سؤال الحياة والموت في ثلاثة أفلام..
العنف ضد النساء.. وثمن إنكار الحقائق

بقلم: غازي بني عودة
2011/1/4

الموقع الأصلي:
http://www.miftah.org/display.cfm?DocId=12272

هُسْ، فيلم قصير يكشف ضيق المساحة المتاحة لحياة المرأة في مجتمع ذكوري، "هُس" دعوة مجتمعية للصمت المطلق، وصدى الرفض في أشد صوره مأساوية، قتل الذات لمنع المجتمع من القيام بذلك، محاولة أخيرة للاحتجاج والدفاع عن النفس، او مجرد صفعة يائسة تفضح هشاشة المجتمع أمام الضحية.

بعض المشاهدين رأوا في انتحار الزوجة في فيلم "هُسْ" مبالغة في ردة الفعل، لكننا ما لبثنا أن شاهدنا أُماً حقيقية تتمنى الموت في فيلم "الخبز المر" في حين أبدى فريق آخر من جمهور مهرجان الافلام الوثائقية معارضة شبه صريحة لمعالجة العنف الجنسي الذي تناوله فيلم " ليش" *.

وتظهر هذه الاراء اتجاهاٌ مجتمعيا واسعاً، لا زال يرفض مجرد الحديث عن بعض القضايا عبر تقزيم حدودها وآثارها تارةً أو من خلال رفض طرحها، وصولا الى قسم لا زال يصنفُ العديد من أشكال العنف الذي يطال النساء كممارسات "طبيعية" ليست عنفاً!! في "هُسْ" ( وهو فيلم درامي)، اختارت بطلة الفيلم مصيراٌ رأتهُ مماثلاً للاستمرار مع من لا تريد، الانتحار ووضع حد لحياة تساوت في لحظة معينة مع الموت.

قد يَرجحُ ميزان الموت في اللحظة التي يوضع الانسان أمام خيارات قاسية لا يحتملها، هكذا رأت المساحة الفاصلة بين الحياة والموت تدمر على أيدي أقرب الناس لها، الجميع، ُيلوحون أمامها بتهمةٍ وحكمٍ مسبقين سيجهزان على كل ما قد يربطها بالحياة، الامُ تدعوها لابتلاع عقلها ومشاعرها ورغباتها مع لسانها والتزام صمت أبدي، والصديقةُ أشهرت أمامها سلاحا آخر اسمه المطلقة بكل يستجمعه المجتمع من تداعيات سلبية وأعلنت " ألا تعرفين ماذا يعني ان تكوني مطلقة؟ خطيبك انسان جيد، أنت أنانية..." هكذا دفع الجميع بالضحية الى آخر خياراتها، خطيبها ومنطق العقل، لكن هذا أطبق عليها الخناق " تراجعك ورفضك يعني أن هناك شخصا آخر في حياتك"!!

عنوانٌ جذابٌ لمجتمعٍ يناصب نسائه الاتهام في كل موقف وحركة، عنوانٌ مصمم لاستقطاب عداءٍ تلقائي من المجتمع بل انه يرقى الى أن يصبح دعوة مباشرة للقتل، القتل الجسدي أو المعنوي لمن "دنست الشرف".

في فيلم "هُسْ" اختارت البطلة أن تنهي حياتها بيدها حين أحست أن استمرار حياتها بات موازيا للموت بل ربما رأت في الموت حياة أكثر من أن تستمر على قيد نبضها وهي ملاحقة بنظرات واتهامات، وربما باعتداءات من اقرب الناس لها ناهيك عن المجتمع.

المفارقة الاهم والاكثر بلاغة (التي نجح الفيلم في اظهارها) لا تنحصر في تمكين الضحية من الكلام فحسب، بل ربما تكون فيما عبر عنهُ قسمٌ من الجمهور، بعد أن استمعوا لرواية الضحية حيث راى بعضهم ان المشكلة التي واجهتها بطلة الفيلم "لا تستحق أن يخسر الانسان حياته من اجلها"!

