إنها ليست نوبة استثنائية، فهي حلقة من مسلسل بدأ قبل أكثر من قرن، لكنها تبلغ ذروة السعار الآن بدافع استثمار الفرص الدولية والإقليمية المتاحة، إضافة إلى الفرصة الفلسطينية التي تتجسد في الانشقاق وتبادل الاتهامات بالتخوين.
وإذا كانت برامج التهويد و”العبرنة” التي طالت القدس وفلسطين بأسرها قد تمت في الداخل فإن هناك حراكاً صهيونياً واسعاً يتمدد نحو الخارج وبالتحديد في القارات الثلاث آسيا وإفريقيا وأخيراً أمريكا الجنوبية. فالزيارات أصبحت مكوكية بين تل أبيب وعواصم هذه القارات، وإن كانت أمريكا الجنوبية بالتحديد قد تحولت إلى ساحة صراع وتنافس بين طهران وتل أبيب في هذه الآونة الحرجة.
وما يريده نتنياهو في ولايته الثانية هو استدراك ما فاته في الولاية الأولى، والتي كانت تجريبية إلى حد ما، إضافة إلى حلمه المزمن باحتلال حيز لم يظفر به سابقوه وهو الريادة الثانية للمشروع الصهيوني بعد “الأسرلة”.
وهذه النوبة من السعار قد لا يسلم منها حتى من ليست لهم ناقة ولا جمل في الصراع العربي الصهيوني. وإذا كانت هناك حكاية طريفة عن كلب لا يكف عن النباح رغم أنه معافى ولا يشكو من جوع أو خوف أو ألم، فهو يدافع عن سمعته ككلب فقط فإن حالة السعار أيضاً تخضع للشرط ذاته، والمصاب يريد أن ينقل العدوى إلى الأصحاء جميعاً، فقد شعر نتنياهو منذ شكّل حكومته الائتلافية بأن إفريقيا وأمريكا الجنوبية مجالات حيوية بامتياز، سواء للاستثمار الاقتصادي أو الاستغلال السياسي، فالعرب ينعمون بعطلة تاريخية طويلة، وتستغرقهم شجون أخرى، بحيث أعادوا ترتيب أولويات قضاياهم وصار الثانوي هو المهم، وبدأت ثقافة الاستقالة والانخلاع من الهمّ القومي الأكبر تسود وتتفشى عبر إعلام فقد ذاكرته. وللصهيونية رغم الاختلاف النسبي والكمي بين من يمثلونها في مختلف الحكومات المتعاقبة استراتيجية ثابتة ومستقرة هي ما يسمى في عالم السياسة والابتزاز العزف على الأكورديون.
فالخاصرتان تتناوبان على هذا العزف، في الداخل حيث يتمدد الاستيطان ويعمّق بحجة ما يسمى النمو الطبيعي، وفي الخارج حيث تسعى الدولة العبرية إلى تجنيد من تستطيع تجنيدهم في خندقها وتحييد من يمكن تحييدهم أيضاً، كي لا تتكرر تجربة القاضي غولدستون وتتعرض جرائمها إلى إدانات دولية بما يشبه الإجماع، لهذا يبدو الثالوث الدموي نتنياهو وليبرمان وباراك كما لو أنهم في سباق مع الزمن، ورغم ائتلافهم على هدف معلن، إلا أن لكل منهم وتراً يعزف عليه لصالحه وفقاً لحسابات انتخابية، ولعل هذا العزف المزدوج هو ما يضاعف من حالة السعار.
والعرب، لم يسبق لهم أن تلقحوا ضد مثل هذه النوبات، رغم وفرة الحالات التي تعرضوا فيها للعضّ حتى عندما تختفي نواجذ الجنرالات خلف ابتسامات دبلوماسية صفراء في مشاهد العناق المتلفز والتي لا تدوم أكثر من نصف دقيقة، وبدلاً من أن يضاعف العرب من حراكهم الدولي المضاد خصوصاً في إفريقيا وأمريكا الجنوبية، فإنهم لا يتعاملون مع المشهد إلا من سطحه القريب، إضافة إلى الخلط المريب بين ما هو إجرائي وما هو استراتيجي أو ميتا استراتيجي.
إنها نوبة سُعار مصحوبة بزفير سام وقد تحقق أهدافها إذا بقي المرمى بلا حراس.