لست ادري ما الحكمة من تأخر اليمنيين كل هذا الوقت حتى يتحركوا بشأن المبادرة التي طرحها الرئيس علي عبد الله صالح قبل ما يقرب من الشهر، ووافق عليها وزراء الخارجية العرب في اجتماعهم بالقاهرة يوم الخامس من آذار الجاري.

وسواء أكان التأخير مقصوداً ام غير مقصود، وما اذا كان المسؤول عنه الجانب اليمني ام مماطلات بعض الاطراف الفلسطينية، فإن هذا الاستهلاك للوقت، لم يكن عبثياً اذ ان كل يوم يمر يتعمق فيه الانقسام، وتتعمق أزمة الثقة والكراهية، وتتراكم الاحقاد، والوقائع الصعبة على الارض.

وفضلاً عن الشكوك التي يثيرها هذا التأخير، فإن الحوار الذي جرى في صنعاء بصورة غير مباشرة بين وفدي منظمة التحرير الفلسطينية وحركة حماس، قبل قمة دمشق العربية بأيام قليلة يثير المزيد من الشكوك بشأن امكانية نجاح المبادرة اليمنية لاحقاً.

وما جرى في صنعاء، من عملية تجاذب، ليس غريباً على الفلسطينيين وليس غريباً على حوار يفترض انه يعالج ازمة عميقة متفاقمة، صعبة، ومعقدة، كالتي يعاني منها الوضع الفلسطيني منذ انقلاب حزيران الحمساوي في العام الماضي.

الاتفاق الذي تم التوقيع عليه بعد تدخلات من الرئيس علي عبد الله صالح وطاقم وزارة الخارجية اليمني، هو اقرب الى ميثاق الشرف الذي يسجل فقط اتفاق الطرفين على النوايا، غير ان النوايا لا تكفي للانتقال من مربع التشاؤم الى مربع التفاؤل.

على اننا حتى لا نتهم بسوء النية، وبالنظرة السوداوية، كمن يبحث عن عظام في الكرشة، سنعتبر ان ما جرى التوقيع عليه، ويتضمن موافقة الطرفين على المبادرة كما جاءت ببنودها السبعة وبالترتيب الذي وردت فيه يشكل خطوة ايجابية الى الامام، تحتاج الى المزيد من الضمانات والآليات وقوة ضغط اكبر مما توفره اليمن.

اولى هذه الضمانات ينبغي ان تصدر عن الطرفين المتصارعين وتتطلب التوقف الفوري عن ممارسة التحريض الاعلامي والسياسي الصعب، والتوقف عن القاء التهم الصعبة، وخطاب الكراهية وإثارة الاحقاد، وثقافة العنف والسيطرة والغاء الآخر.

ومن الواضح ان لا شيء تغير على هذا الصعيد، فاللغة والمفردات المستخدمة لا تزال على حالها، وعلى حالة الخطاب الاعلامي الاقصائي والتكفيري الذي يعبر في مضمونه عن ظاهرة صراع عدائي.

ثانية هذه الضمانات السلوك الذي ينبغي ان يتغير باتجاه وقف التعدي على المؤسسات الحكومية وغير الحكومية والاستيلاء عليها، ووقف اجراءات الملاحقة والتحقيق والاعتقال، ووقف حظر العمل الشعبي والسياسي، ووقف التعسف بالقانون، وقمع ومحاصرة الحريات.

ثالثة هذه الضمانات تتصل بكل الحوارات والمفاوضات والوساطات الجارية بشأن التوصل الى تهدئة ينبغي ان تكون شاملة ومتبادلة، بما يعني وقف العدوان على قطاع غزة والضفة الغربية، وعدم القبول بتهدئة واقعية سواء أكانت حصلت بتفاهمات غير مباشرة، أم بمبادرات منفصلة، كما هو حاصل على جبهة قطاع غزة، وهو ما ترتاح اليه اسرائيل التي ترغب في ان تظل يدها العدوانية طليقة في الضفة الغربية.

رابعة هذه الضمانات ان يصدر عن الطرفين ما يؤكد رغبتهما في تحقيق الشراكة السياسية، عبر حوار شامل لا يقتصر على حركتي حماس وفتح، ذلك انهما عنوان الازمة، وسببها الرئيسي، لكن وقودها يحصد من رصيد القضية والشعب والمشروع الوطني والاهداف الفلسطينية.

