المقاومة الشعبية/ اللاعنف..
بقلم: جوناثان كتاب
2012/2/15

الموقع الأصلي:
http://www.miftah.org/display.cfm?DocId=13481

. .لقد كثر الحديث في الآونة الاخيرة عن المقاومة الشعبية والنضال اللاعنفي من قبل النشطاء والقيادات السياسية من أعلى الهرم القيادي الى أصغر الكوادر. ولم يقتصر هذا الكلام على المفكرين والقياديين في فصيل واحد بل إنتشر في كل الاحزاب والفصائل من فتح وحماس والفصائل الأخرى وإلى المستقلين ايضا.

ولهذا عدد من الاسباب الموضوعية من بينها الدور المركزي للاعنف في الربيع العربي و فشل الكفاح المسلح في تحقيق إنجازات حقيقية على أرض الواقع، وإقتناع الاغلبية الساحقة من الشعب الفلسطيني أن الخيار العسكري لحسم الصراع مع الاحتلال والصهيونية ليس متاحاً في ظل الظروف الموضوعية الحالية. وإن توقف العمليات الانتحارية لم يأت كما يدعي الاحتلال نتيجة لبناء جدار العزل والاجراءات الامنية الاسرائيلية وإنما لأنها فقدت التعاطف والقناعة الشعبية بجدواها.

ولكن تراجع تاييد الكفاح المسلح والعمليات العسكرية لم يُقلص من الرغبة الجامحة في مقاومة الاحتلال وبالتالي إتجه الكثيرون نحو المقاومة الشعبية أو الكفاح اللا عنفي بشكل تلقائي دون الفهم العميق و الاقتناع الضميري بهذا النوع من النضال.

لهذا وبصفتي أحد مؤسسي "المركز الفلسطيني لدراسات اللاعنف" واحد الذين درسوا ومارسوا هذا النوع من النضال لسنوات عديدة، منذ قبل الانتفاضة الاولى وإبعاد الدكتور مبارك عوض عام 1980 قررتُ أن أساهم في هذا المجال بمجموعة من المقالات لتفسير مفهوم المقاومة الشعبية والنضال اللاعنفي، رغبة في إثراء النقاش حول هذا النمط من المقاومة وملائمتها للنضال الفلسطيني في المرحلة الحالية والظروف القائمة في فلسطين هذه الايام. وإنني اطرح هذه الافكار بكل تواضع وانفتاح واستعداد للنقاش الصريح دون أي إدعاء بأن آرائي هي الوحيدة أو المُلزمة أو انها بالضرورة الافضل مما هو مطروح حاليا في الساحة الفلسطينية.

اولاً وباديء ذي بدء فإنني أُشير الى ضرورة أن نفهم أن النضال اللاعنفي هو مجموعة مفاهيم ومواقف واستراتيجية وتكتيكات متكاملة، وذات منطق خاص بها، ولا تُشكل مجرد الرفض للكفاح المسلح و "نبذاَ للعنف" كما يحلو للمسؤولين الاسرائيلين والامريكان ان يسمونه. وهو لاياتي تلبية لمطالبهم هم ولا تنازلاً عن حق الشعوب المضطهدة في الكفاح المسلح ضد من يستعمرونهم ويسلبوا اراضيهم ( وهو حق شرعي وفق القانون الدولي) وإنما هو خيار استراتيجي يختاره الشعب الفلسطيني لقناعته بأنه وسيلة ناجعة وفعالة ومتاحة في ظروف الموضوعية الراهنة. ولانه يلائم احتياجاتنا حيث انه ينقل المعركة من المواجهة العسكرية ( حيث يملك العدو التفوق الواضح في السلاح والتدريب والامدادات والسيطرة على الارض، ...الخ) الى مواجهة معنوية من نوع آخر قوامها الإيمان والقيم والأخلاق والقانون والشجاعة والاستعداد للتضحية وتجنيد التضامن والقوة الداخلية اعتقاداَ منا بانه لنا في تلك المواجهة أفضلية واضحة على العدو الغاشم الذي يستند بالدرجة الاولى الى قوته العسكرية وبطشه المسلح.

إذاَ فالحديث هنا ليس عن الامتناع عن العنف فقط بل هو عن حرب حقيقية بكل معنى الكلمة، تستوجب حشداَ للطاقات البشرية والمادية ، لايقل عن ذلك الذي يتطلبه الكفاح المسلح وخوض المعارك العسكرية. كما يستوجب فترات من التدريب المركز "للمحاربين" على اساليب النضال الشعبي. كما ويستلزم التخطيط والتنظيم على المدى البعيد والقصير للحملات المختلفة وللعمليات المحددة التي يتشكل منها النضال بحيث يتم دراسة والاستعداد لكل منها مع حساب التكلفة ونقاط القوة والضعف لدى المقاومين ولدى العدو أيضا بشكل واعٍ وحريص وممنهج وليس بانفعال وعاطفة وهبات حماسية ما تلبث أن تخبو وتتضائل.

