فلسطين ومجتمع المعرفة
بقلم: رمزي ريحان
2004/6/23

الموقع الأصلي:
http://www.miftah.org/display.cfm?DocId=1142


تقرير التنمية الإنسانية العربية للعام 2003

صدر مؤخراً "تقرير التنمية الإنسانية العربية للعام 2003" ومحوره "نحو إقامة مجتمع المعرفة". وجاء هذا التقرير ضمن التقارير الوطنية والإقليمية والعالمية التي يرعاها برنامج الأمم المتحدة الإنمائي منذ عام 1990، وهو التقرير الإقليمي العربي الثاني. وشارك في إعداد التقرير مجموعة كبيرة من الباحثين والمفكرين وأصحاب الرأي من مختلف الدول العربية، مما يضفي عليه أهمية بالغة ويعطيه درجة عالية من المصداقية. يتطرق التقرير إلى المعرفة وعلاقتها بالتنمية الإنسانية ثم يفصّل وضع المعرفة في البلدان العربية من ناحية نشرها وإنتاجها وقياسها. ويسرد التقرير المقاييس الشائعة كنسبة حيازة أجهزة الراديو والتلفزيون والحاسوب والاتصال مع الشبكة العالمية. وينتقل بعد ذلك إلى المؤثرات على المعرفة وتشمل السياق التنظيمي فالمجتمعي والاقتصادي والسياسي. وفي النهاية يعرض التقرير رؤيا استراتيجية لمجتمع المعرفة العربي ترتكز على خمسة أركان: إطلاق الحريات، نشر التعليم الجيد، توطين العلم، التحول إلى نمط إنتاج المعرفة، وتأسيس نموذج معرفي عربي.

ولا يتجنب التقرير معالجة مواضيع جدلية وحساسة، كأنظمة الحكم العربية، ومواقف الإسلام تاريخياً وحديثاً، وهشاشة الاقتصاد العربي، ومأزق اللغة العربية، والمستوى المتدني للتعليم في البلدان العربية، وغيرها. وفي هذه المعالجات الكثير من الصراحة وكذلك المعلومات الكمية المساندة. لكن، بالرغم من ذكر التقرير للاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية وثم الحرب على العراق واحتلالها، إلا أنه لا يتعرض للسياق السياسي العالمي وتأثيراته على الوطن العربي من هجوم، وسلب موارد، والهيمنة السياسية، والسيطرة الاقتصادية، والتهميش الثقافي. وفي غياب ذكر هذه التأثيرات، فإنه من الطبيعي أن التقرير لا يطرح سبلاً واقعية لمواجهة هذه التحديات ومعالجتها ابتعادا عن قطبي الانغلاق والاستسلام. وبالتالي، فإن التقرير يعرض في نهايته رؤيا استراتيجية دون تبيان كيفية تحقيقها. وقد يكون من الأسباب الأخرى لهذه النقص أن التقرير لم يتعمق في تحليل مفهوم المعرفة ومجتمع المعرفة بما في ذلك جذوره التاريخية وملابساته الواسعة من إيجابيات وسلبيات.

لا شك بأن التقرير سيثير الكثير من الجدل والنقاش، كما أنه يحتوي على خيوط عديدة تحتاج إلى المتابعة والتفصيل. ويمكن اعتبار التقرير كقاعدة ثرية يجب الانطلاق منها لاستكمال مهمتها وجني ثمارها.

مجتمع المعرفة

لقد انتشر تعبير "المعرفة" خلال العقدين الماضيين انتشاراً واسعاً، مع مشتقاته كاقتصاد المعرفة وإنتاج المعرفة ومجتمع المعرفة وحقوق الملكية الفكرية وغيرها. وقد ارتبط هذا الانتشار بشكل خاص مع تطور تكنولوجيا المعلومات وبعد ذلك مع التكنولوجيا الحيوية، مما أعطى انطباعاً خاطئاً بأن المعرفة اكتشاف حديث. لكن المعرفة في الواقع قديمة قدم الحضارة الإنسانية، فبناء الأهرام الفرعونية - على سبيل المثال - تطلب قاعدة معرفية واسعة. كذلك، فإن المعرفة تشمل جميع مجالات الفكر دون استثناء.

