أكاذيب الغرب الكبرى: الديموقراطية وما شابه ذلك
بقلم: د.أحمد رفيق عوض
2012/1/16

الموقع الأصلي:
http://www.miftah.org/display.cfm?DocId=13379

الغرب ليس غربا واحدا و لا متجانساً ايضاً, و فلسفة الغرب ليست واحدة أيضاً, ولكن المقصود بالغرب في هذا المقال هو ذلك الغرب الاستعماري الامبريالي المتوحش,صاحب المقولة الاستعلائية و العدائية و حتى العنصرية, الغرب هنا هو ذلك السياق الفكري الذي يرى في نفسه انه مركز العالم و اساس التاريخ و نهايته, و ان مسيرته واهدافه و مرجعياته و ادواته هي مسيرة العالم و نهايته أيضاً,الغرب هنا هو ذلك الغرب الذي يعتقد ان مسار البشرية يبدأ و ينتهي به, و الغرب في هذا كله يستند الى انتصارته و انجازاته و اختراقاته,فقد سيطر على الارض و شعوبها,و على الطبيعة و اسرارها أو كاد,و استطاع ان يقدم صيغة سياسية و اجتماعية تعمل و ما تزال بقليل من الاضرار و المفاجات, و هو في ذلك كله يقدم نفسه موضوعيا و علميا و محايدا و مصقولا و انسانيا,فنا و فكرا و هيئات دولية, و لان هذا الغرب يعتقد انه مركز العالم والنخبة البشرية فيه,فإنه- و كعادة كل قوي على مر التاريخ- يفرض ذوقه و مزاجه و لغته و عملته و قوانينه و مصطلحاته على الجميع, ان مغنية ماجنة و مدمنة في نيويورك أو باريس مثلا تتحول بين ليلة و ضحاها الى"نموذج" شبابي و حداثي و فني رفيع, و على ذلك يمكن القياس. و فيما يخصنا نحن الفلسطينين و العرب,فإن هذا الغرب لا يكوينا فقط بالاحتلال و الاستلاب و المصادرة و التهميش و الابتزاز, و انما يكوينا و يكوي وعينا من خلال تقديم تصوراته عنا باعتبارها الفكر الحداثي و المنهج العلمي و الصورة الاخيرة,هذا الغرب الذي يشوهنا في وعيه يقدم هذه الصورة المشوهة لنا من خلال الكتاب و الفيلم و التصريح السياسي و المصطلح الثقافي لتتحول في اذهاننا الى صورتنا الحقيقة, و هكذا نتشوه مرتين,الاولى في عدم اصالتنا و الثانية في تقبلنا لصورة مختلفة عنا و اعتبارها صورتنا الحقيقية. هذا الغرب يصدر لنا اكاذيبه و اوهامه و عقده و ازماته باعتبارها لنا و ان علينا ان نصدقها أو ندفع ثمنها أو نحتكم إليها, و هنا سرد لبعض هذه الاكاذيب التي لم نعد نقوى على مجابهتها أو حتى على مجرد القول انها اكاذيب.

فالكذبة الاولى هي الديموقراطية,فهذه مثلا نتاج لسيرورة تاريخية غربية,تم دفع ثمنها بالدم و الحروب الاهلية و لانقسامات التي لم تستطع حتى اتفاقية وستفاليا ان تنهيها,و الديموقراطية ليست مفهوماً عالمياً, فهو ديموقراطية داخل القبيلة, وهي مفهوم ثقافي يستند الى مرجعيات معينة,و هي ليست بداية السياسة و لا نهايتها, فالتاريخ لا يسير الى الامام دائماً.والاحتكام الى صناديق الاقتراع ليس الحكمة كلها و لا نهاية التاريخ ايضاً.فالناس هم الناس,اكانوا سكان المغاور او سكان الابراج,و لكن هذا المفهوم تحول لدى الغرب الى سلاح فتاك يبيح التدخل و السيطرة و لابتزاز, و لهذا رأينا الانظمة الديموقراطية الغربية تدعم الديكتاتورية, في اماكن كثيرة من العالم باعتبار ذلك جزءاً من "الثقافة المحلية" ,لنلاحظ كيف يتم التعامل بين "الثقافة العالمية" و "الثقافة المحلية".

اما الكذبة الثانية فهي حقوق الانسان و هذا مفهوم ملتبس و مطاط الى درجة تثير الشبهة, فمن هو الانسان المقصود بهذا الكلام, و في الترجمة العملية لهذا المصطلح,فإن حقوق الانسان هنا تعني حقوق الانسان الابيض المستعمر و القوي,فهو الذي يجب ان يتمتع بالنفط و الجبن و القطن و الكهرباء و الطرق المعبدة و الضرائب المخفضة و التعليم المتطور, أما شعوب الارض الاخرى فهي تستأهل ما يحصل لها باعتبار ان ذلك جزءاً من "الثقافة المحلية". و في الترجمة العملية لمفهوم حقوق الانسان, فإن الغرب المستعمر استعمل هذا المفهوم من أجل التهديد و الابتزاز و التدخل و التجسس و ما لا نعرف.

اما الكذبة الثالثة فهي القانون الدولي و ليس هناك قانون دولي ما دام القانون يعطي الحق لبعض الدول ان تفعل ما تريد و تحرم دولاً كثيرة فقيرة و ضعيفة منه,أولاً, اما ثانياً,فإن هذا القانون الدولي انتقائي و نخبوي في الزمان و المكان و الجهة المقصودة.و هكذا يتحول هذا القانون من قانون يتساوى الجميع امامه الى مساحة اخرى للتفصيل و التمييز و العنصرية البغيضة, و في الترجمة العملية لهذا القانون, فإن الضعفاء يدفعون ثمنه تماماً و يقدمون الترضيات و التسويات المذّلة, و في الترجمة العملية لهذا القانون, يحصل الغربي على سبعين نوماً من الجبن,فيما لا يجد السوداني الذي يربي الماشية منذ بدء الخليقة كسرة خبز واحدة.

