بمعركة الكرامة وحدّنا الدم
بقلم: عباس زكي*
2012/3/21

الموقع الأصلي:
http://www.miftah.org/display.cfm?DocId=13583

إن كان الفاتح من يناير 1965 يمثل لنا شرارة أو صافرة الانطلاق، فمعركة الكرامة في 21 مارس 1968 تمثل لنا الميلاد، وشاءت الأقدار بفعل معركة الكرامة أن يخسر دايان الجنرال المنتصر نشوة انتصاره في حرب الأيام الستة حسب المصطلح الإسرائيلي الذي سيطر فيها على أراضي ثلاث دول عربية. وشاءت الأقدار بفعل معركة الكرامة أن تتحول أسطورة التفوق العسكري الإسرائيلي إلى أكذوبة وأن يسقط شعار الجيش الذي لا يقهر أمام تكتيك وإستراتيجية بين العسكرية الأردنية التي تبحث عن استعادة شرف الجندية والفدائيين الفلسطينيين الذين يمثلون وجدان وإرادة أمه ترفض الهزيمة مهما كان الثمن وفي الذكرى الـ44 ليوم الكرامة الخالد وفي ظل أوضاعنا الغاية في الصعوبة والتعقيد بفعل الغطرسة الإسرائيلية المتجددة نتذكر لنوفر مرتكزات النصر، ففي يوم الاثنين الموافق 18 مارس 1968 أرسلت الاستخبارات المصرية التي تعاني من جرح هزيمة حزيران معلومات أفادت قيادتنا بأن إسرائيل تعد لمعركة للقضاء على القاعدة الآمنة لحركة فتح في الأغوار (غور الأردن) وبالمراقبة الدقيقة على الأرض لوحظ حشودات إسرائيلية تتجه نحو أريحا الأمر الذي دفع بالقيادة ويتقدمها الأخ أبو عمار بالتشاور مع قيادة الجيش الأردني ممثل بالجنرال عامر خماش والجيش العراقي ممثلا بالجنرال محمود عريم واللواء حسن النقيب وتطابق المعلومات أثناء اللقاء مع المشاهدات على الأرض بأن هناك عدوان واسع بهدف اجتثاث الفدائيين الذين اتخذوا من الأغوار قواعد للانطلاق نحو أهدافهم في الوطن المحتل.

كان الرأي الأردني العراقي بعد استماعهم للأخ أبو عمار رئيس الوفد أنها معركة جيش يقابل جيش وأنتم كفدائيين أمل الأمة فلا تكونوا طعام للدبابات والهجمات الصاروخية والطائرات حفاظا على مناضيلكم وضرورة استمراركم والتزاما منكم بقانون حرب العصابات غادروا المنطقة واتركونا نواجه كما ينبغي دون إرباكنا بتواجدكم بين النيران .

في يوم الثلاثاء 19 مارس 1968 ترأس الأخ أبو عمار اجتماعا للقيادة في منطقة الكرامة ووضع ووفده المرافق قادة المواقع بكل ما يتعلق بالمعلومات والمواقف وبخاصة نتائج اجتماعهم بجبال السلط مع القيادة العسكرية الأردنية والقوة العراقية الملتزمة بالقرار الأردني.

وثمن الحضور حرص الأشقاء على أرواح الفدائيين ولكن برزت قضية جديرة بالاهتمام وهي أن العدوان يستهدفنا أولا، وثانيا الكل يبحث عن النصر ورد الاعتبار لأمة فاقدة للنصر بفعل هزيمة حزيران فكيف نقنع أنفسنا وكوادرنا بالهرب وخاصة أن قانون حرب العصابات (إذا أقبل العدو أهرب وإذا أدبر اضرب ).

لم يكن واضحا ومقنعا لمن هم على شاكلتنا كرواد يجب أن يقدموا المال والوقت والروح في حينه كأهم عناصر استمرار الثورة الشعبية المسلحة كأقصر الطرق إلى فلسطين من هنا كان قرار الصمود بإعلان الأخ أبو عمار أمام حشد المقاتلين، قررنا الصمود أمام معركة كبرى لنشارك في صنع النصر لأمتنا، والنصر ثمنه الدم، فمن أراد منكم أن ينزف دم ليحرز نصر فليبقى هنا ومن لا يريد فليخرج خارج أرض العمليات وهو حق له وفق قانون حرب العصابات.

