ثمن الصمت عن اغتيال عرفات
بقلم: محمد السعيد ادريس
2012/7/17

الموقع الأصلي:
http://www.miftah.org/display.cfm?DocId=13941

منذ وفاة الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات يوم 11 نوفمبر/ تشرين الثاني عام ،2004 أي منذ نحو ثماني سنوات، والرجل يلقب ب”الشهيد” . الكثيرون، عندما يتحدثون عنه، يلقبونه ب”الشهيد ياسر عرفات” . لم يكن ذلك من باب التضخيم فحسب، ولكن لإدراكهم أن عرفات قتلته “إسرائيل” الملعونة، ويضيفون أن ذلك كان بعلم وتستر أمريكي فرنسي، نظراً لأن الوفاة وقعت في مستشفى “بيرسي” العسكري في فرنسا، وأن النائب العام الفرنسي كان حتماً على علم أكيد بسبب وفاة عرفات .

إذا كان الأمر كذلك فكيف، ولماذا جرى التكتم على سر وفاة عرفات؟ لماذا تكتم الجميع على هذا السر؟ فقد عقدت الألسنة، ولم تنطق بما كان يجب أن تنطق به في جريمة اغتيال رئيس عربي قاد واحدة من أهم فصائل المقاومة الفلسطينية ضد الكيان الصهيوني، بغض النظر عن تورطه في مسيرة “سلام أوسلو”، لكنه حتى عندما تورط في هذا السلام، فإنه كان يبحث عن حل، أي حل، يريح الشعب الفلسطيني من معاناته، ولو مؤقتاً، بعد أن تنصل العرب عن مسؤولية تحرير فلسطين، وتحولوا بإرادتهم، أو رغماً عن هذه الإرادة، إلى مسيرة السلام المضللة، وجرى الترويج لثقافة السلام ونبذ ثقافة المقاومة، وتحولت معظم فصائل المقاومة إلى منظمات إرهابية بعد ذلك، جرى التورط عربياً في مقاطعتها .

هل كان علينا أن ننتظر حتى تأتي قناة “الجزيرة” وتقود تحقيقاً في ملابسات اغتيال عرفات؟ أين كانت الأجهزة الفلسطينية والعربية والدولية المعنية طوال ثماني سنوات؟ ولماذا لم تقم الدنيا وتأبَ القعود عقب اغتيال عرفات على نحو ما فعلت عند اغتيال رئيس الوزراء اللبناني الأسبق رفيق الحريري؟ وأين السلطة الفلسطينية وأجهزتها من كل هذا، وأين جامعة الدول العربية هي الأخرى وأجهزتها من هذه الجريمة بحق رئيس عربي، جرى تهديده رسمياً من جانب سلطات الاحتلال الصهيوني، وجرت محاصرته في مقر إقامته إلى أن تم نقله للعلاج في ذلك المستشفى الفرنسي؟

أسئلة ما حدث كثيرة، لكن بعض الأهم الآن هو ما يجب أن يحدث بعد أن تم الكشف عن السر الأهم في وفاة عرفات .

فقد كشف تحقيق “الجزيرة” الذي استمر تسعة أشهر بموافقة من أرملة عرفات التي سلمت فريق العمل حقيبة فيها مقتنيات شخصية لعرفات استخدمها قبل فترة وجيزة من وفاته، وجود مستويات عالية من مادة مشعة وسامّة تسمى البولونيوم، هذا الاكتشاف أعلنه مدير معهد الفيزياء الإشعاعية بمدينة لوزان السويسرية الذي قام بتحليل عينات من بقع من دم عرفات وعرقه وبوله ولعابه كانت في المقتنيات التي سلمت إلى المعهد من جانب فريق تحقيق قناة “الجزيرة”، وعندما حلل العلماء والأطباء السويسريون تلك العينات لم يعثروا على أثر لسموم المعادن الثقيلة أو التقليدية، ولهذا تحول اهتمامهم إلى مواد أكثر غموضاً من بينها البولونيوم، وكانت المفاجأة أن كميات البولونيوم التي عثروا عليها في مقتنيات عرفات كانت أعلى عشرات المرات من الحالات الخاضعة للمراقبة، حتى مقارنة بما اكتشف من هذه المادة في جثمان الجاسوس الروسي السابق الكسندر ليفينتكو الذي اغتيل بالبولونيوم أواخر عام 2006 في لندن، ما دعا فرانسوا بوتشر مدير المعهد إلى القول: “أؤكد لكم أننا وجدنا كمية عالية من البولونيوم غير المدعوم 210 “المصنع” في أغراض عرفات التي تحمل بقعاً من السوائل البيولوجية” .

