ما الذي تخشاه اسرائيل؟
بقلم: د.حنان عشراوي
2012/4/25

الموقع الأصلي:
http://www.miftah.org/display.cfm?DocId=13698

لقد قامت منظمة التحرير الفلسطينية بتقديم تنازلات تاريخية مؤلمة من أجل العيش بأمن وسلام على جزء من أرض فلسطين التاريخية، وأثبتت التزامها الكامل بقواعد القانون الدولي والشرعية الدولية، وكرّست الجهود لانجاح العملية السياسية منذ توقيع اعلان المبادئ في 1993. إلا أن حكومات اسرائيل المتعاقبة لم تستفد من الظروف الدولية وفرص السلام التي قُدّمت لها بل اتخذتها غطاء لاستمرار انتهاكاتها المخالفة للأعراف الدولية، وفرض سياسة الأمر الواقع.

إن البرنامج السياسي الذي ترتكز عليه منظمة التحرير الفلسطينية للوصول الى سلام عادل بوسائل سلمية للخلاص من الاحتلال واقامة الدولة المستقلة على حدود 1967 وعاصمتها القدس، والتوصل لحل عادل لقضية اللاجئين وفقاً للقرار الأممي 194، ومقاومة اسرائيل بالعمل المشترك مع المجتمع الدولي قانونيا وسياسياً وشعبياً، ونجاح ملامح هذا الحراك على الصعيد الدولي يسبّب القلق والارباك لدولة الاحتلال التي تدّعي الديمقراطية والدفاع عن حقوق الانسان.

فالاحتلال الاسرائيلي يبرع في تجسيد العنف والعسكرة ، ويلجأ الى استخدام اقسى انواع البطش والقمع عندما يتعلق ذلك بالارادة الانسانية، حيث تقابل اسرائيل المقاومة الشعبية بمزيد من افتعال الأزمات مع شعبنا من جهة ومع دول العالم من جهة أخرى ما يدّل على افلاسها السياسي والأخلاقي، وتمعن في قمع المسيرات والنشاطات السلمية بمشاركة نشطاء السلام الدوليين (بما فيهم الاسرائيلين) المؤيدين لحقوق شعبنا المشروعة، والمناهضين لسياسة التوسع الاستيطاني وتهويد القدس وجدار الفصل العنصري وغيرها من الانتهاكات الأحادية. وتستخدم جميع الوسائل غير القانونية لاجهاض هذا النشاط الاحتجاجي المشروع، وذلك باعتقال المتضامنين وجرح وقتل العشرات منهم في محاولة لتغطية الوجه الحقيقي لنظام القمع والسيطرة. ولعل الناشطة الأمريكية رايتشل كوري والمصور البريطاني توم هارندل كانوا اول ضحايا الارهاب الاسرائيلي، وكذلك الناشطة الأمريكية ضد جدار الفصل العنصري اميلي هينوشوفيتس التي فقدت عينها على حاجز قلنديا، وآخرهم المتضامن الدنماركي اندرياس اياس الذي تعرض لهجوم وحشي في جولة الدراجات الهوائية السلمية في مدينة أريحا.

وتمعن اسرائيل أكثر بتعزيز نظامها البوليسي باستخدام سياسة الترهيب والعنف في منع وصول المتضامنين الدوليين الى الأرض الفلسطينية المحتلة، وحظر رسي سفن الحرية، وثنيها عن كسر الحصار غير الشرعي على ابنائنا في قطاع غزة عبر التعرّض الهمجي للسفن، وانشاء معسكرات اعتقال في الموانئ الاسرائيلية القريبة، وتنفيذ عمليات قرصنة وقتل وجرح العشرات من الحقوقين والسياسين والمدنيين الدوليين.

وللعام الثالث، وبالتعاون مع جهازها الاستخباراتي والدبلوماسي، وبالتواطؤ مع بعض الحكومات الغربية تقوم بالضغط على شركات الطيران الدولية لمنع دخول المئات من النشطاء المؤيدين لفلسطين الى اراضيها في اطار حملة"أهلاً بكم في فلسطين"، واعتقالهم ومعاملتهم معاملة المجرمين والارهابيين. إنّ هذه الحملات التضامنية تُعتبر نقلة نوعية في فرض الإرادة الشعبية الدولية وتحدٍ لممارسات الاحتلال وحصاره للأرض والشعب الفلسطيني.