وفي يوم الأربعاء 20 آذار 1968 وقد استكملت الاستعدادات على كل صعيد تفقد القادة الميدانيون كوادرهم فوجدوا الإصرار على المشاركة بالمعركة أو لصنع النصر أو الاستشهاد من الجميع ولم يكن العدد لمجموعاتنا في حينه أكثر من 400 مقاتل مما اضطر الأخ أبو عمار أن يتحدث في حشد مماثل وسط هدير الدبابات الإسرائيلية التي باتت واضحة للعيان وتجمع رجال الصحافة والإعلام على الجهة الغربية من النهر في انتظار الهجوم الكاسح على قواعد الفدائيين وتعالت تصريحات دايان بأنه بصدد مهمة تطهير أوكار المخربين وإحضارهم بالشباك إلى الميادين داخل فلسطين المحتلة وتصريحه الشهير أن فتح كالبيضة في يدي احتاج إلى شيء من الضغط حتى سحقها وقال للصحفيين 'أدعوكم غدا الخميس الساعة الثانية بعد الظهر لمشاهدة قادة الفدائيين مكبلين بالأصفاد'.

وسط هذا الجو شديد الخطورة قال أبو عمار 'أيها الأخوة شكرا لله إذ قررتم الصمود ولكن عليكم أن تتأكدوا أن كل من في السهل منكم سيستشهد أو يؤسر لا محالة فمن منكم يوثر الحياة سويعات أكثر فليصعد إلى الجبل ليشن طوقا خلفيا عند الإطلاق علينا من العدو تعزيزا للأخوة لحماية ظهرنا'، وبدأ يتجول على بعض المواقع للتأكد من الجاهزية حيث كان أحد الأبطال تحت الاسم الحركي الفسفوري قد حفر خندقه قرب النهر، أحد الأماكن المتوقع أن تكون على فوهة الجسر الذي ستعبره الدبابات الإسرائيلية إلى ضفة النهر الشرقية، فأشار عليه الأخ أبو عمار أن يغير موقع خندقه ولكن الفسفوري رد قائلا يا أخ أبو عمار وقد قررنا الصمود لا أحفر هنا خندقي لأقاتل منه فقط بل حفرت خندقي وقبري معا ليكون قبري متقدما على قبوركم.

بهذه الإرادة والروح الجهادية والمعنويات العالية شعر الجميع بحتمية النصر قبل خوض المعركة وكأن التاريخ يعيد نفسه بتزاحم الشهداء يوم الثلاثاء الحمراء الذين تسابقوا على حبل المشنقة في عكا، عطا الزير، ومحمد جمجوم، وفؤاد حجازي، بهذه الإرادة والروح وبهذه الثقة بالجندي العربي والإيمان بالمشاركة في معركة من أجل فلسطين التي تشكل الحلقة المركزية في النضال العربي، كانت معركة الكرامة التي بدأت يوم الخميس 21 آذار 1968 في الساعة الخامسة والربع صباحا قصف مدفعي وغارات جوية وفي السادسة والنصف كان تقدم الدبابات التي واجهت الأهوال بصمود الفدائيين الأبطال الذين خاضوا أشرس المعارك وقدموا 105 شهداء بما فيها العمليات بالأحزمة الناسفة التي فرضت على الجيش الإسرائيلي وقف التقدم.

وكان اللافت أن التحام الفدائيين وقطاعات الجيش الأردني المتواجد على خط النار بالعدو إضافة إلى استخدام المدفعية السادسة الثقيلة من مرتفعات السلط (عيرا ويرقا) قد سدت الطرق أمام تدفق الجيش الإسرائيلي إلى شرق النهر الأمر الذي أربك الجيش المعتدي بضرب مؤخرته ومنع وصول النجدات وبهذا فقد انضباطه وتم أسر عدد من دباباته التي عرضت بالمدرج الروماني في عمان، وتكبد العدو خسائر في المعدات والأرواح لم يكن يتوقعها من قبل بفعل الاستبسال وهذا التنسيق والتعاون الاستراتيجي والتكتيكي الذي رد كيد الإسرائيليين في نحورهم ورفع عاليا الهامات الفلسطينية الأردنية تحت شعار ردده الجميع 'كلنا فدائيون'، وكان مسار اعتزاز المغفور له الملك حسين قوله نحن الفدائي الأول.

ما أحوجنا إلى كرامة أولئك الأبطال الشهداء والراحلين الكبار، رموز انتصار الكرامة التي كرست اللحمة الأردنية الفلسطينية والعلاقات الأخوية المتميزة.