بكلمات أخرى "لا بأس أن تذعن المرأة لما يريده المجتمع، وتلتزم الصمت حيال ذلك" هذا ما أفصح عنه قسم آخر من الجمهور عبر مطالبتهم بـ "أن تكون الافلام ايجابية لا سلبية" ما يُظهرُ رفضاً مجتمعياً لمجرد الحديث عما يجري او فضح قسوة مجتمعنا واعتبار ذلك عملا سلبيا !!

وفي المقابل فقد دافعت الطالبة راية عروب التي أنتجت هذا الفيلم وصاحبة الفكرة عن عملها وقالت:" لقد عرضت ما يحصل بالفعل لبعض الفتيات" لافتة الى ازدياد الانتحار بين الشباب وأن "ما حصل مع بطلتنا في الفيلم يمثل جزء من الاسباب الدافعة للانتحار".

واوضحت:" فكرة الفيلم حقيقية وقد ظهرت عندي أثناء اقامتي في سكن الجامعة حيث روت احدى الفتيات قصة شابة حاولت الانتحار عدة مرات بسبب ضغوط أهلها ومحاولتهم اجبارها على الزواج من شخص دون رغبتها، وهو أمر يتكرر في مجتمعنا".

ولكن هل كانت راية عروب تبالغ في فيلمها؟ وهل ذهبت بخيالها بعيداً عن الواقع كما حاول البعض حين ذهبوا لتبسيط ما تعرضت له الضحية والقول "انه لا يستحق ردة فعلها" او عبر التلميح لسوداوية او سلبية ارتكز عليها هذا العمل؟!

أسئلة نجد اجاباتها في محيطنا ان أردنا؟ ونظرة فاحصة لبعض الدراسات أو الاحصاءات المتصلة بقضايا الانتحار تظهر أن ما قدمه الفيلم يمثل تعبيراً حقيقيا عما يجري في المجتمع الفلسطيني والعديد من المجتمعات العربية.

وبجانب مجموعة الارقام المتعلقة بالانتحار التي تختتم عروب فيلمها بها فان سجلات الشرطة تظهر جانبا آخر لا يقل أهميةً عن اتساع هذه الظاهرة، ألا وهو تركزها بين النساء واسباب ذلك. وذكر الرائد حقوقي علي القيمري رئيس الدائرة القانونية في قيادة الشرطة الفلسطينية في حديث صحافي حول محاولات الانتحار التي سجلت العام الماضي (خلال الشهور العشرة الاولى من عام 2009 سجلت 254 حالة اسفرت عن وفاة 14 شخص) أن 70% من مجمل محاولات الانتحار التي وثقتها الشرطة الفلسطينية في الضفة الغربية قد سُجلت بين الاناث!!

ويصف القيمري الانتحار بأنه "محاولة لنقل رسالة او انذار للاهل او الزوج او لاي طرف آخر، إنه محاولة للتنبيه من هؤلاء أنهم بلغوا درجة عالية من التذمر".

وتتقدم الاسباب الاجتماعية وما يتصل بذلك من عنف أسري ونظرة محافظة للمرأة ومشاكل عائلية مجمل الدوافع التي قادت هؤلاء الاشخاص للانتحار، تليها الاسباب الاقتصادية، والمعيشية القاسية، كما يتضح من بعض محاولات الانتحار المسجلة في الاراضي الفلسطينية.

وتتداخل الاسباب الاجتماعية والاقتصادية في كثير من الاحيان (خاصة تلك المرتبطة بالمراة) والضغوط والعنف الذي تتعرض له اعداد كبيرة من النساء ما يقود في المحصلة الى انهيار بعضهن ومحاولة الانتحار. وتظهر سجلات الشرطة أن ما معدله 130 -150 حالة عنف أسري ترد الى مقرات الشرطة شهريا، نحو 70% منها تطال الاناث! ليش...