إلا أنه يجب الاعتراف بأن شيئاً ما قد حصل حديثاً في دور المعرفة في كافة جوانب المجتمع، خاصة الاقتصادية منها. ويمكن إجمال ما حصل بأن التراكم المستمر والتنامي للمعرفة أدى إلى تحول نوعي من المعرفة العفوية إلى المعرفة القصدية. المعرفة العفوية ترتكز على جهود أفراد وتكون متقطعة، وقد تؤثر أو لا تؤثر على مجريات حياة البشر، وغالباً ما يأتي تأثير المعرفة متأخراً على اقتنائها. أما المعرفة القصدية، فهي عملية جماعية منظمة ومستمرة ولها تأثيرات مباشرة على الحياة. أي أن المعرفة انتقلت من كونها نشاط فكري يمارسه القلائل من الناس لتصبح نشاطاً مجتمعياً سياسياً واقتصادياً يتغلغل حياة الجميع. قد يكون من الأمثلة على المعرفة العفوية ملاحظة أرخميدس التي دفعته إلى قاعدته المعروفة، أو سقوط التفاحة على رأس نيوتن (إن حدث ذلك فعلاً!) والذي أوصله – بعد سنين من العمل المضني – إلى نظرية الجاذبية. وأدلّ مثال على المعرفة القصدية هو مشروع مانهاتن السري والذي جنّدت فيه الولايات المتحدة خيرة علمائها وصرفت أموالاً طائلة من سنة 1942 وحتى سنة 1945 لصنع القنبلة النووية.

لا تنفرد المعرفة بهذا التحول النوعي، فقد انتقل الإنسان الأول من الصيد والتقاط النباتات إلى الزراعة وتدجين الحيوانات. كما أدى نمو حجم التجمعات السكانية إلى تطوير العلاقات الاجتماعية لتصل إلى مرحلة الأنظمة السياسية المقننة. وهناك أيضاً مثال الثورة الصناعية والتي تمثلت بالانتقال من العمل اليدوي إلى تشغيل الآلة. ولا يتمثل التحول النوعي بالضرورة باستبدال كامل من نمط إلى آخر، إلا أنه يعكس تفوق وانتشار نمط جديد واضمحلال نمط قديم. وفي جميع هذه الأمثلة يلاحظ بأن التحول عملية تستغرق فترة من الزمن، إلا أن هذه الفترة أقصر في الحالات الحديثة منها في الحالات القديمة، أي أن سرعة التغيير قد ازدادت. وتتطلب سرعة التغيير هذه مقدرة لدى المجتمع للتجاوب معها، وهناك تفاوت في هذه المقدرة بين المجتمعات التقليدية "البطيئة" والمجتمعات الحديثة "السريعة". وهذا التفاوت هو من أسباب الخلافات والصراعات بين هاتين الفئتين من المجتمعات.

تستند المعرفة القصدية على ذهنية عامة تحكم جميع نواحي الحياة ابتداء بالعلاقات الشخصية وانتهاء بالعلاقات الدولية، ولذلك أصبح من الجائز التكلم عن مجتمع المعرفة. وقد أدى انتشار هذه الذهنية وترسيخها إلى تقدم هائل في العلوم البحتة من جهة وإلى تطبيقات تكنولوجية لا تحصى من جهة أخرى. فالمعرفة القصدية عملية هادفة، تسعى إلى الفهم في الحالة الأولى وإلى التقدم الاقتصادي في الحالة الثانية. ومن نتائج تطبيق المعرفة فصل الغاية عن الوسيلة وذلك لكون المعرفة وسيلة للتوصل إلى أية غاية. ويُذكر هنا القول الشائع باللغة الإنكليزية: "اخترع مصيدة فئران أفضل وسيطرق العالم بابك". هذا الفصل لا يعني بالضرورة إتباع مبدأ أن الغاية تبرر الوسيلة، لكنه قد يصل إلى هذا الحد أحياناً.

