معركة السطر الأخير من الصفحة الأخيرة
بقلم: عدلي صادق
2012/9/3

الموقع الأصلي:
http://www.miftah.org/display.cfm?DocId=14066

لم يتبق لدينا إلا لغتنا التي لم يستكمل الصهاينة احتلالها. هي مُحتلة جزئياً، إذ لم نعد نتحدث عن استلاب فلسطين الكاملة، وهي من حق أهلها بشهادة 'كواشين' الملكية ووقائع التاريخ المسجلة، وحتى بشهادة منشورات صهيونية، كان اليهود أنفسهم يوزعونها، في الربع الأول من القرن الماضي، متوسلين بمعسول الكلام، أن يقبل شعبنا الكريم الطيب بهم، ضيوفاً مؤدبين مسالمين متنورين، شُطاراً في الزرع والقلع والمهن، لكي يعيشوا بين ظهرانينا.

تلك الوقائع والوثائق، ليست بعيدة ولا غابرة، بمعايير أزمان الشعوب وأعمار الأوطان. وعلى الرغم من ذلك، أوصلتنا عملية التسوية التي صدقنا أنها ممكنة؛ الى احتلال نحو 78% من لغتنا، تتويجاً لتسليمنا بضياع النسبة نفسها من أرض وطننا.

كنا، في تبرير شطب أكثر من ثلاثة أرباع لغتنا، نقول إنه لا يصح تضييع فرصة الحصول على الحق الممكن أو الوطن الممكن في شكل الدولة، بشفاعة الحق المستحيل والوطن المستحيل. وثبت بعد السنوات الخمس الأولى من عملية التسوية؛ أن الاستحالة تجر استحالات، والشطب يجر شطوبا (لا تشطيبات) وأن المحتلين لا يبغون أقل من قتل كل لغتنا المتعلقة بالوطن. وها هي تظهر نواياهم سافرة، في لجة هذه الفوضى الدولية، التي يفتش فيها الأمريكيون والصهاينة، عن موضع يسحقون فيه خصمهم، تعويضاً عن هزائمهم وخيباتهم في مواضع أخرى، وانكساراتهم الاقتصادية والأدبية.

يدافع الفلسطيني عن الخندق الأخير من قاموس الحكاية. وهؤلاء المحتلون، لا يريدون غض الطرف عن جملة تنبض، أو عن حركة قيد أنملة، سياسياً، ولا يرون نصرهم إلا بشطب ما تبقى من تعبيرات سياسية، عن بقايا الأمنية الفلسطينية والرواية الفلسطينية. لذا تراهم يجعلون رياض المالكي غير ذي الأفران، المعادل الموضوعي لجوزيف غوبلز، وزير الدعاية النازية الهتلرية. وهم، فيما يقولون، واثقون من أن القوى النافذة في العالم، لن تزجرهم، ولن تسخر من تشبيهاتهم، ولن تتخذ منهم موقفاً. فقد كان برهان 'البطولة' التي يتمتع بها الأمين العام للأمم المتحدة ـ مثلاً ـ هو الوقوف في طهران، لكي ينبه الإيرانيين الى مكمن 'الشطط' الذي يراه في لغتهم حيال إسرائيل، والى ما يراه ويرونه 'مروقاً' يمثله الاستمرار في تخصيب اليورانيوم. فلا شطط صهيونياً أمام ناظريهم، بل إنهم يحاسبون الآخرين، على امتناعهم عن اللطم تفجعاً على ضحايا 'المحرقة'.

لسوء حظ المحتلين الصهاينة، أن واقع الحال، اليوم وغداً وبعد ألف سنة، لن يساعدهم على احتلال السطر الأخير من قاموس لغتنا، وانتزاع شرعيتهم من خلال تسليم الضحايا بحق الغزاة، في انتزاع أرضنا. لا يملكنَّ رئيس ولا وزير ولا لجنة ولا جيل كامل، أن يعطيهم ما لا يملك إعطاءه من حق الأجيال، سابقها ولاحقها. بالعكس، ستكون لسفالاتهم مفاعيل مضادة، فإن لم نستطع اليوم، استرداد بعض ما سلمنا بضياعه من الأرض، بشفاعة ما صدقنا أننا بصدد استرداده؛ فعلى الأقل سنهجم لاسترداد ما فقدناه من لغتنا، بدءاً من تثبيت مواقعنا في الصفحة الأخيرة، والتطلع الى ما قبلها، ثم الى أبعد فأبعد، في إعادة تظهير المشطوب كله.

ربما للمرة الأولى في تاريخ الصراعات، يرفض المنتصر أن يتقبل الهزيمة الاستراتيجية، بل والتفصيلية، من أعدائه. فهؤلاء المعتوهون المهووسون الشرهون المجردون من كل قيمة إنسانية؛ لا يكفيهم أن نكون مهزومين، ويريدوننا عبيداً فيما نحن أحرار، لم نقبل بالمسار السلمي الضائع، إلا لإنقاذ ما يمكن إنقاذه، بشجاعة ووطنية. فالمهزوم ربما يلملم أشتاته ويعيد الكرّة، وهذا ما يزعجهم، أما العبد فإنه يوطّن النفس على عبودية أبدية.

منظومة غرائزهم تجعلهم يتحسّبون من كل كلمة، ولا يريدون أقل من شطب كل لغتنا، في السياسة والاجتماع، مع إحالتنا الى نوع مستحدث من المقابر، يهجع ويضطجع فيها الموتى الأحياء!

معتوهون هم، وواهمون. إن نظروا في مرآة الدنيا ومجرياتها، وحدقّوا فيما تحت سطح النبأ الراهن، سيكتشفون أنهم تافهون وذاهبون بأرجلهم الى خيبة كبرى، وأن للفلسطيني امتداده في الضمير الإنساني، وأن السوي والعاقل ـ حتى من بينهم ـ لا ينكر حقنا ولا عدالة قضيتنا. وإن كانت طبائع القبائل والتضاريس وغلاظة المسعى وعفونة الأذناب؛ قد ساعدت على خيبة الأمريكيين في افغانستان، فإن طبائع أخرى ستنشأ عندنا، لتساعد على خيبة الغزاة في بلادنا. لن نكون إلا أحراراً وأسلافاً للرجال الذين أطلقوا ثورة التحدي البطولي. أما بلطجي البار ومشعل الشجارات قبل الهروب من ساحتها، فلا قيمة له، ولا وزن في الحاضر ولا في المستقبل. بخاصة عندما يكون بصدد محاولة غريزية، لإلحاق الهزيمة بنا ودحرنا، في معركة الدفاع عن الصفحة الأخيرة والخندق الأخير، من لغة وقاموس، نحفظهما عن ظهر قلب.

http://www.miftah.org