إضراب أسرى الحرية: الملح مرساة البطون
بقلم: عدلي صادق
2011/10/8

الموقع الأصلي:
http://www.miftah.org/display.cfm?DocId=13081

يحس واحدنا، إن كان أسيراً سابقاً، بمذاق الملح، كلما سمع أن اللاحقين من سجناء الحرية، قد أعلنوا إضراباً مطلبياً عن الطعام. وربما يكون وعينا الباطني، اختزن ملوحة الفكرة، منذ أن قام، أحد رفاق السجن، في ذات إضراب، وطاف علينا حاملاً بين يديه "قروانة" ملح، لكي يأخذ كل منا، ما يستطيع التقاطه بين الإبهام والسبابة، فيُحيله الى فمه ومن ثم الى جوفه. كان الأخ موزع الملح، كمن يؤدي دوراً لتثبيت البطون وتصليبها، لإعانتها، تالياً، على الخواء المديد. بل لعل خاطرة راودته، بأن البطن قارب أو شختورة، سيكون الملح مرساتها، حين تهجع وتأوي الى السكينة..!

* * *

في كل إضراب عن الطعام، كان هناك مشاركون ظرفاء، من كارهي تجربة الجوع، التزموا مع رهط زملائهم المناضلين. هؤلاء، وبدل اختيار الروح، وتجليات الفكرة، وفلسفتها، عنارين لأحاديث نهارات الإضراب ومساءاته الثقيلة؛ تراهم يستحضرون ما تيسر من ذكريات المائدة وأطايب الطعام، فتزيدهم تلك الأحاديث شقاء بما هي عليه بطونهم من فراغ..!

تلاحظون هنا، أنني أتحدث عن إضراب، لا عن صوم، تحاشياً للوقوع في المحظور الشرعي. فقد خلت فتاوي الأئمة الأقدمين، من أي حديث يقترب من الظاهرة الحديثة، وهي الاضراب عن الطعام، تحقيقاً لغاية رفع الظلم، وسعياً الى تنبيه الرأي العام الدولي، الى قباحات الأعداء. وعندما أجاز فريق مُعتبر، من الأئمة المجددين، الإضراب المفتوح عن الطعام، لتنبيه الرأي العام الى مظالم وممارسات لا إنسانية، يتعرض لها المعتقلون؛ اشترطت الفتوى أن لا يتحول الإضراب عن الطعام الى صوم، لأن هذا الأخير لا يجوز فيه الوصال، إذ له مواقيت إفطار لن يستطيل بعدها، ثم إنه عبادة لا يصح أن تتحول الى وسيلة احتجاج. والإضراب عن الطعام، كوسيلة احتجاج، ينبغي أن يترافق مع الحرص على أن لا يؤدي الى الموت، كما اوصت الفتوى..!

* * *

أسرى الحرية، ماضون في إضرابهم حتى تلبية مطالبهم. لقد رفضت إدارة السجون هذه المطالب يوم الثلاثاء الفائت، بذريعة مستنمدة من صلف المحتلين وغرورهم. فقد أرادوا وقف الإضراب، ليس مقابل تلبية المطالب الإنسانية، وإنما مقابل وعد بدراستها. وعند التدقيق في مطالب الأسرى، يتضح ميلهم الى التعاطي بواقعية مع وضعية الأسر المديد، فيلتمسون لأنفسهم حياة اعتقالية تعينهم على الاستمرار في صمودهم وفي صبرهم الأسطوري. وقد بات واضحاً، أن عتاة العنصريين المتطرفين، من أمثال أفيغدور ليبرمان، يضغطون في اتجاه تغليظ شروط الحياة التي يعيشها أسرى الحرية في السجون، لأن العزل الانفرادي للمناضلين، ليست له غايات أمنية حتى بالمعايير والحسابات المهنيّة التي يأخذون هم أنفسهم بها. كما أن تقييد المعتقلين أثناء زيارات ذويهم لهم إن أتيحت، هدفه إلحاق الأذى النفسي بعائلاتهم، وليست له أية غايات غير ذلك. هنا نكون بصدد سلوك فاشي. وعندما يطلب المعتقلون متابعة أحداث ووقائع وطنهم وأحداث المنطقة والعالم عبر التلفزة، فإن تلك هي حاجة ضرورية من حاجات الحياة الذهنية والفكرية، ولا يستغني عنها المسجونون في أي معتقل في العالم، تلتزم سلطاته بمعايير إنسانية!

من بين فلسفات الامتناع عن الطعام، في تاريخ الإنسانية القديم، كان المتخمون والمستريحون، يصومون لراحة نفوس المعذبين والمحرومين. وباعتبارنا لسنا من عباد الله المتخمين ولا من المستريحين، فلا أقل من أن نعمل على تنشيط السياسة والديبلوماسية، وفعاليات المجتمع المدني، لتنبيه العالم، عبر كل وسائل الاتصال المتاحة، بأن هؤلاء الذين يجثمون على صدرنا بآخر احتلال عسكري على ظهر البسيطة، يستزيدون من وسائل قمع وتعذيب ضحاياهم، فيحرمون الطفل من زيارة أبيه، وإن سمحوا للأم بأن تشاهد إبنها المعتقل، يصرون على أن تراه مقيداً في الأصفاد، ويزجون بالأسرى في زنزانات انفرادية، ويرفضون التسليم بالحق الطبيعي للإنسان في أن يتلقى تعليماً. نحن هنا، أمام قضايا ينبغي أن توضع برسم منظمات حقوق الإنسان، والحكومات التي تزعم الحماسة للعدالة وللسلوك الإنساني ومعاداة الفاشية. أما أسرى الحرية، فإن مطالبهم انبثقت عن فكرة صمودهم. بدأوا إضرابهم عن الطعام، وصمدوا، وكان ملح الصلابة هو مرساة بطونهم، طلباً لمقومات الحياة والصبر في السجن نفسه، وانفتاحاً على الأمل في الحرية..!!

* الكاتب يشغل منصب سفير فلسطين في الهند. - adlishaban@hotmail.com

http://www.miftah.org