'حكاية' الاستثمارات الفلسطينية 'الخيالية' في إسرائيل
بقلم: معا - نعمان كنفاني
2011/12/8

الموقع الأصلي:
http://www.miftah.org/display.cfm?DocId=13250

اقتصاد الضفة والقطاع لا يمثل اكثر من 3% من اقتصاد اسرائيل ..فكيف يمكن ان يساهم بتمويل 40 % من الاستثمارات الأجنبية فيها؟

دافع عيسى سميرات عن رسالة ماجستير في جامعة القدس بعنوان "محددات الاستثمار الفلسطيني من الضفة الغربية في إسرائيل والمستوطنات".

وأشرف على الرسالة، كما ترأس لجنة مناقشتها وإقرارها، الدكتور محمود الجعفري. حظيت الرسالة، منذ ان تمت اجازتها في 23 تموز 2011 ببعض الاهتمام في وسائل الإعلام. ولكن شهرتها لم تطبق الآفاق وتنتشر سوى عقب قيام صحيفة "هاآرتس" الإسرائيلية بنشر مقال موسّع حول الدراسة كتبته الصحافية المعروفة عميرة هاس في 22 تشرين الثاني الماضي. وجاء هذا الاهتمام بسبب النتيجة الصارخة وغير المعقدة التي توصل لها البحث: ان استثمارات فلسطينيي الضفة الغربية في إسرائيل والمستوطنات تتراوح بين 2.2 و 7.8 مليار دولار. وتشير الى انه لو تم استثمار هذا المبلغ في الأراضي الفلسطينية ذاتها لكان بالإمكان خلق 223 ألف فرصة عمل محلية ...الخ.

الصحافة في كل أنحاء العالم، كما في الأراضي الفلسطينية، عجولة ونزقة ولا وقت لديها للتمحيص الكثير. وهي تعشق الارقام والرسائل الواضحة وغير المعقدة. والنتيجة التي تدعي الدراسة انها توصلت لها )مدعومة بمكانة الصرح العلمي الجامعي الذي خرجت منه( تحتوي على كافة عناصر الاثارة الصحفية: الفقير يستثمر امواله عند الغني ويحرم اخاه الفقير، شبهات تعاون وعمالة، ان بؤس الفلسطيني هو نتيجة سوء ادارة وطمع وجشع، وان هناك تقصير من السلطة سواء بعدم توفير مناخ مناسب للاستثمار او بعدم ردع هروب رؤوس الاموال الى الأعداء....الخ.

سوف نتطرق في هذا المقالة الى منهجية ونتائج الرسالة الجامعية، ثم نتعرض الى نقدها، وأخيراً نقدم خاتمة مختصرة.

الرسالة الجامعية: المنهجية والنتائج

السؤال الرئيسي في الرسالة هو: "ما هي محددات تدفق الاستثمارات الفلسطينية من الضفة الى اسرائيل والمستوطنات"؟ حدد المؤلف ان هناك عوامل طاردة للاستثمار )من الضفة( وعوامل جاذبة لها)من اسرائيل والمستوطنات(، وقام باقتراح مجموعة من العوامل المؤثرة وزعها تحت خمسة عناوين:

* عوامل شخصية لدى المستثمر: معرفة اللغة، التعليم، العمر...

* عوامل اقتصادية: توفر البنية التحتية، سعة السوق، توفر التكنولوجيا.

* البيئة المحلية: الوضع السياسي، مخاطر الاستثمار، القيود على الحركة والاستيراد والتصدير.

* قدرة المستثمر: توفر المعلومات، التمويل، الوصول.

* عوامل خارجية: علاقات اسرائيل التجارية الدولية .

