التأييد الـمفاجئ الذي أظهرته الولايات الـمتحدة الأميركية للجهد الـمصري بإحلال تهدئة في قطاع غزة مثّل تحوّلاً في السياسية الأميركية التي، على ما يبدو، باتت تدرك فشل السياسة الإسرائيلية في إنهاء سيطرة حركة حماس على قطاع غزة من خلال الحصار والتضييق وحتى إعطاء الضوء الأخضر للهجمات العسكرية؛ فأصبحت تتبنّى بوضوح الوقف الـمتبادل لإطلاق النار في غزة، بعد أن كانت تقتصر في دعواتها على وقف الصواريخ.
الاعتقاد السائد هو أن قرار القيادة الفلسطينية تعليق الـمفاوضات مع الجانب الإسرائيلي بعد الـمجازر الرهيبة التي ارتكبتها الحكومة الإسرائيلية في قطاع غزة واستمرار النشاطات الاستيطانية في القدس وغيرها من الـمناطق في الضفة الغربية أعطى زخماً تجاه هذا التحوّل الذي تمثّل بشكل خاص بإيفاد وزيرة الخارجية الأميركية كوندوليزا رايس مساعدها ديفيد وولش إلى مصر للتنسيق مع الـمصريين في مبادرة التهدئة.
مبادرة التهدئة لـم تكن بالأمر الجديد على الـمصريين وقد كانت لفترة من الوقت جزءاً من صفقة الرزمة التي كانت تعمل عليها وتشمل تبادل الجندي الإسرائيلي الأسير في غزة جلعاد شاليت بأسرى فلسطينيين، وحتى ما قبل التصعيد الإسرائيلي في غزة كان رئيس الـمخابرات الـمصرية اللواء عمر سليمان ينوي القدوم إلى تل أبيب لبحث الأمر مع الإسرائيليين إلاّ أن الهجوم الإسرائيلي على غزة أرجأ زيارته التي يرجّح أن تتم خلال أيام.
الجديد كان موافقة الولايات الـمتحدة الأميركية على هذه الـمبادرة التي تشمل وقف "حماس" إطلاق الصواريخ من غزة مقابل وقف إسرائيل عملياتها ضد الفلسطينيين ويستتبع ذلك فتح الـمعابر في غزة وأيضاً معبر رفح الحدودي بين قطاع غزة ومصر وفقاً لاتفاق الـمعابر للعام 2005 ووفقاً لـمصادر فلسطينية متعددة فإن مصر تخطط لأن يلي ذلك حوار شامل فلسطيني ينهي الصراع الفلسطيني الداخلي.
فالولايات الـمتحدة كانت تعتقد، ومعها عدد من العرب وحتى الفلسطينيين، أن إحلال أي نوع من التهدئة في قطاع غزة من شأنه أن يثبّت سيطرة حركة حماس على قطاع غزة؛ وبالتالي فقد ساندت سياسة "عصر" سيطرة حركة حماس في غزة باعتبار أن من شأن ذلك التسريع في إنهاء هذا السيطرة، على أن يتم ذلك بالتوازي مع تقدم الـمفاوضات على الـمسار الفلسطيني بما يفضي إلى اتفاق قبل نهاية العام الجاري وفقاً لـما تم الاتفاق عليه في مؤتمر أنابوليس.
إلاّ أن السياسة الإسرائيلية في غزة واستمرار النشاطات الاستيطانية، وتحديداً في القدس، أديا إلى تعطيل الـمفاوضات وتعكير صفوها وذلك بالتوازي مع استمرار التوغلات والاقتحامات الإسرائيلية في الضفة الغربية والتي بدورها أدت إلى تعطيل جهود الحكومة الفلسطينية التي سعت إلى إحلال شعور بالأمن والاستقرار في الضفة الغربية بعد سنوات طويلة من الفلتان الأمني والفوضى.
وذكر مسؤول فلسطيني كبير لـِ"الأيام": أنه في الاجتماع الأخير بين الرئيس عباس ورئيس الوزراء الإسرائيلي إيهود أولـمرت طرح الرئيس موضوع التهدئة فما كان من أولـمرت إلاّ أن رد عليه بالقول: "إذا أوقفوا إطلاق الصواريخ فإننا لن نرد عليهم ولن نهاجمهم" وبعد ذلك مباشرة جرى اتصال هاتفي بين الرئيس عباس ورئيس الـمخابرات الـمصرية اللواء عمر سليمان الذي سمع من الرئيس الاقتراح التالي: "تقوم حماس بوقف الصواريخ وتوقف إسرائيل بدورها الهجمات ويجري الاتفاق على فتح معبر رفح وباقي الـمعابر بين غزة وإسرائيل".
بدورهم أجرى الـمصريون اتصالاتهم مع حركة حماس وجرى عقد اجتماع في العريش بين وفد من حركة حماس برئاسة د. محمود الزهار وعدد من مساعدي اللواء سليمان برئاسة اللواء محمد إبراهيم، وهو شخصية نشطة عمل في غزة لسنوات طويلة ويعرف الوضع جيداً في الأراضي الفلسطينية فضلاً عن أنه شارك في عدد كبير من جلسات الحوار في غزة، وفي ذلك الاجتماع تم الاستماع إلى مواقف حماس قبل توجّه اللواء سليمان إلى تل أبيب في الزيارة التي ارجأت لاحقاً.
