الغارديان تستعرض هول الدمار الهائل حصيلة المجازر الإسرائيلية في شمال غزة
بقلم: مفتاح
2004/10/19

الموقع الأصلي:
http://www.miftah.org/display.cfm?DocId=1846


التقرير الاخير الذي اصدره معهد جافي للدراسات الاستراتيجية في اسرائيل يضم الخطوط العريضة للسياسة الاسرائيلية في المرحلة المقبلة. فتقارير هذا المعهد الهام عادة تصدر بمشاركة باحثين يمثلون المؤسستين السياسية والعسكرية في اسرائيل وغالبا ما يعكس التوجهات العامة للمؤسسة العسكرية التي تشكل العمود الفقري للدولة الاسرائيلية. فبالرغم من ان اسرائيل تعتبر دولة ديمقراطية بالمفهوم الغربي الكلاسيكي من حيث وجود الاحزاب السياسية والاقتراع المباشر للبرلمان ومبدأ تداول السلطة الا ان المؤسسة العسكرية التي تتبعها اجهزة المخابرات المختلفة هي الحاكم الفعلي في اسرائيل ولا يمكن لاي حكومة او سياسي ان يقفز علي توصيات هذه المؤسسة المتغلغلة في النظام الرسمي الاسرائيلي. ويعتقد الكثير من الاسرائيليين ان اخر رئيس وزراء حاول تجاوز المؤسسة العسكرية كان اسحق رابين الذي قتله المتطرف ايغال عمير اثر حملة تحريض واسعة شنتها المعارضة اليمينية المتطرفة والمستوطنون وغلاة الصهاينة في الولايات المتحدة الذين اتهموا رابين بالتفريط بقدسية ما يسمي بارض اسرائيل الكاملة التي منحها الرب للشعب اليهودي وحده من خلال عقده اتفاق اوسلو مع الفلسطينيين رغم ان هذا الاتفاق كان لصالح اسرائيل وصمم بحيث يكرس الاحتلال لعقود قادمة لكن بشكل تجميلي يكون مقبولا من الاسرة الدولية. رابين وهو الجندي اللامع والذي قاد الجيش الاسرائيلي كرئيس للاركان في حرب الايام الستة كما يطلق الاسرائيليون علي هزيمة الجيوش العربية في عام سبعة وستين وهو ايضا وزير الدفاع في حكومة شامير الذي وقف امام الكاميرات ليطلب من جنوده كسر عظام الفلسطينيين خلال الانتفاضة الاولي عام سبعة وثمانين وهو نفس الشخص الذي وصل الي قناعة بان الاحتلال الاسرائيلي العسكري المباشر للاراضي المحتلة عام سبعة وستين قد اصبح عبئا علي الدولة العبرية خاصة وانه يهدد شخصيتها كدولة ذات اغلبية يهودية كبيرة وهو الاساس الذي قامت عليه الحركة الصهيونية قبل اقامة اسرائيل.

ورابين لم يخف دوافعه تلك عندما رد امام الكنيست علي هجوم لاحد معارضي اتفاق اوسلو بالقول انه تعب من جمع قمامة الفلسطينيين في غزة وقرر ان يوكل هذه المهنة لياسر عرفات. ورابين رفض الاعتراف بحق الشعب الفلسطيني في تقرير المصير، ونظر للمسألة الفلسطينية من منظار صهيوني كلاسيكي يرفض الاعتراف بالفلسطينيين كشعب له حقوق سياسية ووطنية علي ترابه وهذا الموقف هو جزء من استراتيجية الحركة الصهيونية التي لم ولن تتغير اذ ترتكز علي مبدأ اقامة دولة يهودية علي اقصي مساحة من الارض علي ان تضم اقل عدد من الفلسطينيين العرب وهو ما يفسر سياسة حكومات اسرائيل المتعاقبة في ترحيل الشعب الفلسطيني سواء من خلال الارهاب اثناء الحروب او من خلال ما يسمي بالترانسفير الهاديء والذي وصل الي ذروته مباشرة بعد اوسلو من خلال تكثيف المستوطنات ومصادرة الاراضي واقامة الطرق الالتفافية وغيرها من الوسائط للضغط علي الفلسطينيين للهجرة. ورغم ما تقدم فان خطة رابين للانفصال الاداري وليس السياسي والاقتصادي عن الفلسطينيين لم تحصل علي الدعم الكافي من المؤسسة العسكرية رغم تاريخ رابين كجنرال في الجيش ولعل هذا يفسر شراسة حملة التحريض ضد رابين والتي ادت الي اغتياله ليدخل التاريخ كاول سياسي اسرائيلي يتم قتله بالاغتيال.