وتتراوح تطبيقات المعرفة من المفيد إلى المدمر إلى التافه. ينعم الميسورون بالتطبيقات المفيدة في مجالات الصحة وغيرها من وسائل الحياة، ويقاسي الكثيرون من التطبيقات المدمرة، بينما تنجرّ الغالبية وراء التطبيقات التافهة. قد تكون المعرفة محايدة أخلاقياً، إلا أن ثمارها تشمل الحلو كالعسل والمرّ كالعلقم. وكثيراً ما يتم إغفال هذه الحقيقة التي تستحق انتباها أكبر. لقد شهدت أوروبا – أم الحضارة الحديثة – خلال النصف الأول من القرن العشرين حربين كبيرين ومذابح جماعية من سيبيريا إلى أسبانيا، وكان حصيلة كل هذا عشرات الملايين من القتلى. وبعد الحرب العالمية الثانية أقيمت منظمة الأمم المتحدة بهدف تجنيب الأجيال القادمة ويلات الحروب. أما الذي حدث فعلاً فهو أن العالم شهد أكثر من مئتي وخمسين حرباً منذ ذلك الحين. وكان للمعرفة دور كبير في هذه المآسي، إن كان بابتداع تقنيات القتل والتدمير، أو تطوير النظم الإدارية، أو بنشر المعلومات المضللة عبر وسائل الإعلام الجماهيرية.

علاوة على هذه التأثيرات المباشرة للمعرفة وتطبيقاتها، هناك تأثيرات جانبية عكسية. فقد نتج عن انتشار المصانع ووسائط النقل تلوث الهواء والماء، كما نتج عن تطوير السلالات المتعاقبة من العقاقير تطور الجراثيم ذات المناعة ضد هذه العقاقير، كما خلّفت محطات الطاقة النووية كميات ضخمة من النفايات السامة والمشعة سيستمر خطرها لآلاف السنين.

وقد أدى تسارع التغييرات التكنولوجية إلى تقليص الذاكرة التاريخية من القرون إلى العقود إلى السنين. وقد أصبح مقياس هذه الذاكرة لدى البعض فترة استعمال أحدث نظام لتشغيل الحاسوب ولدى البعض الآخر مدة رواج آخر "فيديو كليب". وقد يصل هذا التسارع إلى درجة فقدان الذاكرة التاريخية. ومع تلاشي المرتكزات التاريخية، اكتسبت الثورة المعلوماتية أهمية قصوى. إلا أن الناس يعتلون درجات مختلفة على سلم المعلومات، فهناك معلومات دون معرفة، ومعرفة دون فهم، وفهم دون حكمة، وحكمة دون التزام، وأخيراً، هناك الالتزام.

ويرتبط مدى الذاكرة التاريخية لأي مجتمع مع مقدرته واستعداده للتجاوب مع التغيير. فالذاكرة التاريخية المقلّصة للمجتمعات الحديثة تجعلها أكثر مرونة في تعاملها مع التغيير، بينما تتردد الشعوب التقليدية في تقبل التغيير بسبب ذاكرتها التاريخية الطويلة.

ومن نتائج التفاوت في المقدرة على استيعاب التغيير أن نشوء مجتمع المعرفة أدى إلى توسيع الفجوة بين الدول الغنية "العارفة" والدور الفقيرة "الجاهلة". ولا شك بأن التحدي الرئيسي في هذا المضمار هو كيفية عكس هذه الظاهرة الخطيرة. إن خيار البقاء خارج مجتمع المعرفة هو خيار زائف، فالدول الفقيرة تعتمد على منتجات الدول الغنية – المفيد منها والمدمر والتافه – ولن تستطيع الخروج من الحلبة. وتعتمد الدول الغنية على المواد الأولية من الدول الفقيرة، كما أنها تستغل الأيدي العاملة الرخيصة فيها. إلا أن هذا التبادل ليس متوازناً، فهو لصالح الدول الغنية وبالتالي يؤدي إلى توسيع الفجوة بين الطرفين. إذن، فإن البدائل المتوفرة للدول الفقيرة تتمثل في سبل دخول مجتمع المعرفة وأساليب معالجة التغيرات الشاملة التي تتبع ذلك. بالتالي، على الدول الفقيرة أن تدرس مقومات مجتمع المعرفة وكيفية حيازة هذه المقومات.

