بين اسقاط نظام وبناء نظام جديد : الشتاء ومن بعده الربيع قادم لا محالة
بقلم: د. لورد حبش
2011/11/28

الموقع الأصلي:
http://www.miftah.org/display.cfm?DocId=13214

شارك الشعب الفلسطيني الشعوب العربية التي تخلصت من الأنظمة العربية الاستبدادية فرحتها. وهو الآن كسائر الشعوب العربية يراقب ما يحدث في هذه الأنظمة. وتتجه الأنظار في هذه الأيام صوب مصر وما يجري فيها. وهناك تونس أيضا التي تعطي مثالا مشرقًا حتى الآن عن امكانية تكملة المسار السلمي للتحول. وتدور النقاشات في داخل الشارع الفلسطيني بين تيار متشائم وآخر متفائل لمسيرة الثورات العربية. فهل تستحق وصفها بأنها ربيع. ربما نحن اخطأنا في تسمية الثورات بالربيع، ومن الأفضل استعارة تسمية اخرى للثورات العربية من الكاتب العربي عبد اله بلقزيز وهي "شتاء الثورات". ولكن هذه التسمية ليس من قبل التشاؤم، فالشتاء هو موسم الخير ويليه الربيع وهذه سنة الحياة.

كفلسطينيين نعرف أهمية فصل الشتاء فمشكلة المياه والاستيلاء على مياهنا من قبل إسرائيل تجعلنا نتوق لفصل الشتاء ونترقب كمية الامطار التي ستهطل. فموسم الخير يبدأ من فصل الشتاء فهو الذي يبشرنا بالربيع. وقد يرافق نزول المطر الأعاصير أو الأمطار الكثيفة التي قد تؤذي المحاصيل. ولكن في النهاية وعلى الرغم من هذه الانتكاسات، الجميع يكون فرحا بالموسم الممطر.

فالثورة لكي تكتمل لا بد أن تمر بفصل الشتاء وصولا إلى الربيع. لذا اختزال الثورة في فصل واحد مخالف لقانون الطبيعة. فالمرحلة الأولى من الثورة التي يتم فيها إسقاط النظم الديكتاتورية وتقديم التضحيات الكبيرة من قبل الشعب الثائر تعتبر المرحلة الأقصر والأسهل عند مقارنتها بالمراحل اللاحقة. فهي أول الغيث، وعندها يبدأ العمل الأصعب وهو بناء النظام السياسي بشكله الجديد. فالثورة ليست مرحلة واحدة وانما مراحل متعاقبة تحمل في طياتها الفرح والحزن. ولا داع للتذكير أن الانظمة العربية خلفت وراءها تركة من الديون ورثها الشعب الذي انتفض. والديون ليست مادية فقط وانما هي تركة من الازمات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية. ولذا هل يتوقع أن يتم معالجة كل هذه الاشكاليات بين ليلة وضحاها.

والسؤال الذي يطرح نفسه هل هناك ضمانة على أن الثورة ستكمل مسارها الصحيح، أم هل الأفضل البقاء كما نحن بدون ثورة وبدون أي تغيير؟. سؤال مشروع يتم نقاشه في الشارع العربي. وربما يساعد التاريخ في الإجابة من خلال اطلالة سريعة على ثورتين سابقتين: الأولى تعتبر من أهم الثورات الكبرى في العالم وهي الثورة الفرنسية والتي حدثت في عام 1789 . أما الثانية فهي الثورة البرتقالية التي حدثت في اوكرانيا في عام 2004، والتي تعتبر من الثورات المخملية. وقد تم اختيار هاتين الثورتين من بين الثورات العالمية لأن مجريات هاتين الثورتين لم تكن مشرقة وبراقة. ولكن في النهاية ما وصلت إليه كل من فرنسا وأوكرانيا اليوم لا يمكن فهمه بدون الرجوع إلى مرحلة الثورة والتي غيرت مجرى التاريخ في هذين النظامين.

يعتبر كرين برنتون من أفضل المؤرخين الذين درسوا الثورات العالمية ومنها الثورة الفرنسية. فقد قسم برنتن في كتابه "تشريح الثورات" مراحل الثورة الى أربعة مراحل الاولى تبدأ بالاطاحة الفعلية بالحكومة ويتبعها حكم المعتدلين. ولكن حكم المعتدلين لا يدوم طويلا حيث يتم الانقلاب عليه من قبل المتطرفين. ويرافق حكمهم الارهاب وتنتهي الثورة باقصاء هؤلاء المتطرفين وعودة الوضع الى الحالة السوية. وهنا حسب برنتون يصل النظام السياسي إلى مرحلة النقاهة من حمى الثورة حيث تتميز هذه المرحلة بالتسامح ويسود فيها نوع من الارتياح الاجتماعي.