الشهادة الثانية، جاءت على لسان الشيخ تيسير التميمي قاضي قضاة فلسطين الذي قال إنه أشرف على تغسيل جثة عرفات، ولاحظ أن الدم كان ينزف ولم يتوقف من أجزاء في جسده خاصة الوجه، مع وجود بقع حمر وزرق في اليدين والساقين والفخذين . وأضاف “اضطررت لأطلب اللاصق الطبي لأضعه على مكان النزف الذي لا يتوقف حتى أتمكن من إكمال الغُسل”، وقال أيضاً “إنه سأل أحد الأطباء عن سبب النزيف بعد الوفاة فأوضح أن السبب قد يرجع إلى بعض السموم التي تُذهب خاصية التجلط في الدم وتسبب التميع الذي يؤدي إلى خروج الدم بغزارة كالعرق من الجلد” . وهنا كانت شهادة الشيخ التميمي “قلت منذ تلك اللحظة إن عرفات قتل بالسم” .

الأمر يتطور الآن بعد موافقة أرملة عرفات على استخراج رفاته من مقبرته لأخذ العينات المطلوبة لإجراء التحاليل اللازمة للوصول إلى يقين مؤكد بأسباب الوفاة، وبعد أن أجاز المفتي العام للقدس الشيخ محمد حسين نبش رفات الرئيس الفلسطيني الراحل بغرض التحقيق في سبب وفاته . والمطلوب الآن إصدار قرار من الرئيس الفلسطيني باستئناف التحقيق في ملابسات وفاة عرفات، شرط أن تتولى جهة تحقيق محايدة ومستقلة هذا الأمر، وأن تقود جامعة الدول العربية تحقيقاً بهذا الموضوع بالدعوة إلى إجراء تحقيق دولي وتشكيل لجنة دولية للتحقيق خصوصاً بعدما وجه وزير الخارجية التونسي رفيق عبدالسلام دعوة لجامعة الدول العربية لعقد اجتماع عاجل على مستوى وزراء الخارجية لبحث الأمر، مؤكداً أن هذا الأمر يعد مسؤولية أخلاقية وسياسية .

الجامعة العربية، بالتضامن مع السلطة الفلسطينية، مدعوة لرفع الأمر إلى الأمم المتحدة وإلى محكمة العدل الدولية لأنه لم يعد ممكناً الصمت على أي جريمة ترتكب بحق أي إنسان عربي، فما بالنا بالفقيد عرفات؟ لأن ما حدث من مؤامرة الصمت والتكتم على جريمة اغتياله لا تقل في بشاعتها عن جريمة الاغتيال نفسها، ولأن رد الفعل الصهيوني على تجديد مطالب التحقيق في جريمة اغتيال عرفات يفوق كل تصور ويؤكد عبث أي مزاعم لتعايش أو تفاوض مع هذا الكيان الاستعماري العنصري .

فقد سارع وزراء “إسرائيليون” إلى اتهام الفلسطينيين بأنهم ليسوا مهتمين بمحادثات السلام على نحو ما جاء على لسان نائب رئيس الوزراء رئيس حزب “شاس” ايلي يشاي الذي اعتبر استجابة الرئيس الفلسطيني محمود عباس لطلب تجديد التحقيق في أسباب وفاة عرفات “محاولة استرضاء للمتطرفين وبالتالي دعم الإرهاب”، معتبراً أن القرار “قرار فتح التحقيق في اغتيال عرفات” مثير للشفقة ويشهد على نوايا الفلسطينيين، وليس هناك مجال لأي مفاوضات هنا، وأن “المفاوضات على المريخ لديها فرصة أفضل لتحقيق نتيجة من المحادثات في منطقتنا”، أما وزير الاتصالات عن حزب الليكود يسرائيل كاتس فاعتبر أن المطالبين بالتحقيق مجدداً في أسباب وفاة عرفات على نحو ما جاء في المؤتمر السادس لحركة التحرير الفلسطيني “فتح” أنهم “يريدون حرباً”، فيجب أن يحصلوا على حرب، إن مؤتمر “فتح” وقراره بشأن عرفات يؤكد أن أبومازن “الرئيس الفلسطيني” ليس قائداً، بل منقاد نحو الوهم والأفكار المتطرفة عن “إسرائيل””، والنتيجة كما يراها هذا الوزير هي دعوته للحكومة “الإسرائيلية” للإعلان عن أن الفلسطينيين لم يعودوا شركاء في مفاوضات سلام “إلا عندما يسحبون قرارهم (قرار تجديد التحقيق في وفاة عرفات) ويعلنون نيتهم الاعتراف ب”إسرائيل” دولة يهودية، ويتنازلون عن حق العودة للاجئين الفلسطينيين” . هذا هو ثمن الصمت على جريمة التستر على اغتيال عرفات وثمن التجرؤ في طلب تجديد البحث في أسباب وفاته .

http://www.miftah.org