لنعود الي التقرير الاخير لمعهد جافي للدراسات الاستراتيجية الذي يؤكد السياسة الرسمية لحكومة شارون وهي السياسة المعلنة والتي لا تحتاج الي الكثير من التحليل، فالتقرير يقول ان اسرائيل ستنسحب من قطاع غزة لانه لا فائدة استراتيجية في السيطرة علي اكثر من مليون فلسطيني في اكثر بقعة مكتظة بالسكان في العالم. لكنها ستصر علي ان يكون الانسحاب من موقع قوة ولا يبدو وكأنها فرت مذعورة من المكان لان المؤسسة الاسرائيلية تعلمت الدرس من انسحابها من جنوب لبنان والذي رأي فيه البعض انتصارا لحركة حزب الله التي قاومت الاحتلال الاسرائيلي خلال سبعة عشر عاما. الوضع يختلف في غزة لسببين اولهما القرب الجغرافي من اسرائيل والخشية من ان يحفز الانسحاب الاسرائيلي تحت النيران الفلسطينيين في الضفة الغربية لاطلاق صواريخ القسام علي المدن الاسرائيلية المحاذية للتجمعات الفلسطينية وهو خط احمر لا تستطيع اسرائيل السماح للفلسطينيين بتجاوزه.

ولعل التدمير الذي ينفذه شارون في غزة الان يصب في هذه الاستراتيجية فهو يفضل سياسة الارض المحروقة في القطاع كي لا يدعي الفلسطينيون ان اسرائيل فرت من المقاومة ولهذا السبب من المتوقع ان يستمر التدمير في غزة في الفترة المقبلة وسط انشغال العالم باحداث العراق والانتخابات الامريكية. الامر الغريب ان هناك دعما عربيا رسميا لخطة شارون اذ تخشي الدول العربية المجاورة ان يترك الانسحاب الاسرائيلي فراغا قد تملؤه جهات من الممكن ان يشكل وجودها خطرا علي الانظمة في هذه الدول لسبب او لاخر.

ويمضي التقرير في القول ان اسرائيل لن تتمكن من القضاء علي الانتفاضة بالطرق العسكرية وهو قول طالما رددته المؤسسة العسكرية الاسرائيلية التي تري ان الجيش الاسرائيلي لا يستطيع توفير الامن لكل مستوطن في الاراضي المحتلة رغم العمليات العسكرية الواسعة التي يقوم بها الجيش الاسرائيلي ورغم الجدار العازل الذي تقيمه اسرائيل الان. موقف المؤسسة العسكرية الاسرائيلية هو التقليل من حجم المخاطر الامنية والسيطرة علي بؤر التوتر بدلا من التلهي بادعاءات فارغة تطالب بالقضاء التام علي ما يسمي بالارهاب. كما تعتقد هذه المؤسسة ان الفلسطينيين في الضفة الغربية ليسوا جاهزين للقبول بتسوية حسب الشروط الاسرائيلية لهذا فهي توصي بالمحافظة علي وتيرة منخفضة للصراع بدل الانشغال في البحث عن حلول لا تلبي الحاجة الامنية لاسرائيل. هذا الموقف ليس جديدا لكل من يتابع توصيات وتقييمات المؤسسات العسكرية الاسرائيلية علي مدي سنوات الصراع. فهذه المؤسسة تعتمد في تقييمها علي دراسات يعدها الجهاز الاستخباراتي وجيش من الخبراء في الشؤون العربية وليس الفلسطينية فقط. المؤسسة العسكرية تتبني موقفا يقوم علي نظرية العداء الابدي بين اسرائيل والعرب فهي دائما تشدد علي ان الشعوب العربية لم تسلم بوجود اسرائيل كدولة سيادية في المنطقة رغم معاهدات السلام التي عقدت مع كل من مصر والاردن والتطبيع مع دول اخري مثل قطر والمغرب وتونس فهي تعلم جيدا ان الانظمة في هذه الدولة لا تمثل رغبة الشعوب وان معاهدات السلام بين حكومات هذه الدول واسرائيل والتي جاءت بضغط امريكي علي هذه الانظمة. هذا الاهتمام بالجوار العربي جاء واضحا في تقرير المركز الذي خصص جزءا هاما للحديث عن القدرات العسكرية للجيش المصري رغم وجود معاهدة سلام بين البلدين.