إن للنضال الشعبي مزايا عدة اذا ما قورن بالكفاح المسلح يجدر بنا استيعابها والاقتناع بها كي يصبح هذا النوع من الكفاح خياراَ استراتيجيا وليس فقط حالات خاصة تمارس هنا أو هناك او في قرية واحدة مثلا- وأول هذه المزايا أن النضال الشعبي متاح لجميع الفلسطينين نساءً ورجالاً، اطفالا وشيوخا، بينما الكفاح المسلح تقليديا هو حكرً على عدد قليل نسبيا من الشباب الذكور المدربين على حمل السلاح والمنظمين في فرق أو خلايا مسلحة، وقد اتقن الاحتلال على مدى السنين اساليبه في اختراق تلك الخلايا وعزل افرادها ( إما بالسجن أو الاغتيال او المطاردة) عن البحر الشعبي الذي يسبحون فيه كالسمك( وفقا لنظريات المقاومة المسلحة الكلاسيكية). كما وتمكن من عزلهم جغرافيا عن مصادر تزويدهم بالسلاح و الذخيرة ومعسكرات التدريب ومن تشويه سمعة نضالهم البطولي ووسمه بالارهاب. أما النضال الشعبي فهو يشمل ليس فقط بضعة الآف من المقاتلين وإنما مئات الآلآف، بل الملايين من افراد الشعب الذين لايلزمهم السلاح والذخيرة ( الممنوع والمحرّم)وإنما الإرادة والفكر والإيمان والشجاعة التي لا يستطيع العدو مصادرتها.

وحيث ان هذا النضال مدني وليس عسكري، فإنه يضرب بالصميم المنظومة الفكرية والأمنية التي بني عليها المجتمع الاسرائيلي برمته. فالمجتمع الاسرائيلي مبني على تربية أفراده على نظرية أمنية قوامها ان العالم بأسره يكرهنا ويرغب في قتلنا وتدميرنا وبالتالي فإن وجودنا وأطفالنا وبيوتنا جميعها في خطر أكيد من جماعات لا تريد سوى قتلنا وابادتنا كما فعل بنا هتلر من قبل. و إن كل عملية عسكرية خاصة اذاحدثت داخل الخط الاخضر واستهدفت مدنيين اسرائيليين، تعزز هذه المفاهيم " الأمنية" وتزيد من قوة اليمين الاسرائيلي. وترسخ شعورهم بأن السلام والتعايش بعيدين جداً وإن ممارساتهم ليست فقط مبررة ومعقولة وإنما حيوية وضرورية لحياتهم ولأطفالهم وعائلاتهم.

أما اذا توجه الفلسطينيون الى المقاومة الشعبية غير المسلحة، فإنهم يسحبون البساط من تحت جميع الذرائع" الأمنية" ويُظهرون الاحتلال على حقيقته ليس فقط للعالم الخارجي وإنما للمواطن الإسرائيلي العادي الذي يرى حينئذ في الاستيطان والمضايقات ومصادرات الاراضي وممارسات الاحتلال عبثاً مباشراً عليه بالذات وتنغيضاً لحياته هو وبالتالي تتمكن المقاومة الشعبية من دك إسفين حقيقي بين المستوطنين والمستوطنات وبقة افراد المجتمع الاسرائيلي. وكنا قد شاهدنا في الانتفاضة الأولى قطاعات واسعة من المجتمع الاسرائيلي وحتى الجنود، ترفض الاحتلال والخدمة العسكرية في المناطق المحتلة وتدعو الى وقف الاستيطان. غير ان عسكرة الانتفاضة الثانية والعمليات الانتحارية اسكتت هذه الاصوات وسمحت بإقامة جدار الفصل العنصري والطرق الالتفافية تحت ذريعة" الأمن" دون أي مقاومة تذكر من داخل المجتمع الاسرائيلي الذي وجد نفسه قد توحد تحت لِواء اليمين المتطرف إزاء" الارهاب الفلسطيني" و "صواريخ القسّام" التي "تهاجم بيوتنا وتهدد مساكننا وتروع اطفالنا". فالنضال اللاعنفي يساهم في ترابط ووحدة الجبهة الداخلية الفلسطينية وبالمقابل يساهم في تفكك المجتمع الاسرائيلي وتفاقم التناقضات الداخلية فيه.