إن موضوع مقومات وركائز مجتمع المعرفة موضوع شائك جداً لا يمكن إعطاؤه ما يستحق في هذا العرض، بل سيكتفى بالإيجاز الجائر التالي. الركيزة الأولى هي القاعدة الذهنية العريضة والتي تشمل العقلانية والمعرفة القصدية. ويليها النظام السياسي والذي يرتب الأدوار والعلاقات ويوجّه الموارد والطاقات. والنظام الإداري الناجع هو ركيزة ضرورية لا غنى عنها. وهناك المجتمع المتقبل للتغيير بدرجة كافية. وأخيراً وليس آخراً هناك نظام التعليم. وتتشابك هذه المقومات مع بعضها البعض مما يجعل من الصعب الاكتفاء بواحدة منها كمدخل وحيد للتغيير. فكل من القاعدة الذهنية والنظام السياسي يضع حدوداً على الآخر، وهناك علاقة تبادلية بين أداء النظام السياسي والنظام الإداري، وبين النظام الإداري والمجتمع. وتنعكس أهداف المجتمع في نظام التعليم. ومرة أخرى، أخيراً وليس آخراً، ينبثق نظام التعليم من القاعدة الذهنية السائدة فيما يؤسس للقاعدة الذهنية المقبلة.

وهناك ارتباط وثيق بين مجتمع المعرفة والعولمة يشكل تحولاً جذرياً في مجرى الحضارة الإنسانية. كان العالم في الماضي يشهد عدة حضارات تزدهر في حقبة واحدة من الزمن. وفي الكثير من الحالات لم يكن هناك أي اتصال بين هذه الحضارات المختلفة، وحتى في حالات تلاقيها، فإن كل منها كان يحافظ على غالبية سماته الذاتية. كما كانت الحضارات المتزامنة تتفاوت في مدى تقدمها في مختلف المجالات. ورغم التشدق الشائع بالتعددية إلا أنه من الملفت للانتباه أن التاريخ القديم كان يزخر بالحضارات المتعددة أكثر بكثير من التاريخ الحديث. فقد نتج عن انتشار المواصلات والاتصالات تلاقي الحضارات واندماجها واندحار بعضها أمام تقدم غيرها. وقد جاءت العولمة المستندة على مجتمع المعرفة لتضع العالم على أبواب نهاية هذه العملية التاريخية وذلك بسيطرة نموذج حضاري واحد مهيمن على جميع أنحاء العالم. ولا شك أن انقراض الحضارات الأخرى يمثل إفقاراً للنسيج الإنساني. ومن الجائز، في مقابل ذلك، القول بأن هذه الظاهرة هي تتويج لتوحيد بني البشر. إلا أن استمرار النزاعات بين الشعوب وتفاقم ظاهرة الابتلاع الحضاري بدل الاندماج يرجّح كفة نظرة الإفقار على كفة نظرة التتويج.

ولا يكتفي مجتمع المعرفة المعولم بفرض مسار واحد على جميع المجتمعات ونشاطاتها الاقتصادية، بل يفرض عليها أيضاً أن تكون قد وصلت إلى نفس النقطة على هذا المسار. فإذا تخلفت صناعة معينة في بلد ما عن أحدث تقنيات تلك الصناعة فإنها تواجه التلاشي والإفلاس. وتحاول الدول الفقيرة معالجة هذا المأزق بإتباع نهج القفز بسرعة من مستوى إلى مستوى آخر. وبالرغم من نجاح هذه المحاولات في بعض الحالات، إلا أنها تشكل اختزالاً اجتماعياً لا تُعرف ملابساته النهائية بعد.