وتحاول حكومة اليمين أيضاً محاصرة الخطوات النضالية السلمية للمعتقلين الفلسطينين وافشالها من خلال عزلهم عن العالم الخارجي، واتخاذهم رهائنا لديها، ومواجهة اضراب آلاف الأسرى عن الطعام بتشديد الاجراءات القمعية والعقابية ضدهم وعزلهم في اكثر من سجن، وفي زنازين انفرادية، وحرمانهم من زيارات عائلاتهم ولقاء المحامين، وايقاف المحطات الفضائية، واغلاق مرافق العمل عنهم في مخالفة صارخة لاتفاقيات جينيف المتعلقة بالأسرى في وقت الحرب.

ويستبيح النظام القضائي الاسرائيلي المشوّه مقدرات شعبنا، ويعطي الضوء الأخضر لقوات الاحتلال ومستوطنيه لنهب الثروات الطبيعية والموارد المائية في الضفة الغربية، ويرفض الالتماسات التي تقدمها الجمعيات الحقوقية الاسرائيلية ضد كسارات يديرها اسرائيليون في المناطق المصنفة"ج" بالضفة الغربية، والتي تشكّل كارثة بيئية خطيرة ناهيك عن كونها سرقة علنية.

وتثبت دولة الاحتلال بالممارسة انها دولة غير ديمقراطية ولا تحترم مبادئ حقوق الانسان ولا تمارسها ، ليس على شعب رازح تحت الاحتلال فحسب وانما داخل اسرائيل نفسها وحول العالم، حيث ترسخ نظاماً استبدادياً من خلال تشريع الكنيست الاسرائيلي للقوانين التي تحارب منظمات المجتمع المدني وحقوق الانسان الاسرائيلية اليسارية والعربية التي تعمل على تدويل انتهاكات اسرائيل لحقوق الانسان. وتأتي هذه التشريعات في اطار النيل من شرعية نضال تلك المؤسسات وتهديد وجودها، وانتقاما من نشاطها الفاضح لسياسات التمييز العنصرية، وادانتها لارتكاب مخالفات خلال الحرب الأخيرة على قطاع غزة.

هذا وتمنع السلطات الاسرائيلية تاريخياً دخول منظمات حقوق الانسان الدولية والاسرائيلية الى الأرض الفلسطينية المحتلة، حيث منعت مؤخراً المبعوث الأممي ريتشارد فولك، المقرر الخاص عن حالة حقوق الانسان في الأرض الفلسطينية، من دخول الأراض الفلسطينية، والاجتماع مع ممثلي المنظمات الحقوقية الفلسطينية، ومقابلة ضحايا انتهاكات حقوق الانسان المرتكبة من قوات الاحتلال الاسرائيلي والمستوطنين في جميع المناطق الفلسطينية. كما تمنع مراقبي حقوق الانسان المستقلين من مؤسسات حقوقية اسرائيلية مثل مؤسسة (بيتسيلم) من دخول قطاع غزة لإجراء تحقيقات مستقلة حول خرق قوانين الحرب في القطاع.

وقد طالت سياسات اسرائيل القمعية الحريات الثقافية والأدبية، وأصدقاء الشعب الفلسطيني من الأدباء والمفكرين العالميين. اذ تعمد الى اتهام كل من ينتقد السياسات العدوانية الاسرائيلية بمعاداة السامية، وتحظر دخولهم أراضيها باعتبارهم "اشخاص غير مرغوب فيهم"، وذلك في تعزيز لسياسة تكميم الأفواه ومحاكمة كل من يقول الحقيقة مثل الأديب الألماني غونتر غراس الحائز على جائزة نوبل في الآداب، والصحافية الأمريكية هيلين توماس وآخرين. إن هذا التناقض سيكرس من عزلة الاحتلال ونزع الشرعية عنه على المستوى الدولي، وفي المقابل سيزيد من التفاف دول العالم مع حق شعبنا في الحياة بحرية وعدالة وكرامة على ارضه.

