مئات العائلات من فلسطينيي48 يعيشون تحت خط الفقر
بقلم: مفتاح
2004/9/25

الموقع الأصلي:
http://www.miftah.org/display.cfm?DocId=1684


(1)

عندما تعرفت عن قرب لأول مرة علي فقيدنا الراحل العزيز الصديق ماهر عبدالله، كنا نعمل معاً لإعداد كتاب حول فلسطين (صدر فيما بعد بالانكليزية بعنوان روح فلسطين ). كان ذلك في مطلع التسعينات، وقد أدركتنا كارثة غزو الكويت وما تلاها ونحن عاكفون علي ذلك المشروع. لم يكن لدينا إذن نقص في القضايا التي نتجادل حولها في المكتب أو في الطريق.

كنا نستخدم سيارتي عادة في تنقلاتنا في العاصمة البريطانية، ولعل ما أكثر ما أذكره من تلك الرحلات تحذيرات ماهر المتكررة لي والتي كان يقطع بها مساجلاتنا بين حين وآخر دير بالك! هذا التحذير حول قيادتي للسيارة سمعته بعدة لهجات عربية وبأكثر من لغة، دون أن ينفع كثيراً.

(2)

كنت بالمقابل كثيراً ما أتندر بأن التدخين أكثر خطراً علي الحياة من قيادتي المتهورة للسيارة! ولكن العبرة في سيرة ماهر واستشهاده المرجو ليست فقط في أن الحذر لم ينج من القدر، صحيح أن هناك الكثير مما يدعو للتأمل في سيرة ابن جنين ورفيقه في السيارة د. بشير نافع ابن غزة، ونجاة كل منهما من أهوال المخيمات وسجون ورصاص العرب والعجم، ليصابا في حادث سيارة في مدينة عربية من أكثر مدن العالم أمناً. ثم تكون الشبهة الوحيدة في الحادث تحوم حول جهة عربية كانت في الظن تستهدف شخصاً ثالثاً لا علاقة له بفلسطين.

ولكن الذي يدعو للتأمل هو محنة المثقف العربي التي رمز لها ماهر في غربته الدائمة.

(3)

كان ماهر في أول حياته الصحافية يكتب في مجلة الغرباء ، وهي مطبوعة كان يصدرها الطلاب الإسلاميون في بريطانيا، وترمز في عنوانها إلي الغربة المزدوجة للطالب العربي في الغرب وللإسلامي في عصر اعتقد البعض أنه يصدق عليه الحديث المشهور: بدأ الإسلام غريباً، وسيعود غريباً كما بدأ. فطوبي للغرباء الذين يحيون سنتي بعد اندثارها .

كان ماهر العربي الفلسطيني الإسلامي يحمل الغربة في داخله، وإن كانت قناة الجزيرة قد ردت إلي حد ما غربته الفكرية وأتاحت له منبراً تتجلي فيه مواهبه ويعبر فيه عن آرائه.

ولا شك أن هذه أكبر هدية يمكن أن تقدم لمفكر عربي في هذا الزمن العربي القاحل ولكن هذه النقلة لم تداو الغربة النفسية للفلسطيني صاحب المنفي الدائم. وكنت قد تحدثت مع ماهر بعد فترة قصيرة من انتقاله الي الدوحة فوجدته يعاني ما يشبه الاكتئاب لافتقاده لندن وحيويتها وصخبها، ويجد مدينة الدوحة الهادئة الصغيرة أشبه السجن.

ولكنه في نهاية الأمر تأقلم مع الدوحة ونحت في داخلها عالمه، كما أن الدوحة أخذت في السنوات الأخيرة تكتسب حيوية متزايدة بعد أن أصبحت قبلة الكثير من المؤتمرات والمناسبات.

ولكن القلق عند ماهر وغربته الداخلية لم يهدآ، فهو علي الرغم من النجومية التي حققها عبر تقديم برنامج الشريعة والحياة كان كما يعرف الكثير من زملائه، يتطلع إلي التغيير والانتقال إلي برامج أخري. وقد خاطبني أكثر من مرة في رغبته في التسجيل عندنا في الجامعة لإعداد رسالة دكتوراة، وقد وصلنا مرحلة تحديد موضوع البحث والترتيبات العملية للتسجيل مع بقائه في الدوحة، ولكن المشغوليات ظلت تحول دون تنفيذ رغبته هذه. وقد علمت فيما بعد أنه كتب بعض فصول ذلك البحث سلفاً.

(4)

لا يحتاج المرء ليكون فلسطينياً عربياً إسلامياً ومفكراً ليشعر بالغربة الدائمة في عالمنا المعاصر. وتتضاعف الغربة حين يكون المثقف القلق مثل ماهر أخذت تساوره شكوك قوية في عروبة العرب وإسلامية الإسلاميين وثقافة المثقفين.

أين يمكن، في عالمنا الذي نعرف، أن يجد المفكر الإسلامي حركة إسلامية تجمع بين التمسك بالمبادئ والاستنارة في التفكير والدينامية في الحركة؟ أين يجد المفكر والمثقف المنبر الذي يتيح له قول الحق، كل الحق، ولا شيء غير الحق؟ أين يجد المثقف العربي وطناً؟

(5)

من كثرة سذاجتنا وقلة إيماننا ننظر دائماً إلي من يفارقنا علي أنه المصاب، مع أن المصيبة الحقيقية هي العيش في هذا الزمان المجدب الذي لا يعدنا بغير شيء غير الغربة المستمرة. فلعل ماهراً ـ وندعو الله أن يكون كذلك ـ قد وجد أخيراً الوطن الذي ظل يبحث عنه.

ألا رحم الله ماهراً وخفف من بعده علي اخوته من الغرباء الدائمين إلي حين رد غربتهم إلي وطن لا يبغون عنه حولاً. - القدس العربي -

http://www.miftah.org