مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية في القدس
*****
داخل السجون لا يَُسمح لذوي المعتقلين بالعناق أو المصافحة، بل لا يمكنهم حتى ملامسة الأيدي عبر الزجاج. داخل السجون الإسرائيلية، يستغل الحرس "المحظورات" الثقافية لإخضاع السجينات ودفعهن إلى الاعتراف، ويمارسون كل أنواع الضغط النفسي والاجتماعي عليهن. يأخذون الرهائن، رجالاً ونساء، ويعتقلون بعض النساء، كوسيلة للضغط على آخرين، ممن هم مطلوبون للجيش الإسرائيلي، ويتحرَّشون بهن جنسياً. يقوم الإسرائيليون باعتقال النساء، على أمل الحصول على معلومات حول أشخاص آخرين، بسبب علاقة القرابة أو الصداقة التي تربطهم، ويعتقلونهن أيضاً على خلفية أمنيّة.
ويصف السجناء السابقون، الظروف اللاإنسانية التي يعيشها السجناء، والطعام الرديء، والأمراض المتفشية. يصفون الغرف الضيقة، والحمّامات القذرة. يتحدَّثون عن الإهانات والسباب والشتائم. في عسقلان، وبئر السبع، ونفحة، وشطة، وجلبوع، وعوفر.
تروي أمهات الأسرى عن رحلة عذابهن الطويلة، عند زيارة أبنائهن، يروين عن رحلة الشقاء والقهر، عبر الجبال والكثبان الرملية. يروين عن سجن شطّه وجلبوع، فيؤكِّدن أنهما أسوأ سجنين في التاريخ.
تصف الطالبة الجامعية، والأسيرة المحررة "ظريفة زيادة عمر"، من قلقيلية، حياتها في السجن، وحياة زميلاتها الأسيرات، ما يضيء لمحة عن واقع حياتهن، داخل أسوار المعتقلات الإسرائيلية المزرية:
"انتقلت إلى سجن تلموند أنا ولينا، وكنا 35 سجينة، مها عواد روّحت بدون حكم، لفّت على الغرف وروّحت، انتقلنا إلى تلموند، وصلنا المغرب، كان تفتيش للمخابرات، وصار يحكي: انه إحنا في السجن، وصاروا يتخوّثوا، دخلت على السجن، غرفة أنا وسها ومريم، وكمان عبير وندى. الغرفة وسخة، الحمام زبالة، جيت أغسل؛ فش مجال تشلحي البوت، ظليت لابسة من الوسخ عالأرض، صرت لّما بدي أتوضا؛ أمسح على الجربات. وأكياسنا إللي جبناها لسه على الأرض، والتخوت كلها رطوبة، والفرشات ما فيّ أنام عليهن، قالوا لي: ما تتعبي، إحنا بنشتغل متعودين، صاروا يشطفوا ويغنوا، جابوا فرشات رقيقة، وصارت الكهرباء تضوي وتطفي طول الليل، انعمينا فيها رسمي، اطلّعت على الغرف والخزائن والحمام؛ شعرت أني داخل على زريبة حيوانات، عن جدّ الوضع مزري، قالوا لي: انتقلي على غرفة ثانية، انتقلت على غرفة فيها فقط 6 صبايا، جابوا بطاطا مهروسة، الأكل هناك أردى من الرملة، الباذنجان بقشره مقطَّع، صيام جابوا كعكة واحدة، تخيلي تفطري على كعكة بعد صيام، الدنيا برد كثير آخر 11، حتى البطاطا والباذنجان باردة. أنا مرضت هذيك الفترة، فش إشي سخن للأكل، والمنطقة زبايل".
*****
حين أضربت الأسيرة "نورا الهشلمون" عن الطعام، في الثاني عشر من كانون الأول عام ألفين وستة، وبعد ثلاثة أشهر من اعتقالها؛ لم تكن تدري أن العالم قد أصيب بالصمم.
وحين أضربت عن الطعام، في الثاني عشر من آذار عام ألفين وثمانية؛ لم تعرف أن العالم قد أصيب بالصمم والعمى.
لم تتدخل المؤسسات الدولية، أو منظمات حقوق الإنسان، لمساندة نورا، رغم لاقانونية الاعتقال الإداري، ورغم مخالفة الاعتقال الإداري لاتفاقية جنيف، والقانون الدولي.
خلَّف الإضراب الأول آلاماً في الكبد. وخلَّف الإضراب الثاني آلاماً في الكلى والمرارة. أما صمم العالم وعماه؛ فقد خلَّف آلاماً في ضمير عشاق الحرية.