ويشير التقرير الي ان الفجوة النوعية بين الجيشين المصري والاسرائيلي ما زالت كبيرة رغم ان الجيش المصري يتسلح الان باسلحة امريكية متطورة الا انه لا يزال محتفظا بالعقيدة العسكرية السوفييتية السابقة في مجال سلاح الجو وهو ما يشير حسب التقرير الي ان الجيش المصري لا يشكل خطرا علي اسرائيل لانها تستطيع هزيمة مصر في حالة انزلاق المنطقة في حرب شاملة. لكن الجزء الاهم في التقرير يركز علي تصاعد القدرة الايرانية لا سيما النووية وهو ما يشير الي ان اسرائيل تعتبر ايران الان العدو الرئيسي لها بعد سقوط النظام العراقي السابق رغم ان هذا الاخير لم يشكل يوما خطرا جسيما علي اسرائيل. فالعراق ومصر وسورية هي المراكز العربية الرئيسية الثلاثة التي لديها الامكانية لان تصبح مراكز ثقل قيادية في المنطقة العربية لما تملكه من امكانات بشرية ومادية لقيادة العالم العربي علي طريق التنمية الاقتصادية والتحرر السياسي وهذا يفسر الاسباب التي دفعت اسرائيل وامريكا الي تحييد مصر عبر اتفاقية كامب ديفيد التي غللت مصر بالقيود مقابل مساعدات اقتصادية امريكية سنوية تبلغ ملياري ونصف المليار دولار وتدمير البنية التحتية في العراق بحجة اسقاط نظام صدام حسين القمعي او البحث عن اسلحة الدمار الشامل التي تبين انها لم تكن موجودة اصلا بالاضافة الي الاشارات والضغوط التي تستهدف سورية حاليا من اجل تحييدها هي الاخري، من خلال التلويح بضرورة تغيير النظام او تصدير الديمقراطية علي الطراز الامريكي الي العالم العربي.

وليس غريبا ان يتزامن التقرير الاسرائيلي مع التركيز الامريكي في هذه المرحلة علي ايران التي تري فيها اسرائيل وواشنطن الخطر الاكبر وهي نظرية تتبناها المؤسسة العسكرية الاسرائيلية منذ فترة طويلة بل وحتي شمعون بيريس زعيم حزب العمل الاسرائيلي المعارض الذي ينظر اليه في الغرب علي انه سياسي معتدل وهو رأي يشاطر فيه الكثير من العرب حاول بعد اوسلو من خلال العلاقات والزيارات التي اجراها في العديد من العواصم العربية سواء بشكل علني او سري حشد التأييد لتحالف اسرائيلي عربي ضد ايران وطالما ردد ان ايران تشكل خطرا علي استقرار منطقة الشرق الاوسط ناسيا او متناسيا ترسانة اسرائيل النووية.

القراءة المتأنية لتقرير مركز جافي للدراسات الاستراتيجية في اسرائيل تسلط الضوء علي التحركات السياسية لا سيما تلك التي تطبخ الان في واشنطن والتي تنتظر الي ما بعد الانتخابات الرئاسية الامريكية في تشرين الثاني (نوفمبر) المقبل وهي التي ترجح فوز الرئيس بوش بفترة رئاسية ثانية لكي يخرج ما يسمي بالمحافظين الجدد، وفي مقدمتهم ديك تشيني ودونالد رامسفيلد وبول وولفيتز ملفات خاصة كانوا قد اعدوها قبل اكثر من عشرة اعوام لاعادة تشكيل الشرق الاوسط من خلال تغيير الانظمة القائمة التي انتهي عمرها الافتراضي. الامر اللافت للنظر هو تلاقي المصالح بين المحافظين الجدد والاستراتيجية الاسرائيلية وهو امر ليس صدفة لكل من يتابع تفاصيل دهاليز اروقة السياسة الامريكية.

فاسرائيل حاضرة بقوة في مركز صنع القرار الامريكي خاصة في ظل ادارة الرئيس بوش التي تعتبر اكثر ادارة امريكية تحيزا لاسرائيل منذ قيام الاخيرة عام ثمانية واربعين فليس من المستغرب اذا ان هناك من يتندر علي المحافظين الجدد باطلاق اسم الليكوديين عليهم في العديد من مواقع شبكة الانترنت والتي تعتبر المتنفس الوحيد للاصوات المعارضة للهيمنة الاسرائيلية علي مركز صنع القرار الامريكي بعد ان سيطر اللوبي الاسرائيلي تماما علي وسائل الاعلام المرئية والمسموعة والمقروءة في الولايات المتحدة بحيث يغيب بشكل فاضح اي نقد لاسرائيل واساليبها القمعية في الاراضي المحتلة والتي تهدف الي القضاء علي المجتمع الفلسطيني وتحويله الي مجموعات صغيرة متباعدة علي غرار محميات الهنود الحمر في امريكا الشمالية. فحالة العجز العربي الراهنة تساعد علي اخراج المسلسل الجديد بل وحتي ان هناك العديد من الكومبارس العرب الذين سيشاركون في تقديمه. فنموذج اياد علاوي في العراق وحامد كرزاي في افغانستان مرشح للتناسخ في اكثر من بلد عربي رغم انبطاح الانظمة العربية وتوددها المستمر للسيد الامريكي وعروضها المتواصلة لان تكون في خدمة هذا السيد رغم انه يتعامل معها بكل عجرفة وغرور. - القدس العربي -

http://www.miftah.org