هناك تساؤل فلسفي لا بد من إثارته ليس بقصد الإجابة عليه وإنما في محاولة الوصول إلى فهم أعمق. يفترض مجتمع المعرفة – وهو أحدث شكل للمجتمع الصناعي – أن حركة التاريخ هي النمو والتقدم باستمرار دون نهاية. إلا أن تسارع هذا التقدم أو التغيير وآثاره السلبية على موارد الكرة الأرضية المادية والحيوية وكذلك خلخلته للمجتمع الإنساني الأوسع تجعل التساؤل عن إمكانية استمرار ذلك تساؤلاً مشروعاً، لا بل ملحّاً. هناك من الناحية المنطقية البحتة أربع تصورات لحركة التاريخ هي: النمو المستمر، الوصول إلى حالة استقرار، الانزلاق إلى الوراء، والتذبذب بين هذه الحالات. مجتمع المعرفة يتبنى رؤيا النمو المستمر، بينما تسعى المذاهب الطوباوية إلى حالة الاستقرار، وتشمل هذه المذاهب التيارات الصارمة في المسيحية والإسلام والماركسية، وجميعها تترقب استقرار فردوس من نوع ما على وجه الأرض. أما رؤيا الانزلاق، فتنبع من التخوف من مخاطر عديدة: النمو السكاني، تلوث واستنزاف الموارد الطبيعية، والحروب الناتجة عن التنازع على الموارد المتضائلة. وتشكل رؤيا التذبذب نظرة محايدة لا تجرؤ على تصور حالة الإنسان على المدى البعيد. وبالرغم من استحالة الإثبات العلمي لأي من هذه التصورات، إلا أن التمسك بها هو المحرك الباطني للكثير من النزاعات عبر التاريخ.

هناك رؤيا معينة يجب ذكرها لأنها تلعب دوراً حاسماً في العالم. هذه الرؤيا هي مدرسة فكرية أمريكية تمتد جذورها إلى حوالي قرنين من الزمن. تحتوي هذه الرؤيا على شقين: الأول هو الاستقرار السياسي المبني على تبني العالم للتعريف الأمريكي للحكم الصالح والمستمد من الأصولية المسيحية البروتستانتية، والثاني هو التقدم المادي المستمر والذي يستند على روح التفاؤل والمغامرة التي رسخها نجاح الولايات المتحدة في التوسع لتمتد من المحيط إلى المحيط. وهذه الرؤيا المزدوجة هي الخلفية لكل ما يجري في العالم في الوقت الحاضر.

ومهما سيكون مجرى التاريخ على المدى غير المرئي، فإنه من المؤكد أن جميع نواحي الحياة ستشهد تغيرات عديدة في المستقبل المنظور، وستمتد هذه التغيرات لتشمل كل أرجاء العالم. وعلى كل مجتمع أن يكون مستعداً لمواجهة وإستعياب هذه التغيرات يما يتماشى مع رؤيته ومصالحة وقدراته.

فلسطين

عندما تحقق دولة فلسطين استقلالها فإنها ستتمتع بميزتين إيجابيتين وهما أنها ستكون دولة صغيرة وضعيفة، كما ستكون لها صفة أخرى لها إيجابياتها كما لها سلبياتها، وهي أنها ستكون دولة فقيرة. فرقعة أرض دولة فلسطين – مهما كانت حدودها النهائية – محدودة المساحة، لا بل فإن فلسطين التاريخية بأكملها لا تشكّل مساحة واسعة. إن صغر المساحة هذا هو حقيقة لا يمكن التهرب منها، إلا أنه بالإمكان التعامل معها بتوجهات تجعل فوائدها تفوق مساوءها. تستطيع الدول الصغيرة أن تنشىء نظماً سياسية وتتبنى ترتيبات إدارية بسيطة وغير معقدة مما يساعدها على التقدم السريع. وتتطلب هذه التوجهات نظرة واقعية تتجنب كل من الاستسلام لمحدودية الأرض والموارد وكذلك المغالاة في التباهي الأجوف كرد فعل لتلك المحدودية. ولا يمكن إنكار حقيقة أن فلسطين في الوقت الحاضر تزخر بأمثلة عديدة على هاتين الظاهرتين. أما سبيل التطور في فلسطين فهو التواضع المدروس. ومن الحسنات الأخرى لصغر رقعة الأرض إمكانية ترشيد الموارد والمرافق والخدمات اللازمة وذلك بتوفير شبكة مواصلات جيدة تسند خدمات نقل عام منظمة. ويفترض هذا السيادة الكاملة على أرض الدولة دون تجزئة.