والثورة الفرنسية بعد أن اسقطت النظام الملكي وتحولت لجمهورية في عام 1792 لم تنته. فقد استمرت عشرة سنوات وانتهت بتسلم نابليون مقاليد الحكم محولا نفسه إلى امبراطور. فهذ الثورة التي رفعت شعارات براقة "الإخاء والمساواة والحرية"، اعتبرت من اكثر الثورات دموية حتى قيل في وصفها "الثورة تأكل ابناءها". فعلا فقد أكلت الثورة الفرنسية أبناءها ومنهم (روبسبير)، فانتهى به الحال مقاد إلى المقصلة حيث تم اعدامه. مثله مثل الوف من الفرنسيين الذين تم قتلهم في خضم حمى الثورة التي لم تفرق بين ابناءها وبين أعداءها. فهذه الثورة التي رفعت شعار الإخاء هي نفسها التي استخدمت المقصلة لقتل من تثبت ادانته بمساندة الثورة المضادة. فقد اعتبرت هذه المقصلة أداة تحقيق المساواة بين المذنبين. وقد شهدت الثورة الفرنسية أرعب أوقاتها في الفترة التي أطلق عليها " حكم الرعب". ولكن على الرغم من كل المآسي والانتكاسات التي مرت بها فرنسا في ظل هذه الثورة وما بعدها، هل يعتقد أنه كان يمكن لفرنسا أن تتحول إلى دولة مؤسسات كما هي اليوم بدون حدوث هذه الثورة. لا يمكن لأحد أن يجيب على هذا السؤال ولكن ما هو مؤكد أن مسار التحول وانهاء الحكم المطلق بدأ مع الثورة الفرنسية.

أما الثورة الاوكرانية والتي تعتبر من الثورات المخملية فقد انطلقت في آواخر نوفمبر2004 واستمرت حتى يناير 2005. ابتدأت هذه الثورة على أثر الجولة الثانية من الانتخابات بين المرشحين (يوشينكو) و(يانوكوفيتش) حيث ساد الاعتقاد أنه قد تم التلاعب فيها لصالح (يانوكوفيتش). وعلى نفس النهج المتبع في الثورات المخملية كان الاوكرانيون يتظاهرون يوميا وبشكل سلمي فى العاصمة كييف. فقد عمت المظاهرات ارجاء اوكرانيا ورافقتها الإضرابات. وفي النهاية نجحت الثورة حيث اعلنت المحكمة العليا في اوكرانيا إلغاء نتائج الانتخابات ودعت إلى انتخابات جديدة. وبالفعل اثبتت نتائج الانتخابات المعادة ان هناك تزوير حيث تم الإعلان عن فوز (يوشينكو) ونصب الرئيس الثالث لأوكرانيا. وكانت حليفته في هذه الثورة المرأة الحديدية (يوليا تيموشينكو). ولكن حكاية الثورة الأوكرانية لم تنتهي عند هذا الحد، فالتحالف بين زعماء الثورة البرتقالية (يوشينكو) و(تيموشينكو) ما لبث أن تلاشى وظهرت الخلافات فتحولا من حليفين إلى غريمين. ومع حلول عام 2010 موعد الانتخابات الرئاسية فاز (يانوكوفيتش) في الجولة الفاصلة على (يوليا تيموشينكو).

والسؤال هل علينا أن نفقد الايمان بالثورات بسبب نجاح (تيموشينكو) في الانتخابات أو لأن التحالف بين الثوار لم يستمر. فما جمعته الثورة فرقته الخلافات والمصالح الشخصية. بمعنى أن الثورة لم تحقق الكثير. فهي اعادت إلى دفة الحكم من زور في الانتخابات. إذا سلمنا بذلك معناه أننا لم ندقق في نقطة مفصلية وجوهرية. صحيح أن الثورة لم تستطع تحقيق كل أهدافها من القضاء على الفساد وتحسين الوضع ألاقتصادي ولكنها على الأقل رفضت قبول رئيس دولة غير شرعي قام بتزوير الانتخابات. فشرعية رئيس البلاد مصدرها الشعب. ف(تيموشينكو) على الرغم من أنه وصل عام 2010 لدفة الحكم، ولكنه حصل عليها بأصوات الشعب وليس عن طريق التزوير فالشعب اختاره بمحض ارادته. فقد يكون الشعب اختاره ليس ايمانا به، وإنما ردا على فشل قيادي الثورة في تحقيق ما وعدوا به. ولكن يبقى أن الشعب هو الذي اختار. وهذا يدل على أمرين أن الشعب واعي وهذا يعطينا أمل اكثر بالثورات ومسيرتها. فالثورة تحاسب أبناءها إذا أخطئوا ولم يف بالوعود. فالشعب ليس مقاد كالدواب وراء القائد على غير هدى. فما حققته هذه الثورة أن الانتخابات يجب أن تكون حرة ونزيهة وأن الشعب مستعد أن يحاسب من يتولى مقاليد الحكم إذا أخطأ، حتى لو كان قائد الثورة.

كل ما كتب سابقا لا يعني بأي حال من الأحوال أن الثورات العربية لن تحقق مطالبها أو ستواجه عراقيل أو سيتم اجهضاها. فالثورة هي حقيقة وليس وهم، ولكنها تحتاج إلى وقت لكي تؤتي ثمارها. )فالعالم قد خلق في سبعة ايام( فلا داعي للاستعجال واصدارالأحكام المسبقة. فعلى الأقل هذه الشعوب اختارت التغيير بعد أن كانت مسيرتها محتكرة من قبل الحاكم وحاشيته. فتفائلوا فربيع الثورات العربية قادم لا محالة.

http://www.miftah.org