ومن مزايا النضال الشعبي ايضاً استقطاب الرأي العام الدولي وحشد التأييد لقضيتنا العادلة وسحب التعاطف و التأييد من اسرائيل وسياساتها. إن اسرائيل كانت وما زالت دولة صغيرة في محيط عربي واسع لها امتدادات في الخارج: في اوروبا وامريكا خاصة، ذات أبعاد عسكرية واقتصادية وسياسية وثقافية وتجارية و اكاديمية. وقد كانت هذه الامتدادات وما تزال تُغذي قوة وتفوق إسرائيل على الفلسطينين والدول المجاورة أيضا. وإن هذا التعاطف والدعم مبني بالدرجة الاولى على رواية كون اسرائيل تواجه تهديدات عسكرية لوجودها وكيانها لا يملك العالم ( بعد مجازرالحرب العالمية الثانية) أن يسمح بتكرارها. وتستغل اسرائيل واصدقائها في الخارج هذه النقطة بإستمرار في مواجهاتها مع الفلسطينين. أما حين يجنح الجانب الفلسطيني الى المقاومة الشعبية اللاعنفية، وتضطر إسرائبل الى اللجوء الى السلاح والعنف، فإن معادلة التعاطف والتضامن تنقلب هي الاخرى، ويتآكل التعاطف مع اسرائيل في الوقت الذي يزداد التضامن مع الشعب الفلسطيني وحقوقه العادلة. وأن من يقلل من اهمية هذا العنصر لايعرف بتاتا ما يجري في العالم الخارجي ولا اهمية الدعم الخارجي في عالم يزداد ترابطاً يوماً بعد يوم. وإن المقاومة الشعبية تستفيد من التحولات العالمية نحو العولمة رغم أن تاثيرات ذلك على أرض الواقع قد تأخذ وقتاً طويلاً قبل أن نلمس مفعولها.

والواقع أن المقاومة الشعبية هي استيراتيجية طويلة المدى، لا يظهر مفعولها بشكل فوري، ويقال أن العنف كالقنبلة والرصاصة تعطي مفعولها فورا وبضجيج مسموع بينما اللاعنف والمقاومة الشعبية فهي كالبذرة تتجذر وتنمو وتؤتي ثمرها بعد حين-وكثيراً ما نطالب بنتائج فورية غير أن الواقع علمنا ان الصبر والمثابرة هي الطريق الوحيدة للنجاح. لكنها في الوقت ذاته تنمو وتتفاعل مع التربة والهواء والماء وتبقى طويلاً بعد أن يغيب صدى الانفجار وتُمحى اثاره وتزول.

من مزايا النضال الشعبي أيضاً تقليص الخسائر البشرية لشعب عانى طويلا من المآسي و الحروب، ولايزال مستعدا للتضحية. صحيح أن الامتناع عن الكفاح المسلح لا يضمن بتاتا أن يكون الطرف الآخر لا عنفيا، بل على العكس تماما فإن علينا ان نتوقع العنف وسفك الدماء من الطرف الآخر وأن قوة اللاعنف هي في تحمل هذه التضحيات دون ان ننجر الى رد الفعل الطبيعي( العنف المضاد)والذي يخسرنا المعركة ويجرنا ثانية الى ساحة للعدو فيها أفضلية واضحة. لكن في الوقت ذاته فإن التاريخ علمنا أن عدد الضحايا سيكون أقل بكثير في النضال الشعبي اللاعنفي وأن المقاومة المسلحة ( مهما تكون مشروعة و مبررة) تعطي الذريعة للطرف الآخر أن يبطش ويعنف ويستخدم آلته الحربية بأكملها.

إن اللاعنف يُحيد "على الاقل" أكثر الاسلحة دماراً ويفرض على العدو تقليص درجة العنف لأنه يدفع ثمناً مقابل كل شهيد يسقط في النضال الشعبي وفقاً للمعادلة المقلوبة التي ساتحدث عنهاً لاحقا والتي تقلب قوته العسكرية ضعفاً له وتجعل من ضعفنا العسكري قوة لنا.

إن خيار المقاومة الشعبية هو ليس الخيار الاسهل بتاتاً ولا يخلو من التكلفة الباهظة والتضحيات المؤلمة وصولات وجولات من الكرّ والفرّ و النجاح و الفشل و الانجازات و الاحباطات، كما في كل انواع النضال- ولكنه بنظري الأكثر نجاعة وملائمة لواقعنا الحالي. فإذا قررنا- كما يبدو- ان نمارس مثل هذا الكفاح فإن علينا ان ندرسه جيداً و نمارسه بحكمة وفهم وإلآ فإننا سوف نحبط مجدداً ونستسلم لليأس ونعود سريعاً الى ممارسات و أساليب ثبت عقمها وعجزها في السابق.

http://www.miftah.org