ويقدم فيلم" ليش" وهو عمل درامي قصير جدا (ثلاث دقائق ونصف) كيف يتعاطى قسم من الرجال مع المرأة (الزوجة هنا)، كجزء من ملكية خاصة او كقطعة اثاث لا يحكم الرجل أي وازعٍ لفعل ما يريد بها، ووقتما يشاء!!

هكذا تستدل سلمى (في فيلم ليش) على قدوم زوجها من نداءاته وصراخه العالي للسؤال عن طعام يجب أن يكون بانتظار عودته، عودة يتخللها كلام فظ جارح يُِسقطُ عن الزوجة أبسط شروط كينونتها الانسانية، نموذج يعيش بيننا، ويستطيع كثيرون منا أن يؤشروا لحالات مماثلة يعرفونها او سمعوا عنها على الاقل.

وتصبح كلمات مثل " إنصرفي، إخرسي، ما بدي أسمع صوتك، جيبي الاكل" وما يتخللها من صراخ جزء من قاموس وخطاب يومي يتوجب على الزوجة (سلمى) إحتماله والاستسلام لكونها أُنثى ُخلقت "لخدمة الرجل" حسب مفهوم او عرف اجتماعي لا زال يشكل منطلقا لاوساط واسعة في بلادنا.

وما تلبث الزوجة (بعد هدوء عاصفة التعنيف المرافقة لتناول الطعام) حتى تستجمع قسطا من الشجاعة وما منحتها انوثتها من لطف، وتطلبُ من زوجها بعض نقود لمنزل متواضع فقير التاثيث، حتى تنهال عليها موجة أُخرى من التانيب والتعنيف وكانها ارتكبت جرما لمجرد أنها ابدت رأيا في حياة يفترض أن تكون حصيلة تفكير مشترك.

ويتوج الطلبة قاسم صالح ورندة عورتاني وطارق حجاوي فيلمهم " ليش" بذروةٍ أُخرى تفضح النظرة الدونية للمراة والدور الذي يتوخاه الرجل منها في مجتمع لا يعترف بها إلا كعنصر او جزء من مقومات متعه، حيث ما يلبث الزوج بعد كل ما سلف من تعنيف واذلال أن يقتاد زوجته الى فراش النوم بما يحمله ذلك من تحقير لانسانيتها، وكأنها كائن منزوع الاحاسيس، وُجد لخدمته او وعاءً لرغباته وشهواته!!

ويقول هشام عيروط منسق مشروع الاتصال السكاني الذي تابع الطلبة أثناء إنجاز أفلامهم :" فيلم "ليش" هو ثاني فيلم درامي قصير ينتجه الطلبة، وفكرته تتناول العنف اللفظي والجسدي والجنسي الذي تتعرض له المرأة وتحديدا الزوجة، وهي حالة موجودة في الكثير من الاسر رغم أن المجتمع يحاول إخفائها، وما قدم ليس إلا ومضة لاثارة هذه المسألة".

واضاف:" كان إنتاج الفيلم تحدياً للواقع نظراً لحساسية المجتمع تجاه الموضوع الذي يتناولهُ وخاصة في الجزء الاخير منه (ما يتصل منه بالعنف الجنسي)".

واظهر إنتاج وعرض هذا الفيلم، مدى ما يمتلكه المجتمع من سطوة تجاه افراده بمن فيهم أُولئك الذين يعارضون بعض أنماط السلوك والمفاهيم القائمة.

ويتضح ذلك من مخاوف أبداها الطلبة الذين انتجوا هذا العمل الذي حاول مجرد الاسهام في إثارة نقاش إزاء بعض ممارساتنا. وخاض الطلبة (اصحاب فكرة الفيلم) نقاشا طويلا بشان المشهد المتعلق بالعنف الجنسي، وترددوا لدرجة التفكير بالتخلي عن هذه الجزئية التي تمثل جزء هاما من الفيلم خشية ردود فعل المجتمع تجاههم وخاصة تجاه الطالبة التي مثلت دور الزوجة (رندة عورتاني).