من ناحية ضعف دولة فلسطين، فهناك مجالات عديدة من الضعف، تشمل العسكري والاقتصادي والسياسي والثقافي. في ظل الوضع الإقليمي القائم فإن فلسطين ستكون ضعيفة عسكريا. من الصعب تصور قيام دولة فلسطين المستقلة دون تقييد لقوتها العسكرية، وستكمن حماية الدولة وسلامتها على الترتيبات السياسية وليس على القوة العسكرية. وهذا يسمح لفلسطين أن تتجنب تبذير الموارد البشرية والمالية في المجال العسكري وأن تستثمرها في نشاطات منتجة.

لا شك بأن الفقر هو مأساة إنسانية لا يمكن القبول باستمرارها. لكن هذا الرفض للفقر يشكّل بحد ذاته دافعاً قوياً للتغلب عليه. وتمكن الاستفادة من هذا الدافع إذا ما تم توجيهه سياسياً وإدارياً واجتماعياً. كما أن فلسطين الفقيرة ستحظى لفترة محدودة بمساعدات خارجية تساعدها على النهوض من أطلال الدمار.

يُستذكر هنا مثال ألمانيا واليابان بعد الحرب العالمية الثانية. لقد واجهت هاتان الدولتان في نهاية الحرب الهزيمة الكاملة والدمار الشامل والصدمة العميقة التي هزت أركان المجتمع. وبعد جيل واحد فقط أصبحتا ثاني وثالث أقوى دول العالم اقتصادياً. وقد نجحتا في تحقيق هذه المعجزة للأسباب التالية: تحديد القوة العسكرية المسموحة لهما واستثمار الموارد في المجالات المنتجة، المساعدات الخارجية، التغيير الشامل للنظام السياسي، التوجيه السليم من القيادات، واستعداد المجتمع بأكمله لقبول التوجيهات والعمل على تحقيقها.

وقد حدثت قفزة مشابهة خلال السنوات الأخيرة في دول حوض المحيط الهادئ (النمور الآسيوية). وكان من بين ركائز هذه القفزة: إرادة سياسية قوية وتصميم حازم على تنفيذ السياسات المقرة، تحديث شامل في النظام التعليمي بأكمله، والاستفادة من الأوضاع الدولية السياسية والاقتصادية. وبالطبع، فإنه لا يمكن نقل تجارب الدول الأخرى وتطبيقها بالكامل، لكن من المفيد استخلاص العبر منها.

آفاق مجتمع المعرفة الفلسطيني

من المفيد استذكار بعض الحقائق كقاعدة لاستكشاف السبل المتاحة لفلسطين لمواجهة مجتمع المعرفة واستيعابه. تشكل الصادرات ربع الناتج القومي المحلي الفلسطيني، بينما يصرف نصف هذا الناتج على الاستيراد، وغالبيته من السلع الاستهلاكية . وتعادل القيمة الاقتصادية لساعة عمل فرد في قوة العمل الإسرائيلية عشرة أضعاف قيمة ساعة عمل فرد في قوة العمل الفلسطينية، بينما تعادل قيمة ساعة عمل في الولايات المتحدة عشرين ضعف مثيلتها في فلسطين. وتنتج إسرائيل في أسبوعين ما تنتجه فلسطين في سنة كاملة، بينما تنتج الولايات المتحدة في ساعة عمل واحدة ما تنتجه فلسطين خلال سنة. وتصرف إسرائيل مئتي ألف دولار لتدريب عامل في التكنولوجيا المتقدمة، ومقابل ذلك فإنها تصدر مئة ألف دولار سنوياً من منتجات هذا القطاع سنوياً لكل عامل فيه، أي أنها تسترد استثمارها في تدريبه خلال سنتين فقط. وحتى لا يتم الانخداع بأوضاع دول النفط العربية، يذكر أن الناتج القومي المحلي للفرد في إسرائيل يبلغ حوالي 60% من قيمته في الولايات المتحدة، بينما قيمته في الكويت أقل من نصف قيمته في الولايات المتحدة وفي المملكة العربية السعودية حوالي الثلث. وفي هذا دليل واضح أن إنتاج المعرفة أصبح مجدياً أكثر من امتلاك المواد الخام أو حتى من الصناعات التقليدية – أي ما يسمى الاقتصاد القديم.

