تصريح بلفور ووعود واشنطن
بقلم: محمد عبيد
2012/11/5

الموقع الأصلي:
http://www.miftah.org/display.cfm?DocId=14265

ليس اليوم شبيهاً بالأمس بأي شكل، رغم أن كثيرين استسهلوا أمر التحليل والتعليل لكل قضية وشأن، مستخدمين تلك العبارة الأثيرة “ما أشبه اليوم بالأمس!«، مع أن التاريخ لا يكرّر ذاته، ولا اليوم مثل سابقه، مهما تشابه المشهد .

الأمس غير القريب كان مختلفاً جداً، فهناك في لندن آرثر جيمس بلفور وزير خارجية القوة الاستعمارية البريطانية الكبرى في الفترة بين 1916 ،1919 الذي أصدر في الثاني من نوفمبر/ تشرين الثاني 1917 ذاك التصريح المشؤوم، الذي عرف منذ ذلك الحين ب”وعد بلفور«، والذي أكد تبني مشروع الصهاينة إقامة “وطن قومي”في فلسطين .

وهناك في واشنطن اليوم، طرفان متنافسان على تأكيد التزام دعم الكيان، وصون أمنه واستقراره، ولا يكاد أي مشروع أو توجه أو سياسة خارجية يرسمها أي من الحزبين الديمقراطي والجمهوري، وعلى رأسيهما المتسابقان إلى كرسي المكتب البيضاوي باراك أوباما وميت رومني على التوالي، يخلو من تكرار تأكيد هذا الالتزام والذهاب أبعد من ذلك، بتبني رؤى وسياسات الكيان، والدفاع عن جرائمه بكل ما توفر، وترديد الوعود الصريحة المدعومة بالقوة المادية لضمان “أمن واستقرار”الكيان المارق .

95 عاماً على “التصريح - الوعد«، ورغم ما حمله وشكله من نواة وأساس لتبرير وتشريع الصهيونية العالمية، وبعد ذلك الدفاع المستميت عن جرائمها بحق العرب والفلسطينيين، إلا أنه لم ولن يكون أخطر مما حملته وتحمله السياسة الأمريكية الحالية من رؤى تجاه القضية الفلسطينية، ولن يكون أشد فتكاً من تزويد الكيان بصواريخ “القبة الحديدية«، وضمان تفوق “إسرائيل”عسكرياً على جيرانها ومحيطها، ومشاركتها في إخفاء ملامح برنامجها وسلاحها النووي، والترافع عن جرائمها على المنابر الدولية، ولن يكون أنكى من مجابهة الفلسطينيين وحيدين “إسرائيل”وأمريكا والغرب مجتمعين .

تصريح بلفور لم يؤسس الكيان، وإن رأى فيه كثيرون تشريعا لوجوده على أرض فلسطين التاريخية، كما أن العصابات الصهيونية منذ إنشائها، وحتى هذا اليوم الذي يتبنى فيه ورثتها “الشرعيون”من عتاة مجرمي الحرب “الإسرائيليين«، النهج ذاته في مشروعهم التاريخي لاقتلاع كل ما هو فلسطيني من جذوره التاريخية والجغرافية والإنسانية، لم تحتج إلى إذن من بريطانيا، ولن يحتاج ورثتها حالياً إلى إذن أمريكي أو غربي لمواصلة هذا النهج، فهم من يضعون الخطوط الحمراء، وهم من يعطون الإذن، ويضعون السياسات .

بلفور أصدر تصريحاً موجها إلى اللورد والتر دي روتشيلد، مستخدماً هذا الصهيوني وسيلة لإيصال “الوعد”إلى الاتحاد الصهيوني، لكن الولايات المتحدة والغرب الآن، لا يحتاجون إلى وسطاء أو “مراسلين”لإيصال الوعود والالتزامات الفعلية، التي تترجم في السياسة وعلى أرض الواقع دعماً لا متناهٍ للكيان الغاصب، ومشاركة فعلية في مشاريعه التوسعية والعنصرية والإقصائية .

إنه ما يسمى التراكم التاريخي، ومسيرة التاريخ، المتواصلة في التطور الزماني، وليس بأي حال من الأحوال، حالة تكرار، فالتاريخ مضى إلى غير رجعة، وهو لن يكرر ذاته إلا في عقول من استساغوا واستسهلوا الانكفاء والتقوقع، هرباً من واقع مرير، لن نرى بلفور يصدر تصريحاً آخر، ولن يعود اللورد روتشيلد ليبلغ “الاتحاد الصهيوني«، فهناك حالياً معسكر أمريكي غربي لاهث خلف استرضاء كيان اسمه “إسرائيل«، مضى ويمضي في جرائم الإبادة والاقتلاع والتهجير القسري، وتدمير التراث الإنساني، وتهويد مقدسات تحمل الصبغة العالمية، وتشكل مهوى أفئدة المؤمنين من الديانات السماوية حول العالم .

تراكم التاريخ يحتاج بالضرورة إلى تراكم الخبرات والتجارب، والتعاطي مع القوى العالمية بطريقة تتناسب مع تعاطيها مع الكيان المحتل، بدلاً من مواصلة اجترار المرارة على ما فات .

http://www.miftah.org