وبالاضافة الى ذلك، فقد كشف القلق الهستيري للحكومة الاسرائيلية نفسه أمام حراك القيادة الفلسطينية السلمي الدبلوماسي الى حضن الشرعية الدولية والسعي الى الانضمام الى الأمم المتحدة وهيئاتها ووكالاتها المختلفة. حيث اجتهدت في منع تكريس دور المجتمع الدولي في تمكين شعبنا من ممارسة حقه الطبيعي والقانوني في تقرير مصيره، محاولة الاستفراد بشعبنا وعزله عن العالم وحرمانه من حماية القانون الدولي، وقادت عملية تحريض ممنهجة لحثّ دول العالم على عدم التصويت لصالح عضوية دولة فلسطين والاعتراف بالدولة الفلسطينية، ومارست الابتزازات الرخيصة بوقف تحويل العائدات الضريبية الى السلطة، يرافقها دعم أمريكي مطلق باستخدام حق النقض الفيتو، ووقف المساعدات المالية عن شعبنا، وحجب التمويل عن الأمم المتحدة (كما حصل في اليونسكو مؤخراً).

ان اسرائيل تدرك تماماً ان نجاح هذه الخطوة سيخضعها للمساءلة القانونية والاقتصادية والسياسية لانتهاكاتها المنافية لقواعد القانون الدولي والشرائع الأممية بما في ذلك الملاحقة القضائية والجنائية، وستقف مانعاً أمام محاولاتها التنصل من مسؤولياتها القانونية والسياسية، والاعتراف بحدود 1967، وتعريف الأرض على أنها ارض محتلة وليس ارض متنازع عليها.

وبدلاً من أن تعيد اسرائيل المصداقية للعملية السياسية، والتعاطي مع الواقع، والالتزام بقرارات الشرعية الدولية لإنهاء احتلالها، فإنها تبذل الجهود الحثيثة لتقويض انجازات السلطة الوطنية واضعاف مكانتها، والتحريض على القادة الملتزمين بقواعد القانون الدولي. وهذا ما عبّر عنه في اكثر من مناسبة رئيس الوزراء الاسرائيلي بنيامين نتنياهو، وائتلافه اليميني، عندما وصف الرئيس الفلسطيني بالارهابي السياسي، في محاولة "لتهميشه"وحصاره سياسياً كما فعل سلفه أريل شارون مع الرئيس الراحل ياسر عرفات الذي أدى حصاره الى حد تصفيته جسدياُ على الرغم من كونه أول من تبنّى المسار السلمي.

كما ويعيق الاحتلال وممارساته العدوانية استكمال تنفيذ برنامج: بناء مؤسسات الدولة وانهاء الاحتلال الذي أطلقه رئيس الوزراء الفلسطيني سلام فياض، حيث عرقل غياب الأفق السياسي والانتهاكات الاسرائيلية المتواصلة تجسيد مكونات الدولة، ودعم صمود المواطنين عبر ترسيخهم وتجذيرهم من خلال مشاريع فعالة لمواجهة الاستيطان وحماية الأرض.

وفي المحصلة، فإن اسرائيل لا تخشى العنف والمواجهات العسكرية بل تمارسها وتدعو اليها، لأنها اللغة الوحيدة التي تستخدمها وتتفوق فيها، بينما تشكل لغة القانون والعدالة والارادة الانسانية في مواجهة الظلم ومنطق القوة التحدي الأكبر للتشويه الأخلاقي الاسرائيلي في ظل غياب كامل للقيم. ..ان اسرائيل تخشى فقط من أنسنة القضية الفلسطينية وشرعيتها وانقاذها من الاستحواذ الاسرائيلي عليها، كما تخشى من صوت التضامن الانساني وفضح طبيعة الاحتلال امام العالم، انها تخشى صوت حقوق الانسان والقانون.

http://www.miftah.org