إن الدول العربية ومن ضمنها فلسطين ليست جاهزة بعد للمشاركة في مجتمع المعرفة أو حتى في الدخول إليه. وإذا أرادت أن تشارك فيه عليها أن تبدأ مرحلة جدية للاستعداد لذلك. يتمثل الوضع الاقتصادي العربي في الوقت الحاضر باستيراد نتاج المعرفة دون إنتاجها، وكذلك تصدير النفط من البلدان التي يوجد فيها. ويمتد هذا الاعتماد الاقتصادي المتزايد ليشكل ضعفاً سياسياً إذ أنه يجعل الدول العربية رهينة قرارات الغير. كما يمثل هذا الوضع فراغاً ثقافياً يتجلى عمقه بوضوح بالمقارنة مع النشاطات المتنوعة التي كان يزخر العالم العربي بها في السابق.

ووضع فلسطين بالذات أكثر إلحاحاً من غيره نظراً للصراع المستمر مع إسرائيل. لا شك بأن الاحتلال يشكل عقبة رئيسية في وجه أي تنمية في فلسطين، إلا أنه من غير المقبول اعتباره ذريعة للتقاعس وللنواقص الذاتية. بل على العكس من ذلك فإنه حافز إضافي للتقدم، وأي تقدم تحت الظروف الحالية سيخلق قوة معنوية لها مفعولها على حلبة الصراع. هناك رأي يسود بين بعض الأوساط الفلسطينية بأن الاستقلال يجب أن يسبق التقدم وأن التحرير شرط للتحرر. لكن هذا الموقف يؤجل معالجة المشاكل الداخلية مما يسمح لها بالتفاقم. وتأجيل بلورة رؤيا لمواجهة مجتمع المعرفة يؤدي إلى استمرار غزو نتاج هذا المجتمع لفلسطين وبالتالي إلحاقها له اقتصادياً وخضوعها لسيطرته السياسية وهيمنته الثقافية. وقد برزت تبعات هذا التوجه بوضوح خلال العقد الأخير، إذ اعتمد الاقتصاد على الاستيراد والاستهلاك وأهمل الإنتاج، وبالتالي ارتكزت السياسة الفلسطينية على المساومة والاستجداء، في حين برز شرخ في المجتمع بين القلة التي تحينت فرص الارتباط بمجتمع المعرفة بينما ظلت الأغلبية بعيدة عنه.

وهناك عبرة من تجربة السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي عندما شهد الاقتصاد الفلسطيني ازدهاراً نسبياً ومؤقتاً كان مبنياً على عمل الفلسطينيين في إسرائيل، مما أدى إلى انخفاض نسبة البطالة وارتفاع مدخول الأُسر. إلا أن الاقتصاد الوطني بقي أجوفاً وفريسة دائمة للسياسات الإسرائيلية، بينما تقدم الاقتصاد الإسرائيلي على أكتاف العمال الفلسطينيين. وخطر العودة إلى وضع كهذا في ظل دولة فلسطين المستقلة سيكون أكبر بكثير من الضعف الذي خلّفه هذا الوضع تحت الاحتلال.

إن محدودية الموارد الطبيعية في فلسطين من أرض ومياه وخامات هو أمر معروف، وهذا يضع حدوداً على إمكانيات ازدهار الاقتصاد الفلسطيني بالاعتماد على القطاعات التقليدية من زراعة وصناعة. وهناك إجماع بأن المستقبل يعتمد على تطوير الموارد البشرية. لكن الاهتمام بهذا الموضوع المركزي قد انحصر في غالبيته على الناحية الفردية – الزيادة الكمية في التعليم – وأهمل الحلقات الأوسع التي تتم فيها هذه العملية. وتتطلب مواجهة مجتمع المعرفة دراسة هذه الحلقات وتشابكها مع بعضها البعض بغية التوصل إلى استراتيجية لتحديثها بشكل مترابط ومتوازن.

