إلى متى سيستمر غياب المجلس الدستوري في فلسطين ؟!
بقلم: د.جميل جمعة
2012/2/15

الموقع الأصلي:
http://www.miftah.org/display.cfm?DocId=13479

منذ توقيع اتفاق أو اعلان الدوحة الأخير في السادس من شهر فبراير الحالي بالعاصمة القطرية بين الرئيس محمود عباس (ابومازن) رئيس السلطة الفلسطينية و رئيس حركة فتح و خالد مشعل رئيس المكتب السياسي لحركة حماس و المتكون من أربعة بنود الجديد فيها البند الثاني الذي ينص على " تشكيل حكومة التوافق الوطني الفلسطينية من كفاءات مهنية مستقلة برئاسة الرئيس محمود عباس تكون مهمتها تسهيل الانتخابات الرئاسية و التشريعية و البدء باعمار غزة خلال فترة زمنية" و الجدل المحتدم السياسي منه و القانوني يتصاعد حول دستورية هذه الخطوة و مدى انسجامها مع أحكام القانون الأساسي الفلسطيني الذي يعتبر بمثابة الدستور المؤقت للسلطة الفلسطينية من عدمه .

لا أريد الخوض في الجدل السياسي للموضوع فالسياسة تستوعب كل شيء فهي كالفضاء المفتوح فقد وصفها البعض بفن الممكن و غيره وصفها بفن الكذب و البعض الآخر نعتها بالمطاط الذي تجذبه في كل اتجاه ، و لا أريد تناول الجدل داخل حماس نفسها حول آلية تفويض خالد مشعل بالقرار فهذا أمر تقرره مؤسسات الحركة كحزب سياسي و الحال ذاته مع حركة فتح التي ترى في هذا الاتفاق خروج من عنق الزجاجة الطويل ، و لكني أريد تناول الجانب القانوني لهذا الجدل و بالتحديد الدستوري منه .

فالدستور كما يعرفه الفقهاء هو مجموعة القواعد و النصوص التي تنظم شكل الدولة و مؤسسات الحكم فيها سواء التشريعية أو التنفيذية او القضائية و العلاقة فيما بينها ، و الحريات العامة و حقوق وواجبات المواطنين ...الخ من مكونات الدولة و أسسها ، فهو بايجاز بطاقة هوية أي دولة أو كيان سياسي ، والنصوص الدستورية تسمو على ما سواها من نصوص قانونية او تشريعية أخرى و تعتبر مرجعية الحكم برمته ، فهل ينسجم اتفاق الدوحة سيما البند الخاص بالتوافق على تولي الرئيس أبي مازن رئاسة الحكومة مع نصوص القانون الاساسي أم جاء قافزا عنها و متجاوزاً لها ؟

تباينت ردود الفعل حول ذلك فإسماعيل الأشقر نائب رئيس كتلة حماس النيابية وصفها بالخطوة غير الدستورية والمخالفة لأحكام القانون الأساسي على أساس أن تعديل الدستور لعام 2003م كان في جوهره الفصل بين منصبي قطبي السلطة التنفيذية الرئيس ورئيس الوزراء وبالتالي الجمع بينهما مخالفة دستورية صريحة علاوة على أن تفاهم أبي مازن- مشعل بالدوحة لا يغني بحال من الأحوال عن وجوب نيل هذه الحكومة الثقة النيابية من المجلس التشريعي وفقا لاحكام الدستور دائما ، و قد ذهب زميله النائب خليل الحية رئيس الكتلة النيابية لحماس أبعد من ذلك باشتراط أن يسبق تنفيذ الاتفاق تعديل دستوري يجيز الجمع بين منصبي الرئيس و رئيس الوزراء مشاطرا زميله الاشقر بان الاتفاق لا يجيز اعفاء رئيس الوزراء الجديد من نيل الثقة النيابية ، وقد رد عليهما عزام الاحمد رئيس كتلة فتح! النيابية بانتقاد شديد واصفا الامر بالدستوري حيث لا يوجد في احكام القانون الاساسي ما يمنع الجمع بين المنصبين عملا بقاعدة كل شيء مباح ما لم يرد فيه دليل التحريم وان السلطة التنفيذية وحدة واحدة علاوة على ان الرئيس هو من يختار رئيس الوزراء ويقيله و أن الحكومة المرتقبة باعتبارها توافقية لا تخضع للثقة النيابية ، من جانبه وصف د.احمد يوسف المسؤول في هيئة الوفاق الفلسطيني والقيادي الحمساوي المعتدل الخطوة بالتوافقية مشددا على ان المصلحة الوطنية العليا فوق الجميع وان الدستور في خدمة التوافق وليس العكس مبينا ان المجلس التشريعي يتكون في غالبيته من كتلتي فتح وحماس وبالتالي منح الثقة النيابية تحصيل حاصل باعتبار أن التوافق في الدوحة بين رأسي هرم الفصيلين الرئيسين .

ثلاثة أراء بارزة تصدت للامر من منطلق سياسي صرف سأتفادى الخوض في تصويب أو تخطئة أي رأي منها مع تقديري لأراء الجميع و لا أشكك في نوايا أصحابها و حرصهم جميعا على انجاح مسيرة المصالحة الوطنية رغم أهليتي العلمية و المهنية للحكم عليها و هو ما سأتحفظ عليه لسبب واحد هو أن قضية من هذا القبيل معقود الأختصاص للفصل فيها في جميع الأنظمة السياسية المقارنة في كافة دول العالم حصرا للقضاء الدستوري و هو ما نص عليه قانوننا الأساسي الذي أرتضيناه كعقد اجتماعي بيننا و توافقنا على نصوصه ، و لا يمكن التصدي بشكل ارتجالي او اعتباطي أو تبرير هذا الرأي او ذاك بحجة الاستناد الى نصوص صنمية كما ذهب البعض او التعامل مع روح النصوص كما ذهب البعض الأخر.

