كيف نُعَقْلِن الاحتجاج؟
بقلم: عبد المجيد سويلم
2012/9/6

الموقع الأصلي:
http://www.miftah.org/display.cfm?DocId=14082

الحق بالاحتجاج في أيّ نظام ديمقراطي مفترض هو حق مُصان.

وعندما يتعلق الأمر بلقمة الخبز يصبح حق الدفاع عن مصالح الفئات والطبقات واجبا وطنيا وديمقراطيا على حد سواء.

النظام الديمقراطي مهما كانت الصعوبات التي يمرّ بها، ومهما كانت الضغوط السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي يتعرض لها لا بد أن يتعامل مع هذا الحق من موقع المؤيد والمؤازر والمتفهم (وذلك أضعف الإيمان)، ولا بدّ له (أي النظام الديمقراطي) أن ينبذ ويستبعد كل أشكال القيود على هذا الحق، ناهيكم طبعاً عن الكفّ التام عن أية إجراءات تعسفية في مواجهته.

بل على العكس من ذلك فإن النظام الديمقراطي لا يجوز له أن يتعامل مع هذا الحق إلاّ باعتباره (الحق) جزءاً أصيلاً وعضوياً من منظومة الحقوق التي ينظمها القانون الديمقراطي. الحراك ضد موجة الغلاء (والأصح القول: الموجات المتلاحقة للغلاء في بلادنا) هو جزء من هذا الحق ومن صميم مكوّناته، ولا يجوز لكائن من كان أن يصور هذا الحق بما ينطوي عليه من مطالبات عادلة ومشروعة وكأنه من خارج هذا السياق أو على هوامشه وجنباته.

في ظل تجربتنا السياسية الخاصة في فلسطين ظل الجانب السياسي يشكل الهاجس الأول للمجتمع السياسي والمدني العام، وكاد (التصور النخبوي) يحصر حقوق الاحتجاج ويقصرها على الجانب السياسي ـ إما بحكم الطبع أو التطبّع ـ حتى بدت المطالب الاقتصادية والاجتماعية وما يفترض أن يترتّب عليها من حقوق تعبيرية وكأنها خارج منظومة الحقوق أو كأنها 'ترف' حقوقي زائد وليس باعتبارها جزءاً أصيلاً من منظومة حقوق المواطن والمواطنة. بهذا المعنى فإن الاحتجاجات إن كانت مطروحة على جدول أعمال المجتمع الفلسطيني ـ وهي مطروحة فعلاً ـ فهي مطروحة للتأييد، ليس إلاّ.

وإن كان هناك من مشكلات تتعلق بهذه الاحتجاجات فهي تتعلق بشكلها وليس بجوهرها ولا بمضمونها، وهي تتعلق أساساً بالقدر الذي لا بدّ أن تتحلى به من موقع المسؤولية الوطنية والديمقراطية من الموضوعية والعقلانية، وذلك حتى ننطلق من أرضية مُشخّصة ومعروفة وواقعية من جهة، وحتى تتمكن بالاستناد إلى ذلك من الحصول على أعلى درجة ممكنة من تحقيق مطالبها وبما هو ممكن ومتاح الآن وفي المستقبل، أيضاً، من جهةٍ أخرى.

وعلى الرغم من أن الاحتجاجات توجّه في العادة ضد الحكومة (وهذا شيء طبيعي) وهذه هي الجهة المسؤولة عادة عن الإدارة الوطنية وعن السياسات الاقتصادية والاجتماعية فإن توجيه الاحتجاجات ضد حكومة السلطة الوطنية مسألة تحتاج إلى نقاش مسؤول.

السبب في ذلك هو أن موجة، أو الموجات المتلاحقة للغلاء ليست في الواقع نتيجة مباشرة أو حتى غير مباشرة لسياسات الحكومات الوطنية الفلسطينية المتعاقبة، بل هي بالأساس نتيجة مباشرة وغير مباشرة للقيود والمحددات وسلاسل التكبيل السياسية والاقتصادية التي ما زالت تحول دون أن يكون لهذه الحكومات القدرة على ممارسة سياساتها بصورة عامة وبالوسائل التي تراها مناسبة، وخصوصاً في مجال السياسات الاقتصادية والاجتماعية والتي تعكس نفسها على القدرات والمقدرات التنموية لهذه الحكومات.

