أذكر على نحو غامض استماعي من التلفزيون لخطبة ألقاها الراحل شفيق الحوت، في اجتماع للمجلس الوطني الفلسطيني، وعلى الأغلب كان ذلك أثناء اجتماع عمّان عام 1984، يسخر من الذين ينكرون أنّ نتيجة حرب بيروت 1982 لم تكن هزيمة للمقاومة، ويدّعون أنّ تشتت القوات من اليمن إلى ليبيا ليس هزيمة.
وفي مطلع هذا العام، سخرت امرأة من غزة من ادّعاء أن الحرب التي أدت إلى تدمير أنحاء واسعة من القطاع ووقوع 1400 ضحية فلسطينية مقابل 14 قتيلا إسرائيليا هي انتصار للمقاومة، وتحقيق لوعد قادة "حماس" حرق الأرض تحت أقدام الغزاة، وقالت تلك المرأة المسنّة: إذا تكرر انتصارنا هذا عدة مرات سنفنى من الوجود!
وفي العام 2002، نسبت صحف لقائد الجيش الصهيوني وقتها، موشيه يعلون، قوله إنّ "الفلسطينيين يجب أن يفهموا في قرارة أنفسهم أنّهم شعب مهزوم". وفي الشهر الماضي، أعلنت صحيفة "تورنتو ستار" الكندية التي نسبت ليعالون مقولته قبل سبع سنوات أنّه اتضح أن يعالون لم يقلها. فردّ الكاتب الأميركي الصهيوني دانيال بايبس، بأنّه إذا كان يعالون لم يقلها، فإنّه هو يقولها صراحة.
جوهر العبارة شبيه بما قاله يوما آرنست همنجواي، بأنّ المرء يخسر معارك عديدة، لكن هذا لا يعني خسارة الحرب. ولكن ما لم يعيه بايبس ربما بسبب ضيق الأفق، وربما بسبب جهله اللغة العربية، أنّ حروب مثل حروب بيروت وغزة وجنين لن تنجح في إلحاق تلك الهزيمة.
فتشتت اللاجئين الفلسطنيين في أصقاع الأرض الأربعة يعني أنّه حتى سياسات تطهير عرقي وإبادة في منطقة ما لن تنهي القضية التي ستبرز من مكان آخر. وأنّ اللاجئين بقدر ما هم أزمة فلسطينية حياتية راهنة هم أزمة تاريخية حاسمة بالنسبة لاستمرار وجود إسرائيل وفق سياساتها العنصرية الراهنة، سواء أعادوا أم لم يعودوا.
قبل أيّام، كنت أقرأ نصّا توثيقيّا بالغ التفصيل لأديب فلسطيني شاب نشأ في مصر، يصوّر فيه ماضي وحاضر حي المنشيّة في يافا، بعد أن حصل على تصريح زيارة إلى يافا لمدة 19 ساعة، وتبادر لذهني أنّه يتابع درب والديه ودرب أبناء المنشية مثل شفيق الحوت الذي وثّق الحي جيدا. ثم تذكرت قائمة طويلة من الشباب والشابات ما يزالون في عشرينياتهم وقدموا خلال العامين الماضيين سلسلة مذهلة من الأفلام الوثائقية، والدراسات، والمقالات، عن فلسطين التي لم يروها.
والواقع أنّ مما لم يدركه بايبس وأقرانه أنّ مشكلتهم ليست مع الفلسطينيين وحدهم، فسلسلة المناضلين المقاتلين العرب بالسلاح والسياسة والإعلام وغيرها تطول، وأعداد متزايدة من الشباب اليافع حول العالم تتجند لهذه القضية. فإذا كان سلطان العجلوني نموذجا أردنيا، وتميم البرغوثي نموذجا فلسطينيا، فإنّ راشيل كوري نموذج عالمي، ومعها شباب جامعة مانشستر البريطانية، الذين يناضلون منذ شهور لمطالب منها مقاطعة إسرائيل ومساواة الطلبة الفلسطنيين مع البريطانيين من حيث مقدار الرسوم الجامعيّة، وقد حققوا كثيرا من مطالبهم. كل هذا مشكلة إسرائيلية تاريخية مزمنة.
الادّعاء أن غزة أو قبلها بيروت انتصارات للمقاومة خداع الذات. ولكن الحقيقي أن الفصائل تهزم وأن الشعب ينتقل من فصيل لآخر وبالعكس، ولكن هذا الانتقال دلالة قضية حية وشعوب لم تستسلم.
ما نحتاجه سياسات ومراجعات تمنع استمرار هزائمنا المتلاحقة هذه، حتى لو كنا ندرك أننا لن نخسر الحرب في النهاية، وأهم سبل المراجعة تأكيد عروبة القضية وإنسانيتها العالمية، بإعادة تعريف الصراع ليصبح صراع الإنسانية ضد الصهيونية، وليدرك الصهاينة في قرارة أنفسهم أن لا فرصة للعنصرية.
* كاتب وباحث أُردني يقيم في الإمارات. -