ان الاستفادة من تجربة الماضي، حيث انهار اتفاق المحاصصة في مكة بعد اشهر قليلة من التوقيع عليه، وكان ينبغي ان يكون نتاجاً لحوار وجهد وطني وشراكة من الجميع.

ولاننا ندرك جميعاً ان ثمة عقبات اقليمية ودولية، لا تلتقي حساباتها مع حاجة الفلسطينيين للحوار ومصلحتهم في استعادة وحدتهم، فإنه لا بد من السعي وراء توفير ضمانات عربية قوية وأكيدة.

يعلم الجميع، ان اسرائيل ستعمل بكل ما لديها من قوة وتدخل وتأثير لمنع التئام الحالة الفلسطينية، خصوصاً أنها المستفيد الاكبر، وليس الوحيد، من وقوع واستمرار الانقسام الفلسطيني الذي تسعى اسرائيل لتأييده بما يتفق مع مخططاتها الجهنمية لتبديد القضية الفلسطينية وانهاء المشروع الوطني الفلسطيني وكل ما يتصل به من مبادرات.

ليس هذا وحسب، وليست الادارة الاميركية وحدها، بل ثمة قوى اقليمية اخرى، لا تجد لها مصلحة في عودة الاوضاع الى ما كانت عليه قبل الانقلاب في حزيران، ولذلك كان لا بد من البحث عن ضمانة عربية.

ونحتاج الضمانة العربية ايضاً لتوفير الغطاء السياسي الضروري للفلسطينيين وللمحافظة على وحدة المواقف ازاء السياسة الاسرائيلية التي تعمل بصورة مستمرة وواضحة على افشال المفاوضات، واحباط الارادة الدولية والعربية التي تولدت في انابوليس وباريس، ولا تزال تحظى بزخم رغم مرور الكثير من الوقت على مفاوضات لم تحقق شيئاً ومن غير المتوقع ان تصل الى مستوى تلبية التطلعات الدولية والعربية بتحقيق التسوية خلال هذا العام.

اما الضمانة العربية فتتطلب ان يتخذ الزعماء والقادة العرب خلال قمتهم القادمة بعد ايام قليلة في دمشق، قراراً واضحاً وقوياً بتبني المبادرة اليمنية، وإبداء الاستعداد للوقوف خلفها، والاتفاق على آليات محددة جماعية لمتابعة تنفيذها.

وإذ اخشى ان يكون الانقسام والصراع الفلسطيني الداخلي، من طبيعة برنامجيه تتصل باختلاف بل افتراق الرؤى والمشاريع، بما يمنع التوصل الى اتفاق على ما يجري تداوله من تفاصيل فرعية، تتصل بالصراع على السلطة، فإنني اعتقد ان على القادة العرب ان يمارسوا ضغطاً مباشراً وقوياً على الاطراف او الطرف المعطل، طالما ان المخاطر الحاضرة والمستقبلية لا تقف عند حدود الوضع الفلسطيني بل تتعداه الى الاوضاع العربية والاقليمية.

ان الفلسطينيين كل الفلسطينيين بحاجة الى الحماية العربية الجادة والقوية، في ظل غياب الحماية الدولية، بل وفي ظل تعطل الادارة الاميركية عن ممارسة الضغط على اسرائيل كما عبر عن ذلك صراحة نائب الرئيس الاميركي ديك تشيني خلال مؤتمره الصحافي اول من امس مع ايهود اولمرت.

وفي كل الاحوال، وبصرف النظر عن التفاؤل او التشاؤم، فإن على الطرفين ان يوفرا المناخ الديمقراطي المناسب، للجماهير الفلسطينية لكي تعبر عن آرائها وعن مشاركتها وارادتها، ان تغيب الدور الشعبي ازاء القضايا والخيارات والمصالح الوطنية، يشكل مساساً بمصداقية الخطاب الذي يدعو للحوار والديمقراطية، فضلاً عن انه لا يحق لكل من شاء ان يعتبر نفسه وكيلاً عن الشعب المقهور.

الايام