وإذا كان للسياسات الاقتصادية والاجتماعية لحكومات السلطة الوطنية المتعاقبة من 'ذنب' فهو ذنب عدم الانتباه المبكّر لذات السياسة الاقتصادية والاجتماعية التي تتبناها السلطة الوطنية اليوم وعدم القدرة الكافية على تطبيق هذه السياسة بدون أي تردد أو تراجع.

فتقليص الاعتماد على المساعدات الخارجية في تمويل الميزانية الجارية كان ولا يزال هدفاً سامياً طالما أن السلطة الوطنية كانت تعي الاتجاه بانسداد الأفق السياسي للحل، وتزايد الضغوط السياسية عبر البوابة المالية والاقتصادية بالذات بهدف التركيع السياسي والقبول بالشروط الإسرائيلية للحل.

وعندما تمكنت السلطة الوطنية من خفض هذا الاعتماد من قرابة 1,8 مليار دولار إلى ما دون المليار في فترة قياسية (بالمقارنة في الظروف والصعوبات) فقد حققت إنجازاً هائلاً بكل المقاييس والتوجه لزيادة حجم الموارد المحلية الوطنية في تحويل هذه الميزانية عَبر تحسين أداء التحصيل الضريبي ومكافحة التهرب الضريبي وليس عَبر زيادة الضرائب (حيث أن نسبة زيادة الضرائب هي الحصة الأقل في زيادة حجم الموارد المحلية) فإن السلطة الوطنية تكون قد تقدمت بخطوات كبيرة نحو التحرر من الضغوط الاقتصادية المباشرة على القرار السياسي الوطني. وأصبحت تتكامل يوماً بعد يوم معادلة تخفيض الاعتماد على الخارج مع زيادة حجم الموارد الوطنية باتجاه تمويل كامل الميزانية الجارية من الموارد الوطنية، ونحن نقترب اليوم من تمويل كامل الرواتب من هذه الموارد سيما وأن الفاتورة الأكبر من الميزانية الجارية هي فاتورة الرواتب بالذات.

البعد السياسي الاستراتيجي في السياسات الاقتصادية للحكومات الفلسطينية، وخصوصاً في السنوات الأخيرة مسألة مطروحة للثناء عليها والاستمرار بها والعمل على تعميق التوجهات التي من شأنها تسريع الحصول على النتائج المتوخّاة منها. أما ما يُقال حول 'إعفاء' الدول المانحة من التزاماتها فهو قول يفتقر إلى الجديّة لأن السلطة الوطنية ليست بوارد إعفاء أحد، ولكنها ليست بوارد العيش على الوعود وعلى الالتزامات التي تقدم في المؤتمرات وما تلبث أن تتبخر عند أول منعطف سياسي أو حتى أزمة اقتصادية أو اجتماعية حتى ولو كانت عابرة.

وعندما نقلت السلطة الوطنية وحكوماتها في البعد الاقتصادي المعركة إلى منطقة (ج)، وحيث كانت إسرائيل تحاول تصوير هذه المنطقة وتكريسها في الوعي الدولي وكأنها خارج نطاق عمل السلطة الوطنية فقد تبين الآن أن هذا المجتمع قد انحاز إلى هذه السياسة، وأصبح هذا المجتمع الدولي نفسه يطالب اليوم بتركيز التنمية في هذه المناطق كضرورة حيوية للاقتصاد الفلسطيني، وهو يُجاهر بهذا الأمر، وقد باشر بإقامة المشاريع التطويرية فيها بالذات. وعندما تضاعف السلطة من حجم الموارد التي تخصصها للمساعدات الاجتماعية والمخصصات التي تتعلق بالأسرى وأسر الشهداء والجرحى، وعندما نطالع فاتورة ديون السلطة الوطنية لشركات الأدوية والقطاع الخاص الذي هو المزود الرئيسي من الخدمات والسلع لمشاريع ونفقات السلطة الوطنية، فإننا نلاحظ كيف أن السياسة الاقتصادية والاجتماعية قد جنحت في السنوات الأخيرة تحديداً نحو البعد الاجتماعي ونحو الفئات والطبقات الأقلّ حظاً في المجتمع.

