يبدو رئيس الوزراء الإسرائيلي، كما أنَّ له مصلحة، على ما يبدو، في أن يبدو، في مفاوضاته "الجوهرية" مع رئيس السلطة الفلسطينية، محاوِلاً السير في طريق سلام مزروعة بكثير من الألغام التي إنْ لم يكن في منتهى الحَذَر في سيره فيها قد ينفجر كلها، أو بعضها، فيتفجَّر ائتلافه الحاكم وهو في منتصف، أو في بداية، هذه الطريق، فتتوقَّف، أو تفشل، "مفاوضات السلام"؛ وقد تَقْصُر الطريق، بالتالي، إلى انتخابات عامَّة إسرائيلية في وقت ليس بالجيِّد بالنسبة إليه، وقد تتمخَّض عن فوز نتنياهو بمنصب رئيس الوزراء.

حزبان في ائتلافه الحاكم أعلنا وأكَّدا نيَّتهما تَرْك هذا الائتلاف إذا ما تجرَّأ رئيس الوزراء الإسرائيلي على "بحث" ما يسمِّيه "القضايا الأساسية" مع رئيس السلطة الفلسطينية، فـ "بحثها" في حدِّ ذاته يَنْظُران إليه على أنَّه من "المحرَّمات".

ولا شكَّ في أنَّ معارضي وخصوم رئيس الوزراء الإسرائيلي من داخل ائتلافه الحاكم ومن خارجه يفهمون "نجاح" مفاوضاته مع رئيس السلطة الفلسطينية على أنَّه نجاحٌ له في تغيير ميزان القوى الانتخابي (والسياسي) لمصلحته؛ ولن يكون لهم من مصلحة، بالتالي، في تمكينه من هذا النجاح، الذي يريده له الرئيس بوش.

وعليه، أنشأ رئيس الوزراء الإسرائيلي، بعد انتهاء زيارة الرئيس بوش لإسرائيل، وبعد بدء "المحادثات الحاسمة" مع رئيس السلطة الفلسطينية، خطاباً سياسياً (دفاعياً) جديداً، قوامه التمييز بين "الاتِّفاق" و"تنفيذه"، والمضي قُدُماً في محاربة ما يسمِّيه "الإرهاب" وكأن لا وجود لـ "مفاوضات سلام"، ومعاملة السلطة الفلسطينية على أنَّها المسؤولة وحدها عن تنفيذ الالتزامات الأمنية الفلسطينية التي تضمَّنها البند الأوَّل من "خريطة الطريق" ليس في الضفة الغربية فحسب وإنَّما في قطاع غزة الخاضع لسيطرة "حماس" منذ منتصف حزيران الماضي، و"تخويف" الإسرائيليين من المخاطِر التي تنطوي عليها سياسة "الحفاظ على الوضع القائم"، والتي من أهمها احتمال أن تضطَّر إسرائيل مستقبلاً إلى مفاوضة "حماس" في الضفة الغربية، وتغيُّر الوضع الدولي بما يَجْعَل قوى دولية عدة في مقدَّمها الولايات المتحدة أقل اهتماماً بـ "احتياجات إسرائيل الأمنية".

بهذا الخطاب يعتقد رئيس الوزراء الإسرائيلي أنَّ في مقدوره السير في الطريقين: طريق المفاوضات مع رئيس السلطة الفلسطينية، وطريق الحفاظ على "الأمن" و"السلام" في داخل ائتلافه الحاكم، حتى يجيء إلى الإسرائيليين بـ "اتِّفاق" يُمْكِن أن يغيِّر ميزان القوى الانتخابي (والسياسي) لمصلحته، ومصلحة حزبه.

أمَّا وزيرة الخارجية الإسرائيلية فتضيف إلى ذلك "السرِّية" و"الكتمان" و"البُعْد عن الأضواء (الإعلامية)" في مفاوضاتها مع رئيس الوفد الفلسطيني المفاوِض، فـ "النجاح" قد يتحوَّل إلى "فشل" إذا ما سُمِحَ لتفاصيله بالظهور.

وحتى لا يبقى لدى معارضيه وخصومه من حُجَجٍ وذرائع لفتح النار عليه أعلن رئيس الوزراء الإسرائيلي، بعد بدء "المفاوضات الحاسمة"، أنَّ "عدم التوصُّل إلى اتِّفاق" ما زال أمْراً مُمْكناً، وأنَّ التوصُّل إليه لا يعني أبداً أنَّ "تنفيذه" مُمْكِن، أو يُمْكِن أن يكون سريعاً، فـ "عدم تنفيذه"، إذا ما تمَّ التوصُّل إليه، يُعَدُّ، على ما أعلن رئيس الوزراء الإسرائيلي، "أمْراً ممكناً".

وغني عن البيان أنَّ رئيس الوزراء الإسرائيلي سيُعْلِن، بعد التوصُّل إلى "الاتِّفاق"، إذا ما تمَّ التوصُّل إليه، أنَّ "التنفيذ" لن يغدو ممكناً قبل أن يقيم رئيس السلطة الفلسطينية الدليل على أنَّه قد نجح في تغيير الوضع في قطاع غزة بما يُظْهِر ويؤكِّد نجاح السلطة الفلسطينية في تنفيذ التزاماتها الأمنية المنصوص عليها في البند الأوَّل من "خريطة الطريق".

رئيس الوزراء الإسرائيلي لا يرى ضرراً في "النقاش"، أي في أن "يناقِش" مع رئيس السلطة الفلسطينية "القضايا الأساسية"، كما لا يرى ضرراً في أن ينتهي هذا "النقاش" بـ "اتِّفاق" على مبادئ وأسُس "الحل النهائي"؛ ولكنَّه، وبتأييد من الرئيس بوش على ما قال، لن يُنَفِّذ حَرْفاً من هذا الاتِّفاق قبل أن تُظْهِر السلطة الفلسطينية، وتؤكِّد، قدرتها على الوفاء بكل التزاماتها الأمنية في الضفة الغربية وقطاع غزة معاً.

وأحسبُ أنَّ السلطة الفلسطينية مدعوة الآن إلى السير في "طريقين متوازيتين" قد تلتقيان مستقبلاً: "طريق التفاوض" من غير أن تعلِّل نفسها بكثير من الأوهام، و"طريق الحوار" بين الفلسطينيين أنفسهم، توصُّلاً إلى إنهاء "الأزمة" التي يعيشها الفلسطينيون منذ منتصف حزيران الماضي. وهذا "الحوار" يمكن أن يخطو خطواته العملية الأولى بإعادة السيطرة على المعابر في قطاع غزة إلى السلطة الفلسطينية، على أن يُتَرْجَم هذا "التغيير الواقعي المهم" بما يُقْنِع أهل القطاع بأنَّ معاناتهم المعيشية والاقتصادية والإنسانية قد شرعت تَخِفُّ وتتضاءل.. وتنتهي.

والتحلِّي بروح المسؤولية (على الرغم من استمرار النزاع بين الطرفين الفلسطينيين) يمكن، ويجب، أن يقوِّي جانب المفاوِض الفلسطيني، فإذا تمَّ التوصُّل إلى "اتِّفاق" يُتْرَك أمْر بتِّه إلى الشعب، على أنْ تُتَّخذ نتيجة "الاستفتاء الشعبي" مَدْخلاً إلى حلٍّ نهائي للأزمة الفلسطينية بكل أوجهها وأبعادها. - مفتاح 15/1/2008 -