ان سؤال من هذا القبيل وقبله السؤال الذي اثار لغطا كبيرا استمر أشهرا وسنوات حول ولاية الرئيس عباس ومدى دستوريتها حتى وصل الأمر الى أروقة الجامعة العربية ومجالسها يعكس فراغا مهولا في النظام السياسي الفلسطيني وافتقاده لمؤسسة دستورية تتصدى لمثل هذه الازمات والاشكاليات وتعالجها بقرارات مهنية حاسمة و فاصلة تضع النقاط على الحروف وتُعمل احكام الدستور اسوة بكافة الانظمة السياسية الاخرى وهذه الحلقة المفقودة هي مؤسسة القضاء الدستوري في بلادنا .

هذه المؤسسة التي نص عليها دستورنا الوطني في المادة 103 تحت عنوان المحكمة الدستورية العليا وصدر قانون منظم لها عن المجلس التشريعي رقم (3) لسنة 2006م لم تجد طريقها للاسف الشديد لحيز الوجود وبقي الحال الساري هو الموروث عن عهد الادارة المصرية لقطاع غزة وهو الحاق اختصاص المحكمة بالمحكمة العليا التي تنعقد بصفات عديدة منها المحكمة الدستورية وهو ما كرسه المشروع الدستوري في القانون الاساسي وكرر خطأً اخراً ايضا وهو الحاقها ضمن السلطة القضائية في مخالفة صريحة لمبدأ الفصل بين السلطات الثلاث التنفيذية والتشريعية و القضائية على حد سواء .

و مع الانقسام الجغرافي والاداري الأليم الذي لحق بالنظام السياسي الفلسطيني بعد احداث حزيران 2007م الدامية وانشطار الجهاز القضائي الفلسطيني انشطر معه القضاء الدستوري وأضحت المحكمة العليا بصفتها الدستورية محكمتين ايضا و بالتالي أضحت المحكمة الدستورية مشكلة بدلا من كونها الحل و صمامه و هذا- للاسف الشديد - أيضا ما تجاهله اتفاق القاهرة و ملاحقه و لا يزال مغيبا حتى تاريخه في ظل تخبط يعكس قصورا لدى النخب السياسية في فهم النظام السياسي و مكوناته و مؤسساته السيادية و ثقافة دستورية و قانونية محدودة و عجزا في ادراك الأهمية الكبيرة و البالغة لهذه المؤسسة في ضوء مخاض النظام السياسي الفلسطي! ني الجديد القائم في جوهره على الشراكة السياسية (political partnership ) و المشاركة في صناعة القرار ( (sharing of decision making و التداول على السلطة (rotation of power ) .

المطلوب اليوم توفير الضمانات و الآليات لانجاح اتفاق القاهرة و الدوحة و غيرهما من أي اتفاقات اخرى سابقة أو لاحقة و تحصينها من أي عثرات او معوقات تتخلل طريقها و تهدد – لا سمح الله – بتفجيرها و اعادتنا الى المربع الأول ، مطلوب التقاء الارادات السياسية للفرقاء جميعا لاستكمال وفاقنا الوطني المنشود باستحداث هذه المؤسسة الدستورية تحت مسمى ( المجلس الدستوري) لأن لفظة المجلس تضفي صفة سيادية مقارنة بلفظة المحكمة علاوة عن فصلها التام عن السلطة القضائية باعتبار هذا المجلس دستوريا يتربع فوق السلطات الثلاث و ليس جزءا منها أو تابعا لها و توفير الاستقلالية الكاملة له عن مراكز القوى المختلفة في السلطة لكبح جماح المصالح الشخصية و الفئوية التي تجد دورها في استمرار حالة الهلامية و اللامؤسساتية حيث لا ! مساءلة و لا رقيب اوحسيب ، وهذا المجلس سيكون القائم و الساهرعلى تطبيق أحكام الدستور و الرقابة على ذلك و الفصل في المنازعات الدستورية المختلفة كالخلاف الحالي – و المرشح للتأزم - لا سمح الله – أو أي أزمات لاحقة قد تظهر مستقبلا و بالتالي نستمر في قرع طبول ازماتنا الدستورية أزمة تلو الاخرى و نخلق مادة اعلامية وفيرة للفضائيات و شبكات الانترنت للغو فيها و صب المزيد من الزيت عليها .

ان استمرار هذا الغياب لهذا المجلس يعني مزيدا من البعد عن حل خلافاتنا بطريقة حضارية مؤسساتية وفقا للحكم الرشيد المنشود و بالتالي نبقى اسرى الاشتباك الاعلامي و الاحتكام لمنطق القوة و السلاح و الدوس على دستورنا الوطني و ارتكاب مجزرة جديدة بحقه كما تخلل أحداث حزيران 2007م الدامية و ما تبعها قبل أن يفيق قومي على حتمية الشراكة الوطنية بعد سنوات عجاف لم يخرج أحد منها منتصرا و كان فيها الشعب و الوطن و القضية الخاسر الأكبر .

كما ان بقاء الحال القائم اليوم يعني الاصرار على المضي في الطريق الخطأ بحسن نية او سوئها و هو حتما طريق مغاير لمصلحتنا الوطنية و لا يخدم سوى أعداء الوطن و الدستور والقانون و تجار السياسة .

اللهم اني قد بلغت ، اللهم فأشهد ،،

(*) أستاذ القانون الدستوري - أمين سر هيئة الوفاق الفلسطيني .

http://www.miftah.org