وقالت عورتاني تعقيبا على ما أثاره الفيلم من نقاش بعد عرضه في مهرجان الافلام الوثائقية:" بشكل عام كانت ردود فعل الناس ايجابية ومساندة لنا في هذا العمل، وقد رحبوا به ورأوه جريئاً نظراً لانه حاول معالجة قضية حساسة في مجتمعنا ( العنف الجنسي) لكن الامر لم يخلُ من ردود سلبية بين الطلبة الذين إنطلقوا من آراء ومفاهيم سلبية مسبقة ورافضة لفكرة الحديث عن مثل هذه القضايا".

ولم تُخفِ عورتاني ما انتابها وزملائها من مخاوف أثناء تصوير الفيلم لافتة الى "ان مقترحات عدة، متفاوتة في جرأتها، قدمت اثناء نقاشنا المشهد المرتبط بالعنف الجنسي".

ونجح فريق " ليش " في تقديم هذا المشهد بصورة ذكية أوصلت فكرتهم للمشاهد، قبل أن تظهر الزوجة (الضحية) وهي تسترجع شريطا من اشكال العنف المختلفة التي تعرضت لها.

وأظهر بعض جمهور المشاهدين إصراراً على رؤية هذا المشهد بمنظار مقلوب، فقد سعى قسم منهم لتبرير ممارسات الزوج بالقول" إنه هو الذي يتعرض للاضطهاد وان الزوجة قد أهانته وانه حين صفعها لم يَقُمْ بغير َردْ الاهانة" بينما إعتبر قسمٌ آخر سلوكيات الزوج وتعنيفه زوجته وإهانتها وإقتيادها بعد ذلك لممارسة الحياة الزوجية معها أمراً طبيعياً لم يروا فيه اي مساسٍ بانسانيتها ومشاعرها.

وفي المقابل فقد رحب فريق من المشاهدين بالفيلم ورأوا فيه عملا واقعياً، يعرض مشكلة قائمة وَجَدِية، ُتعانيها العديد من النساء وتوجب العمل على معالجتها في حين ذهب فريق رابع الى القول بان مستوى العنف الذي اظهره الفيلم باشكاله المختلفة ( اللفظي والجسدي والجنسي) يُعتبرُ بسيطاً وان قسماً من النساء يعانين مستويات أشد بكثر من العنف في مجتمعنا وهذا أمر يمكن الاستدلالُ عليه من دراسة أجراها جهاز الاحصاء المركزي الفلسطيني حول انتشار العنف الاسري في الاراضي الفلسطينية.

ووفقا للدراسة سالفة الذكر، الصادرة عام 2006 فان 62% من النساء اللواتي سبق لهن الزواج قد تعرضن لعنف نفسي بينما تعرض 23% منهن لعنف جسدي و11% تعرضن لعنف جنسي لمرة واحدة على الاقل.

وتتراوح شدة الاذى المرتبط بالعنف الجسدي الذي تعرضت له النساء اللواتي شملتهن الدراسة ما بين رمي أشياء مؤذية نحوهن أو شد الذراع أو الشعر أو الضرب على الرأس والجسد بالعصا او الحزام او التهجم بسكين او محاولة الخنق وصولا الى الحرق او الكي عن قصد.

وفي ذات الدراسة، فقد تم قياس العنف الجنسي، الذي طال 11% من النساء عبر خمسة مؤشرات، تفاوتت ما بين إستعمال القوة، لاجبار الزوجة على إقامة العلاقة الزوجية أو الضرب واستعمال أدوات حادة لاجبارها على إقامة أشكال مختلفة من العلاقة الزوجية غير الراضية عنها أو تهديدها لاجبارها على إقامة العلاقة الزوجية.

الخبز المر...