وردت الاعتبار إلى العسكرية العربية وفرضت الثورة الفلسطينية الرقم الصعب في معادلة الصراع بالشرق الأوسط وفرضت معركة الكرامة نفسها كقضية بحث ودراسة في الأكاديميات العسكرية وكسرت صلف دايان الذي كان أمام أصعب امتحان حينما سؤل ماذا دهاك وأنت القائل نستطيع الوصول إلى ما تصل إليه الفانتوم منتصرا حسب تصريحاتك فأجابهم قائلا: ماذا أفعل إذا من هم أمامي قد قرروا الموت، إنهم لو فعلوا عكس ذلك لقضي الأمر وزاد بالقول إن من يضع يده في بيت الدبابير عليه أن يتحمل لسعها بل ذهب إلى أبعد من ذلك بعد العمليات الكبرى التي تبعت معركة الكرامة كالحمة والسعديات والأرض الطيبة وتوربيدات البنقالوم قائلا على 'الصهاينة أن يسعوا جاهدين لتوسيع قبورهم ومن هنا بدأت المؤامرة على وحدة الجهد الفلسطيني الأردني، التي كادت لولا حكم الكبار أن تنجح في تدمير العلاقة إلى الأبد'.

كل ذلك من تداعيات معركة الكرامة التي كان فيها وحدة الدم الفلسطيني الأردني حيث من الصعب تجاهل أي قائد أردني أو فلسطيني كان سببا في هذا الانتصار في الخميس 21 آذار 1968 الذي كان صافيا لا أثر فيه للبرق والرعود ولكنه أمطر الانتصار العظيم لأمتنا القائد الراحل الكبير مشهور حديثة الجازي رحمه الله مزهوا بالتلاحم الأردني الفلسطيني وكما علق الرئيس جمال عبد الناصر رحمه الله أن فتح أنبل ظاهرة وجدت لتبقى فأضاف أبو عمار رحمة الله لتبقى ولتنتصر.

وكما ذكر المؤرخ ارنولد تويمبي 'عجبي أن فتح لا تعرف ما تصنع أنها لا ترسم خارطة فلسطين فقط بل تتجاوزها بالتلاحم مع الآخرين لرسم خارطة الشرق الأوسط'، وبالفعل ما أحوجنا إلى وقفة جادة وقراءة متأنية لمعرفة كيف تمت مصادرة انتصاراتنا في وقت يحّول العدو هزائمه إلى انتصار كما في الكرامة وحرب أكتوبر، وأن ندرك أبعاد الصراع ونضع الأولويات وأن نثق بحجم قدرات شعبنا واستعداده الدائم للتضحية بالنفس والنفيس شريطة توفر الوعي الجماعي وثقافة المقاومة ونحن مدرسة ثقافة المقاومة.

وما أحوجنا إلى الحمية الوطنية وإلى شجاعة الموقف ووضوح الرؤيا لمواجهة جدار الفصل العنصري الذي يلغي فكرة الدولة الفلسطينية ومواجهة تهويد القدس الذي يهدد الهوية والعقيدة الإسلامية والمسيحية باعتبارها بوابة الأرض إلى السماء أولى القبلتين وثالث الحرمين ومسرى سيدنا محمد ( عليه الصلاة والسلام ) وعروجه إلى السماء ودرب الآلام لسيدنا المسيح وصعوده إلى السماء.

ما أحوجنا إلى مواجهة العدو الذي استخف بالعالم أجمع بفعل تحالفه الاستراتيجي الوحيد مع الولايات المتحدة الأمريكية التي تنظر إلى المنطقة بعيون إسرائيلية ولا يهمها إلا إسرائيل وأمنها ومصالحها في وقت تتجاهل مصالحها في منطقة حيوية هامة تشكل مخزونا للطاقة شريان الصناعات الحديثة ومتجاهلين أهمية الموقع الجغرافي والوحدة المتجسدة باللغة والعقيدة والتقاليد من المحيط إلى الخليج.

لعلنا بصدد كرامة في هذه الحقبة غير قابلة للانتكاس بعد أن انتهى الحال إلى ما هو عليه من تهديد واضح وصريح من كل أعداء أمتنا بعد سقوط الرهان على وهم التسوية وظهور نتنياهو وكأنه الحاكم الفعلي للإدارة الأمريكية، يوم صفق له الكونغرس طويلا وهو يتناقض مع رؤية بوش للسلام وكذا تصريحات اوباما حول حسم النزاع في الشرق الأوسط، الأمر الذي أطلق العنان للخيال الإسرائيلي المريض بأنه القوة التي بإمكانها التحكم في مصائر دول وشعوب منطقة الشرق الأوسط باعتباره يحكم الحزبين الجمهوري والديمقراطي وكأنه السيد المطلق في أمريكا، إذ لا تنمية ولا صناعة ولا حياة ولا أية مبادرة تتعارض والرؤية الإسرائيلية لدول وشعوب المنطقة.