ومن أجل تحديد مدى تأثير كل عامل من هذه العوامل على الاستثمار الفلسطيني في اسرائيل قام الباحث بوضع استبانة تحتوي على نحو 45 سؤالا. ثم قام بانتقاء عينة من رجال الأعمال والمستثمرين الذين يحتمل ان يكون لهم استثمارات في اسرائيل. وقام باختيار العينة )ليس من الواضح تماماً كيف( من بين ال 16 ألف شخص الذين حصلوا على تصاريح دائمة لدخول اسرائيل في العام 2009 / 2010 . وبلغ عدد الاجابات السليمة على الاستبانة 374 إجابة. أهم سؤال للمبحوثين في الاستبانة كان التالي: "ما هو حجم نشاطك الاقتصادي السنوي في اسرائيل؟" والإجابة على هذا السؤال محددة بواحد من عشر إمكانيات: تبدأ من أقل من 100 ألف دولار، ثم بين 100 و 250 ألف دولار، وانتهاءً ب 4- 5 ملايين ثم أكثر من 6 ملايين دولار. هذا السؤال والجواب عليه مهمان ، لانهما يحددان قيمة المتغير التابع )الاستثمار في اسرائيل والمستوطنات( الذي يتوجب تفسيره بواسطة المتغيرات المستقلة )الاجوبة الأخرى على اسئلة الاستبانة التي تغطي العوامل الشخصية والاقتصادية وغيرها للمبحوث(. أثر عملية تحليل "انحدار"

regression( ( بسيطة بين المتغيرات المستقلة والمتغيرات التابعة المستخلصة من الاجابات على الاستبانة توصل الباحث الى مجموعة من النتائج. وهذه النتائج ليس فيها ما يدهش او ما هو جديد: أهم العوامل الاقتصادية المؤثرة على الاستثمار في اسرائيل )او هروب رؤوس الاموال من الضفة( هي التالي حسب تسلسل أهميتها: عدم امكانية استيراد المواد الأولية، انخفاض درجة الثقة بالاقتصاد الفلسطيني، ضعف منافسة المنتجات الفلسطينية للاسرائيلية...الخ. كان بإمكان الرسالة ان تتوقف عند هذا الحد، ولكن يبدو ان الباحث لم يستطع مقاومة إغراء وضع تقدير للاستثمارات الفلسطينية في اسرائيل على الرغم من صعوبة، ان لم نقل استحالة، الاجابة على هذا السؤال بدرجة معقولة من الدقة. كيف فعل هذا؟ حسناً، أخذ إجابات الاستبانة عن "حجم النشاط الاقتصادي" للمبحوثين في اسرائيل. ووجد مثلاً ان 14 % منهم قالوا ان "حجم نشاطهم السنوي في اسرائيل" يزيد على 6 ملايين دولار ) 21.7 % ذكروا ان "حجم أعمالهم" اقل من 100 ألف(. ثم افترض لاسباب غير واضحة تماماً ان 11.2 % من ال 16 ألف فلسطيني الذين حصلوا على تصاريح دخول لإسرائيل هم مستثمرون )اي 1,792 شخص(. وأخيراً قام بتعميم نتائج العينة على هؤلاء الأشخاص. فمثلاً بلغ عدد الأشخاص في العينة الذين قالوا ان اعمالهم في اسرائيل تزيد على 6 مليين 52 شخص ) 14 % من افراد العينة ال 374 شخص(. وعلى افتراض ان اعمال كل منهم تبلغ 6 ملايين يكون مجموع اعمالهم في اسرائيل

312 مليون دولار. الآن عند أخذ نسبة 14 % من 1,792 شخص يصبح عدد من "يستثمر" 6 ملايين او أكثر من ذلك 250 شخص، وقيمة "استثمارات" هؤلاء تصبح نحو 1.5 مليار دولار. وعند تطبيق الاسلوب ذاته على بقية خانات حجم الاعمال التسعة )اقل من 100 الف دولار، بين

250-100 ...الخ.( توصل الباحث الى ان "قيمة الاستثمارات الفلسطينية" في اسرائيل تتراوح بين 2.2 - 2.5 مليار دولار. أثر ذلك قام الباحث بوضع افتراض اكثر جرأة: ماذا لو كان كل الاشخاص الذين حصلوا على تصاريح دخول لاسرائيل ) 16 ألف( مستثمرون؟ بتطبيق المنهجية السابقة على 16 ألف شخص تقفز "الاستثمارات" الفلسطينية المفترضة في اسرائيل الى ما بين 3.8 و 7.8 مليار دولار. هذه هي النتائج الصارخة التي خلبت ألباب الصحافيين والمعلقيين.