هل جرب أحدكم السَمن المصهور طعاماً وحيداً لأبنائهِ؟ أو ربما الخبز مع البصل أو الملح بعد أن عز الزيت، هل جربتم السكر في الماء بديلا عن الحليب لصغاركم؟؟!

أمرٌ تَفعلهُ ثلاثُ أُمهاتٍ جَمعهنَ زوجٌ واحد وأنجبَ منهنَ 28 طفلاً، لكن الرضيع ما لبث أن إكتشف خدعةَ السكر بعد أن تكررت، ما فَجرَ بكاء أُمه وهي تروي قصةَ عجزها في توفير الحليب لابنها، والخبز لاخوته، في فيلم "الخبز المر" الذي أخرجته الطالبة شذى السعدي. وامتداداً لما قدمه فيلم "هُسْ" وفيلم "ليش" فان السعدي تقودنا في "الخبز المر" الى مستوى آخر، مغاير، وغير مرئي للبعض من أشكال العنف.

تبدأ كاميرا السعدي جولتها في "الخبز المر" بين عدة حبال غسيل تصل خيمتين بائستين أُقيمتا فوق قمة ترابية على مشارف مدينة جنين لترصد نموذجاً صارخاً، يلخص كيف َيصمُ المجتمع آذانه ويغمض عيونه ويرفضُ أن يرى أحيانا ماذا يفعل بابنائه، وكيف تَدفعُ المرأة والاطفال (الفئات الاضعف) ثمن نزوات وعادات تساندها وتباركها القوانين السارية.

ويبرز في "الخبز المر" الفقرُ والظلمُ الاجتماعي في واحدة من أقسى صوره، وأكثرها غرائبية، هنا تتداخل الاسباب والشروط القانونية والاجتماعية والثقافية والاقتصادية وتتضافر بوضوح لتنسج خيوط حكاية عائلة تضم رجلاً تزوجَ من ثلاث نساء وأنجب منهن 28 طفلا وطفلة يعيشون دون أبسط مقومات الحياة، أما مبرراتُ الزوج (ومن خلفه المجتمع) فانه يريد "عزوة"، حتى لو عاشوا محرومين من الخبز!!

خيمتانِ يُغطيهما ما تيسيرَ من أكياسٍ، وبقايا لوحات إعلانية وأقمشة ومخلفات معدنية، قد تَمنحُ بعض الظل في الصيف، لكنها قطعاً لن تنجحَ في حماية "العزوة" من أمطار الشتاء ورياحه ناهيك عن برده، أما الحمامْ، فغايةٌ في البساطة، إبريقُ ماءٍ بارد، تصبهُ الامُ على جسد طفلها في العراء، بينما يبتسمُ الصغير لعين الكاميرا التي أطلت على جانب من مرارةٍ يعيشها وكتيبةً من إخوته وأخواته ...(في الخبز المر).

هنا يصبح صحنُ الحمص (الذي حاصرته جوقة الصغار المتسخين) فورَ ظهوره، وليمةً نادرة، وجبة غير متوقعة من الاطفال وأمهم التي لم تقاوم جوعها، وسارعت لتناول بعض لقيمات وهي تظهر في فيلم يسلط الضوء على واحدة من اشد حالات الفقر في فلسطين، أما وعاء الحمص البلاستيكي فلم يدم بين أيدي الصغار أكثرَ من ثلاث دقائق حتى تبخر وانتهى بين يدي طفل إستخدم كل أصابعه ولسانه لمعالجة ما علق على جوانبه من طعام...هكذا بدا مشهد أبناءُ حالمٍ بـ "ِعزوةٍ" يعجزُ عن توفير خبزهم، ويعتاشون على الصدقات!! " لا طعام، حين ينفذ الزيت، أُسيحُ السمن كي أُطعم الصغار، أحيانا أُطعمهم الخبز والملح، كثيراً ما أتمنى الموت... لماذا نعيش؟!" تنطق الزوجة (الثالثة او الصغرى) بسؤال يفرضهُ البؤسُ والقهرُ الذي وجدتْ نفسها وابنائها عالقين وسطه...سؤالٌ ربما قدم فيلم "هُسْ" بعضاً من الاجابة عليه، هل دفع المجتمع بامرأة اخرى لمعاناة من نوع آخر، زوجةٌ ثالثة ومزيداً من الجوعى والمقهورين لارضاء غرائز، واحلام رجل ومجتمع بـ "عزوة" أصبحت حبلاً يلتف حول أعناق كتيبة الابناء وأمهم !!