الأمر الذي يفرض على من يرفضون هذا العدوان السافر وهذا الواقع الفاسد أن يفتشوا على كرامة من نوع جديد وإبداع فلسطيني يتجلى في الأوقات الصعبة على شاكلة الكرامة وإن اختلفت الظروف وعلى شاكلة أطول إضراب في التاريخ قام به شعبنا ضد الانتداب البريطاني1936 أو الانتفاضة الكبرى عام 1987 التي أسقطت حاجز الرعب واقتحمت القاموس العصري بمصطلح الانتفاضة، وإن اختلفت الأساليب خاصة وقد بالغت إسرائيل بجرائمها وتراجعت إلى المقاعد الخلفية من اهتمامات العالم الذي يتأكد بأنها عبء على أصدقائها وبأنها سبب عدم الاستقرار وأداة التفجير لمصالح العالم في شرقنا الأوسط، وقد تصل إلى نهاياتها المحزنة إذا ما حدثت صحوة عربية وانتصبت قيم أخلاقية لدى صناع القرار أو استحضار مناخات الكرامة.

إن الصمود الأسطوري لشعبنا الفلسطيني بكافة أماكن تواجده رغم التنكر لإنسانيته أحيانا من البعض ومواجهته لآلة التدمير والأسلحة الحديثة والمحرمة دوليا المستخدمة من إسرائيل، ورغم كل ذلك احتفاظه بمكانته المرموقة دوليا باعتراف 132 دولة وهو يقف على أبواب الأمم المتحدة لنيل الاعتراف بعضوية الدولة الكاملة طال الزمان أو قصر، يتطلب في أجواء ومناخات ذكرى الكرامة الخالدة إستراتيجية من طراز جديد تأخذ بعين الاعتبار بسالة شعبنا واستعداده الكامل للتضحية من أجل التخلص من الاستبداد والعبودية، والممارسات العنصرية التي فاقت حد الوصف من حكومة التطرف وقطعان المستوطنين وكلابهم وخنازيرهم البرية، الأمر الذي يتطلب ترتيب بيتنا الفلسطيني الذي هو سر النهوض والقوه حيث إذا كان في حالة مثالية يمثل 'مغناطيس' جاذب لرفع منسوب التضامن العربي والدولي خاصة في حال استهداف القدس، ونحن نعرف مكانتها الروحية لساكني هذا الكوكب وما تمثل من إشعاعات روحية لحملة العقيدة على طول وعرض الكرة الأرضية.

ويجدر بنا ونحن أصحاب تجارب ثورية أن نخضع العالم الذي يتحدث عن الحرية والديمقراطية والتنمية والسلام وحقوق الإنسان ويدعم الربيع العربي على هذا الأساس أن نسأل أما آن للربيع الفلسطيني الذي بدأ منذ الخمسينات تنظيما ومنتصف الستينات كفاحا مسلحا ويتواصل صعودا وهبوطا بأشكال مختلفة وفق سياسة صائبة ودبلوماسية رشيقة أن ينتهي بتحقيق الحلم بالدولة والقدس عاصمة وحقنا في تقرير المصير؟.

ألا يحق لنا أن نسأل الداعين لمكافحة الإرهاب، أليس الاحتلال الإسرائيلي لأرضنا هو أعلى أشكال الإرهاب؟، ولماذا السكوت عنه؟، أين المجتمع الدولي من قرارات الشرعية الدولية ومجمل الاتفاقيات التي نكرتها إسرائيل؟.

إن الصمت على جرائم إسرائيل يبقي شهيتها مفتوحة على مصادرة الأراضي وزج المناضلين في غياهب السجون وسن القوانين الجائرة، وممارسة العقوبات الجماعية بهدم البيوت، والاستيطان، والجدار، وتهويد القدس، والترانسفير، والوطن البديل، وعليه لا بد من وأد حلمها وإفقادها شهية مواصلة العدوان عبر استخلاص العبر والاستفادة من دروس معركة الكرامة كتجربة متميزة.

المجد والخلود لشهداء الكرامة الذين كرسوا البعد القومي للقضية الفلسطينية.

* عضو اللجنة المركزية لحركة 'فتح'

*مفوض العلاقات العربية والصين الشعبية

http://www.miftah.org