المتتبع لما يحدث في بؤر الصراع الملتهبة - العراق، ولبنانو وفلسطين - سيجد صراعاً محتدماً بين قطبين أحدهما أميركي هدفه: بناء شرق أوسط جديد، والآخر ايراني هدفه: بناء نظام اقليمي جديد. صراع جديد على المنطقة تشارك فيه دول وشعوب وحركات سياسية عبر توزعها في نطاق القطبين، بما يعكس التحولات الجديدة التي شهدتها المنطقة منذ الانهيار السوفييتي العام 1989، وتحولات ما بعد تفجيرات نيويورك في 11/9 /2001. المعطيات الجديدة هي صعود إيران كدولة إقليمية بدأت تترك بصمات قوية في مواجهة الاندفاع الاميركي المحموم لصياغة شرق اوسط جديد بشروط هيمنة جديدة.

الشيء المؤسف هو حشر الشعوب العربية في استقطاب ثنائي بشروط خالصة أميركية وإيرانية بمعزل عن المصالح الفعلية للشعوب. وهذا النوع من الاستقطاب لا يندرج في خانة التحالفات التي تعبر عن مصالح مشتركة بحد أدنى وأقصى نظراً للبون الكبير في ميزان القوى. بل إنه يندرج في اطار علاقات التبعية، والاستخدام كورقة ضاغطة. الخيار بين تبعية واستخدام تكتيكي من طرف واحد، بين أميركا وايران، هو عنوان المأزق السياسي الذي تعيشه دول وشعوب المنطقة. ولا يغير من الواقع المأزوم، تفضيل ايران الطائفية على اميركا النيو إمبريالية. قد يصلح هذا الفارق عند تحديد الخطر الداهم ، وهنا يمكن تأييد اي ضغط تمارسه ايران ضد اميركا وإسرائيل، بما في ذلك يمكن استيعاب وجود ايران كقوة اقليمية في مواجهة الاستباحة الاميركية الاسرائيلية وبمعزل عن اية أطماع ذات طابع كولونيالي. أما عندما نكون بصدد الانتماء لمشروع النظام الايراني المستبد اجتماعياً وثقافياً، (نموذج نظام الحكم الدكتاتوري في ايران، ونظام الحكم الطائفي المستبد في العراق، وسلطة حزب الله الطائفية) فإن اختيارنا واستقطابنا سيكون بائساً، والأهم ان هذا المشروع لا ينطوي على حلول للازمات الاقتصادية والاجتماعية الطاحنة والديمقراطية.

القوى الفاعلة من أنظمة وحركات سياسية ونخب ثقافية تصب المياه في طاحونة الاستقطاب الاميركي أو الايراني دون البرهنة على جدوى الانحياز، ودون التوقف عند التحولات التي عصفت بالمنطقة، وبمعزل عن السعي لامتلاك عناصر قوة، ووضع شروط جديدة تسمح بالانتقال من طور الالتحاق الى طور الشراكة.

النظام العربي ثابت لا يتزحزح في المكان وفي العلاقة مع الولايات المتحدة، مع ان الاخيرة ماضية في استباحة مصالح شعوب المنطقة وفي التطابق مع السياسة الاسرائيلية. تجربة كامب ديفيد المصرية وأثرها على مصر والنظام العربي وشعوب المنطقة جديرة بالدراسة من اجل استخلاص العبر. في هذا المجال كشفت رسائل محمد حسنين هيكل للرئيس حسني مبارك التي تعود لـ 25 سنة خلت ونشرت مؤخراً جدوى الالتحاق او الاعتماد على الولايات المتحدة. لقد منح الرئيس أنور السادات 99% من أوراق اللعبة السياسية لاميركا. كان هذا يعني ان ما تبقى بيده وفي يد العرب والعالم هو 1%. وأجرى تغييرات استراتيجية جذرية سياسية واجتماعية واقتصادية، وقبل بتعاون استراتيجي مع الولايات المتحدة، وابرم معاهدة سلام مع دولة اسرائيل. ماذا كانت النتيجة، بعيداً عن وعود الانفتاح الاقتصادي والبحبوحة التي ستغمر مصر وتحولها الى نمر اقتصادي افريقي ودولة رفاه؟، الشيء الملموس هو حصول مصر على 3 مليارات دولار سنوياً لكن الشركات الاميركية الاحتكارية تكسب أضعاف هذا المبلغ . كانت النتيجة: عزل مصر وتهميشها وإفقارها وإضعافها.

الوساطة الاميركية في الموضوع الفلسطيني كانت أكثر سوءاً، فبعد أن اعتمد السلام كخيار استراتيجي والتفاوض اسلوباً وحيداً لحل الصراع الفلسطيني الاسرائيلي، شكل الموقف الاميركي غطاءً لمضاعفة الاستيطان وتعميق الاحتلال الاسرائيلي للارض الفلسطينية وتقويض مقومات الاستقلال والدولة.

السياسة الاميركية ما بعد أنابوليس لم تنجح في إعطاء القليل من المصداقية للعملية السياسية عبر وقف الاستيطان والجدار والعدوان والحواجز والعقوبات الجماعية، وكانت كثير من الوعود والاقوال غير المقترنة بالافعال.

قطب الاستقطاب الاميركي قدم تسهيلات ضخمة واستثنائية ليس للانفضاض عن السياسة الاميركية بل ولمناصبتها العداء شعبيا بنسب تتجاوز 90% حسب استطلاعات الرأي العام المحايدة. وقد صب الانفضاض لمصلحة التيار الاسلامي الذي يملك القدرة على التحريض والتنظيم والاستقطاب. والتيار الاسلامي في معظم البلدان العربية لا يملك مشروعا وطنياً نقيضاً للمشروع الاميركي، بل يملك مشروعاً للسيطرة على المجتمعات العربية. إن افتقاد التيار الاسلامي لمشروع وطني ديمقراطي دفعه للالتحاق بالقطب الايراني من موقع استخدامي مقابل منافع فئوية. يحدث هذا في فلسطين، فما يهم ايران هو استخدام المقاومة ومعاناة الشعب الفلسطيني لحشد رأي عام وللضغط على الولايات المتحدة وإسرائيل وإرباكهما. لا يهم ايران حجم الخسارة التي تلحق بالشعب الفلسطيني، ولا يهمها التعاطف والتأييد الدولي للشعب الفلسطيني، ولا العلاقة مع بلد شقيق بموقع وحجم مصر (النافذة الوحيدة على قطاع غزة)، ولا يهمها وحدة الشعب والقوى السياسية الفلسطينية. ما يهم هو استخدام الورقة الفلسطينية، ومن اجل استخدام أنجع لهذه الورقة لا ضير من شق الصف الفلسطيني بتأييد الانقلاب ودعم مؤتمر دمشق الانشقاقي.

إذا كان الذهاب الى القطب الاميركي قاد ويقود الى كوارث، فإن الذهاب مع القطب الايراني يحولنا الى ورقة استخدامية تكتيكية منفصلة عن مشروع وطني ديمقراطي تحرري. مقابل ذلك فان القوى والافراد والنخب الديمقراطية اليسارية والقومية مطالبة بحفر مجرى جديد للاستقطاب، وبفك تذيل وتماهي بعضها مع الاسلام السياسي تحت ذريعة التشارك في رفض السياسة الاميركية. وعلى الاقل لماذا لا يطبق شعار السير منفردين والضرب معاً في كل لحظة تقاطع ضد السياسة الاميركية وسياسة دولة الاحتلال الاسرائيلي؟ ولماذا لا يسلط النقد ضد سياسة الاستبداد والاستلاب الاجتماعي؟.