وتدخل الزوجة الثانية (وهي ام لاربع بنات ومثلهن من الذكور) المشهد، وتقول وهي تشيرُ الى أرضِ خيمتها الترابية:" هنا ينامُ الاولادُ وهناك تنام البنات، وفي هذه الاكياس نضعُ ملابسنا". وتضيف الام التي بدت أكبر من عمرها بكثير:" عدة مرات وجدنا أفاعي وعقاربَ تحتَ فراشنا، اربع او خمس أفاع قتلناها".

وكانت الزوجة الاولى لهذا الرجل قد هجرته برفقة ابنائها وتعيش بعيداً عنه منذ سنوات، لكن بعد أن ورثت فقراً مدقعاً ومعاناةً مزمنة لا زالت ترافقها ونحو عشرة من الابناء.

وتجيب شذى السعدي، مخرجةُ وصاحبةُ فكرة فيلم " الخبز المر" رداً على السؤال المتعلق بـ كيف يقبل بعض الاهالي تزويج ابنة لشخص متزوج من اثنتين وهو عاجز عن توفير الخبز؟ وتقول:" الامر مرتبط بمفهوم إجتماعي يلخصه القول العامي "ظل زوج ولا ظل حيط....هذا نمطٌ من التفكير لا زال يشكل دافعاً وجزء من قناعة البعض، خاصة عندما نتحدث عن الاوساط الفقيرة او الجاهلة".

وأثار الفيلم جدلا خلال مهرجان الافلام الوثائقية الذي نُظمَ مؤخراً في جامعة النجاح، وصل حدود ذهاب البعض عدم التصديق ومحاولة تكذيب وجود مثل هذه الحالات بين صفوفنا، وهذا ربما يكون أحد أبرز واهم ما قدمه الفيلم، الذي نجح على الاقل في تقديم هذه القصة الحقيقية والصارخة للمجتمع عله يتخذ اجراء ما!! ومن اهم ما قدمه الفيلم أن الزوج (الاب) يُدركُ عجزهُ عن توفير حتى خبز ومآوى ابنائه ونسائه لكنه يمضي في ذات الطريق، أما المجتمع بمختلف مؤسساته فانه لا يكترث بكل هذا، لا بل انه يقدم له زوجة ثانية وثالثة وربما رابعة إن اراد!!

وببراعة تذهب شذى السعدي الى نهاية" الخبز المر" وتختتمه باغنية تقول كلماتها "انا خوفي ع اولادي من ظلم الايام خوفي ع ارض بلادي ..خوفي ع الاحلام"....وكانها تود تحذيرنا من المضي في طريق ينتج مزيدا من الضحايا والمعاناة كما في الحالة التي قدمها الفيلم!!

------------------------------------------------------------------

• تعتبر الافلام الثلاثة (هُسْ، وليش، والخبز المر) جزءا من مجموعة الافلام التي تم إنتاجها وعرضها خلال مهرجان الأفلام الوثائقية الذي نظمته جامعة النجاح الوطنية بالتنسيق مع المبادرة الفلسطينية للحوار العالمي والديمقراطية "مفتاح" وصندوق الأمم المتحدة للسكان ومن خلال مشروع تمكين المرأة والمساواة بين الجنسين - برنامج تحقيق أهداف الإنمائية للألفية.

http://www.miftah.org