الحقيقة أن المشكلة لا تكمن في السياسات الاقتصادية والاجتماعية، فالحوار الاجتماعي يتعمّق ويتمأسس بصورة غير مسبوقة، وشبكة الحماية الاجتماعية على جدول أعمال هذه السياسة وبرامج مختلفة بما فيها الحد الأدنى للأجور أصبحت بحكم المنجزة.

تكمن المشكلة أساساً بتحول ظاهرة الغلاء (وخصوصاً المواد الأساسية وأسعار الطاقة) إلى ظاهرة عالمية عميقة طالت وتطال وستطال معظم الاقتصاديات العالمية المتقدمة منها والمتوسطة وضعيفة التطور. كما تكمن في ظروفنا الخاصة بعلاقة التبعية البنيوية لاقتصادنا الوطني بالاقتصاد الكولونيالي الإسرائيلي المهيمن، وبالاتفاقيات 'الجائرة' التي كبّلت قدرتنا على النمو الاقتصادي المتحرر من السيطرة التامة للاحتلال. لقد اعتقدنا واهمين أن المرحلة الانتقالية لن تتجاوز السنوات الخمس التي حددت بها 'وقبلها' عن سوء تقدير أو سذاجة سياسية أو مصالح خاصة، بأن تكون في عداد منطقة جمركية واحدة مع اقتصاد هو أكبر من اقتصادنا بما يقارب العشرين مرة، مسخّر له كل منظومة الاحتلال وقوانينه وإجراءاته ووسائل سيطرته وتحكمه التام بالحدود والمعابر وتجارة المواد الأولية والسلع والخدمات، وتحت تصرف هذا الاقتصاد القومي والمتقدم توجد منظومات متكاملة لمصادرة الأرض والموارد ونهب الثروات. لا أعرف الفائدة التي يمكن أن تتحقق لنا على المدى المباشر وحتى المتوسط من مراجعة اتفاقيات باريس بدون أن يكون ذلك في إطار بحث شامل عن التحرر من كل منظومة الاتفاقيات الانتقالية، ولست واثقاً من أن النخب الاقتصادية والاجتماعية والثقافية على معرفة كافية بالتوجهات المطلوبة لإنهاء هذا الإجحاف الذي يحوّل قوت المواطن الفلسطيني إلى ألعوبة إسرائيلية.

فنحن نستهلك بالأسعار الإسرائيلية وحدود الانخفاض عنها لا يمكن أن تزيد على 20ـ25% منها، وفي حين أن دخل المواطن عندنا لا يمكن أن يتجاوز 1 على 16 من دخل المستهلك الإسرائيلي. هذا لا يعني أننا لا نستطيع أن نفعل شيئاً على مستوى التفكير بدعم بعض السلع الأساسية أو البحث عن إمكانية الحصول على مصادر جديدة للطاقة، وخصوصاً الوقود، أو اننا لا نستطيع الحد من الاحتكار أو الرقابة على الأسعار وردع جدّي لكل من يحاول التطاول على لقمة عيش المواطن.

نحن نستطيع أن نقوم بذلك ويجب أن نقوم بذلك، ونستطيع أن نضغط باتجاه المزيد من الدعم الاجتماعي وإدخال فئات جديدة لهذا الدعم، وخصوصاً المزارعين، ونحن نستطيع أن نلتزم بوضع جدول جديد لغلاء المعيشة في القطاعين العام والخاص ولكننا لا نستطيع ولا يجب أن نبيع أحداً الأوهام عن حدود إمكانياتنا وسقوف قدرتنا على التصدي السريع والفعال للمشاكل الاقتصادية المستعصية. علينا أن نحدد ما الذي يمكننا أن نقوم به بدقة ومسؤولية بعيداً عن العشوائية والارتجال وشراء وبيع الأوهام وعلينا أن نبعد هذه الاحتجاجات عن دائرة الشخصنة والتسييس الفئوي والتجيير الفصائلي واستغلال فقر الناس وبؤسهم واحتجاجاتهم المشروعة لخدمة أجندات خاصة هي أبعد ما تكون عن الشعور بمشاكل الناس وهمومهم وحقوقهم وعدالة مطالبهم.

http://www.miftah.org