اما الكذبة الرابعة فهي المجتمع الدولي, وليس هناك مجتمع دولي انما رابطة للاقوياء الذين يقررون,المجتمع الدولي لا يتكون من دول في غرب افريقيا أو في قلب آسيا أو في اعالي امريكا الوسطى, و في الترجمة العملية لهذا المفهوم,فإن المجتمع الدولي هو ما يقرره اصحاب المصالح ليس إلا.

و الكذبة الخامسة هي التنمية في العالم الثالث, وهو مفهوم استعماري بامتياز,فهو الوسيلة المثلى للتدخل و الهيمنة و استلاب ثروات البلاد, هذا المفهوم هو استبدال لمفهوم الانتداب الذي ساد ما بين الحربين الاولى و الثانية. و في الترجمة الفعلية لهذا المصطلح فإن دول العالم الثالث بلا استثناء انحطت الى مستويات من الفقر و الجهل و التبعية لم تبلغها أبداً قبل هذه النتيجة .

اما الكذبة السادسة فهي عولمة الافكار و السلع,و هي كذبة تفترض ان الناس متشابهون أو تفترض أنه يمكن تحويل الناس-كل الناس- الى مجرد مستهلكين لكل شيىء من خلال الاعلام و القوة و لابهار و الوفرة, اما الترجمة العملية لهذا المصطلح فهو استخدام الاقوياء لجهد و ثروات و اراضي و عقول الضعفاء, و من ثم تحويلهم الى عبيد بالمعنى الحقيقي للكلمة, ومن يفهم اساسيات الاقتصاد,فإن عولمة السلع تعني مزيداً من الفقر و مزيداً من الاستغلال تحت يافطات غاية في الانسانية و الروعة, و في مجال الفكر,فإن الترجمة الفعلية للمصطلح تعني استبدال الايدلوجيا بالتكنولوجيا و التحفة بالسلعة و الجماعة بالفرد و التعدد الثر بالشخصية العالمية التي تكتفي بعالم افتراضي عجيب.

اما الكذبة السابعة فهي السلم العالمي و هي تعني استبدال حروب الاقوياء بحروب الضعفاء,باعتبار ان الحرب ليست سيئة اطلاقاً,فهي ضرورية للاقتصاد و لبقاء الديموقراطية و حقوق الانسان و المجتمع الدولي,السلم العالمي لا يعني توقف الحروب أو عدم اشعالها و انما ارادتها و التحكم بها و بمجرياتها لأن ذلك كله يصب في مصلحة بقاء"المجتمع الدولي" و اقتصاده و افكاره و اجبانه ايضاً, و في الترجمة العملية لهذا المفهوم فإنه يعني كثيراً من الحروب في ساحات العالم البعيدة عن الغرب,حتى يبقى للغرب وحده قدرة التحكم و التدخل و الابتزاز و الثراء أيضاً.

اما الكذبة الثامنة فهي صراع الحضارات و هي فكرة استعمارية من الدرجة الاولى,ذلك ان صراع الحضارات لم يحصل الا بين دول الغرب نفسها,فأكبر حربين عالميين هددتا البشرية كانتا بين دول متشابهة في الفكر و المرجعية و الاداة,هذا من جهة, أما من جهة ثانية,فإن صراع الحضارات هذا ما هو الا متكأ فكري لهذا الغرب من أجل السيطرة و القمع و وضع سدود و حواجز لمنع التواصل و التشارك, و من جهة أخرى,فإن هذا المصطلح يفتح الطريق-فكرياً و وجدانياً و بالتالي عسكرياً- لاختراع اعداء جدد و تحديات وهمية.و اذا كان هناك فروق مرجعية بين الحضارات الا ان تعاونها وارد تماما و خاصة اذا علمنا ان الصراعات في التاريخ لم تكن في اكثرها بسبب "الافكار" و انما بسبب "المصالح" ,و هناك اكاذيب اخرى تتناسل كما الفطر بعد فصل ممطر,و لكن,و بما يخص حالتنا,فان هذه الاكاذيب بنيت عليها اكاذيب اخرى لم نخرج بعد من اسارها الشديد البغيض,فهناك اكذوبة أمن اسرائيل الذي لا نعرف حدوده و لا مجاله, و هناك اكذوبة الارهاب الذي لا نعرف تعريفه بالضبط,اذا لم يعد الاحتلال و لا الاستيطان ارهاباً, و اكذوبة الدولة الفلسطينية الذي لا يعرف احد حدودها أو حتى جغرافيتها, و اكذوبة المفاوضات و الخيار السلمي الذي لا يعرف أحد حتى الان ان يحدد مداه و عمقه وحجمه و نهايته, و أكذوبة الموقف الامريكي من الصراع الذي يرى الاستيطان "عقبة" في طريق السلام, و هو موقف استمر ثلاثين سنة و سيستمر ثلاثين سنة اخرى على الارجح.الاكاذيب الكبرى عادة ما تنجب اكاذيب صغرى, وهذه تؤدي ايضاً الى خلق صحافة كاذبة و فن كاذب و ثقافة كاذبة.و بالمناسبة,فإن من أكبر اكاذيب عصرنا هو الفيسبوك الذي استطاع ان يمنح 600 مليون شخص في العالم عالماً افتراضياً كاملاً للتواصل و السكن فيه و إليه, وكأن العالم يغادر حقيقته الى عالم آخر معقم و نظيف و لكنه....كاذب.

http://www.miftah.org