ومع إعطاء الولايات الـمتحدة الأميركية دفعة دعم لهذا الجهد الـمصري وقرب زيارة اللواء سليمان إلى تل أبيب فقد أعيد عقد اجتماع مشابه في العريش، يوم الخميس، ولكن هذه الـمرة وصل، أيضاً، إلى العريش وفد من حركة الجهاد الإسلامي برئاسة د. محمد الهندي لبحث الـموضوع نفسه.
وبموازاة ذلك، كان وولش يعقد اجتماعات في القاهرة مع اللواء سليمان ووزير الخارجية الـمصري أحمد أبو الغيط الذي قال الناطق باسمه في بيان: إن الطرفين بحثا "الجهد الـمنصب على إنجاز تهدئة للـمواجهة العسكرية في غزة تمهيداً للتوصل إلى فترة مطولة من التوقف الكامل عن الأعمال العسكرية من الجانبين"، وأضاف: "أبو الغيط أوضح لـوولش مجدداً الاهتمام الـمصري الذي يرقى لـمستوى الأولوية بإعادة فتح معبر رفح بشكل منظم وقانوني ورفع الحصار الإسرائيلي بشكل كامل عن قطاع غزة حتى يتمكن الفلسطينيون من استئناف العيش بشكل طبيعي"، وتابع: "الجانبان ناقشا بشكل مفصل الوسائل الـممكنة للعبور بالـموقف في إجماله إلى مرحلة من الاستقرار والهدوء تسمح باستعادة التركيز على متابعة العملية السياسية".
ومعلوم أن الولايات الـمتحدة لا تحادث حركة حماس التي تصنفها على أنها حركة "إرهابية" إلاّ أنها تعطي الضوء الأخضر لـمصر من أجل القيام بمهمة الحديث مع حماس في وقت يراقب فيه وولش عن قرب تطورات هذا الحديث.
وقال مسؤول أميركي كبير لصحافيين فلسطينيين في رام الله: "سبب عودة وولش إلى القاهرة هو وجود مبادرة تقودها مصر، وسيقوم وولش بالعمل مع الـمصريين بحيث ننسق معهم ونساعدهم كلـما استدعت الحاجة ذلك"، وأضاف: "العنف يمكن أن ينتهي بسرعة كبيرة إذا ما أوقفت حماس إطلاق الصواريخ باتجاه إسرائيل، فقد قال الإسرائيليون بمن فيهم رئيس الوزراء أولـمرت إنه إذا ما أوقفت حماس إطلاق الصواريخ فإن إسرائيل لن تكون بحاجة للرد وأعتقد أنه إذا ما ساد الهدوء فإن ذلك سيوفر الفرصة لنا للبدء بالحديث مع كل الأطراف عن الـمعابر وكيف يمكن أن تعود الحياة الطبيعية إلى غزة وأن يعود الاقتصاد للعمل ولذا فإن العديد من الأمور الإيجابية يمكن أن تبدأ بالفعل إذا ما توقف العنف ولكن الخطوة الأولى الـمطلوبة هي أن توقف حماس إطلاق الصواريخ".
مثل هذه الأقوال كان من الـمستحيل تقريباً سماعها من الـمسؤولين الأميركيين الذين كانوا يعتبرون أن الحل يكمن فقط في وقف الصواريخ دون الحديث عن وقف متبادل لإطلاق النار وذلك شكّل التحول الجديد في الـموقف الأميركي، وهو ما يقول مراقبون إنه ما كان ليحدث لولا قرار تعليق الـمفاوضات.
وقال الـمسؤول الأميركي: "نود ألاّ تكون غزة مشكلة إنسانية فقط إذ نود أن نرى الاقتصاد في غزة يعمل بحيث يكون بإمكان الناس أن يعيشوا حياتهم دون اعتماد كلي على الـمساعدات الغذائية ونعلـم أنه من أجل القيام بذلك يجب فتح الـمعابر، ولذا فإننا نحاول أولاً تهدئة الأوضاع ومن ثم نشجع الأطراف على أن تبدأ بالحديث مع بعضها البعض عن كيفية تشغيل الـمعابر" وأضاف: "نحن ندعم الـمبادرة التي أطلقها رئيس الوزراء د. فياض بتولي الـمسؤولية على الـمعابر وهذا سيتطلب الكثير من الـمناقشات مع الإسرائيليين والـمصريين والأوروبيين وآخرين، ونود أن نرى ذلك يحدث ولكن بداية نحتاج إلى الهدوء هناك .. نشجع الأطراف على بدء الحديث عن موضوع الـمعابر ومحاولة حل الـموضوع".
في غضون ذلك، فإن قرار تعليق الـمفاوضات ساهم في إعطاء دفعة للـمفاوضات نفسها، فمن ناحية فإن تحقيق الهدوء في غزة من شأنه أن يضفي جواً من عدم التعكير عليها، ومن ناحية ثانية فإن القرار دفع إلى أن تقرر الولايات الـمتحدة الأميركية للـمرة الأولى الدعوة لالتئام الآلية الثلاثية برئاسة الجنرال ويليلـم فريزر والتي ستبحث في وقف الاستيطان وإزالة البؤر الاستيطانية والحواجز فضلاً عن إعادة فتح الـمؤسسات الـمغلقة في القدس وغيرها من قائمة طويلة من الالتزامات الإسرائيلية.
الايام