نقد المنهجية والنتائج

هناك اشكاليات وافتراضات عديدة غير مبررة في الدراسة. سوف نتطرق هنا الى أهمها وفقط بالعلاقة مع تقدير "حجم الاستثمارات المباشرة " الفلسطينية في اسرائيل. الدراسة في واقع الأمر لا تقيس على الإطلاق ما تدعي انها سوف تقيسه، اي "الاستثمارات الفلسطينية في اسرائيل". السؤال الذي طلب من رجال الاعمال الافتراضيين الاجابة عليه في

الاستبانة ينص حرفياً على التالي: ما هو "حجم نشاطك الاقتصادي السنوي في المناطق الاسرائيلية"؟ اي ان السؤال يتعلق بحجم الأعمال )ال ) turnover وليس الاستثمار. اي ان البحث يخلط تماماً بين من يشتري بضاعة من اسرائيل ومن يستثمر في اسرائيل. هذا في الواقع ينفي اي ادعاء للرسالة يتعلق بتقدير "الاستثمارات الفلسطينية في اسرائيل" ويستوجب إعادة كتابة البحث بشكل كامل. ان أول درس يتعلمه تلاميذ الاقتصاد والمحاسبة هو التمييز بين الاستثمار للدلالة على الزيادة في رأس المال وبين مبلغ الصفقات التي تنفذها الشركة، وهذا ما لم تفعله الدراسة. لا تتطرق الدراسة الى المثالب والحدود النظرية المعروفة لاسلوب الانحدار الخطي ) )regression او علاقات الارتباط ) correlation ( بين المتغيرات المستقلة والتابعة. هناك في الواقع اخطاء جسيمة للغاية في التحليل الاحصائي تلقي بظلال سوداء كثيفة من الشك على النتائج وعلى كفاءة الباحث في اجراء التحليل الاحصائي. كما تكتفي الدراسة بذكر أنه "تم توزيع الاستبانات على افراد العينة داخل كل محافظة بطريقة عشوائية غير منتظمة بمساعدة الغرف التجارية الفلسطينية ومركز "بال تريد" والاتحادات الصناعية والنقابية المختلفة وبمساعدة فريق من المتطوعين في كافة المحافظات الذين تم تدريبهم لهذه الغاية" )ص. 61 (. لا شك ان هذه العملية المعقدة والصعبة كانت بحاجة الى تفصيل اكبر بكثير. ويبدو لي ان هذا العمل يحتاج في واقع الامر الى قدرات وإمكانات فريق متكامل مدعوم بمؤسسات رسمية وإمكانات مادية كبيرة نسبياً لتحقيقه. ولكن المؤلف لا يوفر لنا معلومات اضافية لتعزيز الثقة باسلوب اختيار وجمع المعلومات من العينة. تقول الدراسة ان هناك امكانية امام فلسطينيي الضفة الغربية لتسجيل شركات واعمال في اسرائيل، وان عدداً من المستثمرين لديهم أعمال مسجلة، ولكنها لا تتابع هذا الامر عبر الحصول على معلومات من المصادر الاسرائيلية وذلك لاختبار مدى دقة وصدق الاجابات التي تم بناء الدراسة عليها. هناك أيضاً امور تتعلق بالمنهجية، اذ هناك افتراض بأن كل من حصل على تصريح دخول الى إسرائيل هو "مستثمر" )ليس مستثمراً محتملاً، بل مستثمراً أكيداً( . اذ لا تحتوي الاستبانة على السؤال البديهي الأول: هل أنت مستثمر؟ وكل من اجاب على الاستبانة يفترض ان "استثماراته" في اسرائيل تبلغ 100 ألف دولار على الأقل. كذلك ان الاستثمار في القدس الشرقية هو استثمار في اسرائيل. تفترض الدراسة ان كلفة خلق كل فرصة عمل في الضفة الغربية تساوي 10 آلاف دولار وان هذا الرقم مستخلص من احصاءات القوى العاملة )ص. 111 (. لا يمكن بالطبع استخلاص هذا الرقم من احصاءات القوى العاملة، كما ان معظم المراجع لدينا تضع الرقم على 25 الى 30 الف دولار. تعاني الرسالة من ركاكة لغوية الى درجة تثير الحنق، ومن اخطاء مفاهيمية واضحة جدا، ومن التكرار ومن ضعف التوثيق. يكفي ان اشير الى ان الجدولين الرئيسيين في الدراسة لحساب "الاستثمارات الفلسطينية في اسرائيل" )ص 93 و 94 ( مترعان بالاخطاء الحسابية، وان البحث يقول مرة انه تم استبعاد 15 من الاستمارات ) 61.p ( ثم يقول انه تم استبعاد 24 )ص. 76 (، وان معظمهم الاسماء الانجليزية مكتوبة بشكل خاطئ بالعربية... الخ. هناك اخيراً جملة من المسائل لا يتحمل البحث او الباحث المسؤولية المباشرة عنها وان كان لم يبذل الجهد الكافي للحيلولة دونها. وتتعلق هذه بالانطباع الذي خلفته نتائج البحث بأن التعاون مع الاحتلال على اشده وان وإنهيار الأخلاقية الوطنية يكاد ان يكون شبه كامل. هذا الانطباع الذي خلقته بعض التعليقات والمراجعات يتجاهل ان جزءاً مهماً من النشاط الاقتصادي لسكان الضفة هو مع المقدسيين ومع فلسطينيي ال 48 )نتائج الاستبانة تقول ان 53 % من مشاريع اهل الضفة في اسرائيل هي مشاريع شراكة مع مقدسيين او فلسطينيي 48 او مملوكة بالكامل منهم وان 9% فقط هي بالشراكة مع اسرائيليين يهود(. كذلك ان جزءاً )مهماً على الارجح( من النشاط الاقتصادي لفلسطينيي الضفة في اسرائيل مرتبط ومكمل وضروري لنشاطهم الاقتصادي في الضفة الغربية ذاتها )مثلاً مخازن تسويق لمنتجاتهم للبيع في اسرائيل، وامتلاك شاحنات لنقل منتجات بكلفة اقل من وإلى اسرائيل او للتصدير عبر الموانئ الاسرائيلية(. في الواقع ان المؤلف نفسه يعتبر ان الاستثمار الفلسطيني في اسرائيل هو "إبداع" اذ ان "سياسة الاحتلال لم تستطع طمس المبادرات والابداعات الفردية الفلسطينية رغم كل محاولاته لتعميق الاحتلال الاقتصادي" )ص 114 (. السؤال الذي يبقى هو: ما هذا الذي حصل للإعلام المقروء والمسموع والمرئي )ولعدد لا يستهان به من السياسيين الفلسطينيين ايضاً، لا بل وبعض الاكاديميين(، حتى يفقد صوابه الى هذه الدرجة ويتبنى الاشادة بتحليلات وتوصيات رسالة جامعية ضعيفة الى هذا الحد؟ قد يقول البعض ان التدقيق والتمحيص هو مهمة المشرف الاكاديمي وليس مهمة الصحافة والاعلام. لا شك ان اخذ نتائج الدراسة والارقام على انها "محكمة"... "دراسة قيمة"... "ظاهرة خطيرة" ... "جريمة أخلاقية وطنية" ... "طعنة في الظهر".. )تعابير مأخوذة من مقالات نشرت حول الرسالة( جاء نتيجة "اعتمادها" من صرح اكاديمي من جهة، ومن صحيفة مهمة مثل "هاآرتس" وليس لان المعلقين اطلعوا عليها حقاً. ولكن أيضاً يصعب ان نفهم كيف يمكن لشخص ان يقبل دون نقاش وتساءل ان 40 % )على الاقل( من إجمالي الاستثمارات الاجنبية في اسرائيل جاء من مواطني الضفة الغربية في العام 2009 ! )ص

114 (. اقتصاد الضفة والقطاع الذي لا يمثل اكثر من 3% من اقتصاد اسرائيل يساهم بتمويل 40 % من الاستثمارات الاجنبية فيها؟ هذه تذكر بحكايات النملة والفيل حيث جوهر الفكاهة في تلك النكات ان اكتشافها لا يحتاج الى تمحيص كثير!

http://www.miftah.org