تشكل القاعدة الذهنية الحلقة الأوسع التي تتحقق حياة المجتمع ضمنها، وتمتد هذه الذهنية من الثقافة الشعبية السائدة إلى النتاج الفكري لأصحاب الرأي في المجتمع. وقد تبلورت القاعدة الذهنية الفلسطينية خلال السنوات القليلة الماضية حول ما يسمى "القوى الوطنية والإسلامية"، مما أدى إلى تقليص هذه القاعدة إلى قطبي هذا المحور. وبالرغم من الاختلافات العميقة بين القطبين في الكثير من الأمور الهامة، إلا أنهما يتشابهان في عدم اهتمامهما بالتطورات الاجتماعية والثقافية بدرجة كافية. وقد أصبح من الضروري إعادة توسيع آفاق الشعب ليتطلع إلى ما بعد مرحلة الأزمة الحالية. ويتطلب هذا مشاركة القيادات السياسية والفكرية ووسائل الإعلام والنظم الاجتماعية المختلفة.

أما النظام السياسي فهو التجسيد العيني للمجتمع بجميع جوانبه وعناصره. ولا زال النظام السياسي الفلسطيني مبهماً، يعكس الماضي ولا يؤشر بوضوح إلى المستقبل. يستند أي نظام سياسي مستقر في العصر الحاضر على الديمقراطية والمشاركة. لقد اتخذت الديمقراطية في الغرب شكل الحرية الفردية. أما الشكل الملائم في الدول العربية فقد يكون الديمقراطية الجَماعية المبنية على دور الفرد في المجتمع. وفي التجربة الفلسطينية سنتي 1988 و 1989 مثال على ذلك، إذ انبثقت حيوية الشعب في لجان الأحياء وغيرها من المبادرات المحلية.

ولا زال مستوى الأداء الإداري في فلسطين دون المطلوب. فهو يعتمد على الولاء بدل الكفاءة، والشخصنة بدل المأسسة، والارتجال بدل التخطيط. لذلك فهو يفتقر إلى المساءلة والتقييم والتصحيح، كما تنعدم روح الانتماء في غياب المشاركة. وقد يكون للقطاع الخاص دور هام في تخطي هذه النواقص.

أما النظام التربوي الفلسطيني فقد بقي تحت سيطرة الذهنية التقليدية. ومع أنه نجح في مواجهة التوسعات الكمية إلا أنه فشل حتى الآن في القيام بمهمته الرئيسية وهي تحضير الأجيال القادمة لمتطلبات المستقبل. والتحديث الأساسي المطلوب في نظام التعليم يرتكز على جعل تنمية قدرات المتعلم محور العملية التعليمية بدلاً من الاكتفاء بنقل المعلومات إليه.

إن التحضير للمشاركة في مجتمع المعرفة هو كالمجهر الذي يبيّن بوضوح نقاط الضعف على المستويات الرئيسية الأربعة: القاعدة الذهنية، النظام السياسي، الأداء الإداري، والنظام التربوي. ويحتاج تخطي نقاط الضعف هذه سنوات عديدة، لذلك فإنه يتطلب رؤيا استراتيجية طويلة النفس تبلورها وتتبناها القيادات بجرأة وتحفّز المشاركة الفعّالة من جميع قطاعات الشعب. وبالرغم من أن المجتمع الفلسطيني يرزح تحت الكثير من مخلفات الماضي والتي لا زالت تحافظ على حيويتها، إلا أنه أيضاَ يبدي استعداداً وتشوقاً للتغيير. وهذا الاستعداد هو في حقيقة الأمر قوة كامنة أُهملت حتى الآن ولم تتم الاستفادة منها، لا بل فإن الشعب قد تحيّد في خضم الصراعات السياسية والهموم الاقتصادية.

في سياق تسارع التطورات العالمية والإقليمية فإن فلسطين لا تملك الكثير من الوقت لعكس المسيرة الحالية. نقطة البداية هي الاهتمام والإرادة من قِبل القيادات في جميع المجالات والمشاركة الفعّالة من مختلف قطاعات الشعب. وبعد ذلك تأتي سنوات من العمل الجاد.

http://www.miftah.org