مع الشاعرة الكبيرة على سرير الشفاء ..فدوى طوقان: لؤلؤة الكلام تزهو بذكريات الزمن الجميل
بقلم: محمد دراغمة
2003/6/23

الموقع الأصلي:
http://www.miftah.org/display.cfm?DocId=262

الشاعرة فدوى طوقان "لؤلؤة الكلام، نبتة الظلال التي تعانق المساء، الصوت الحنون الذي يستحضر الأمل وقت الظلمات.."، ليست وحيدة في نهاية رحلتها الجبلية، رحلتها الصعبة، فذاكرتها تزهو بأحداث وذكريات الزمن الذي يبدو اليوم جميلاً، بل وأجمل كثيراً مما تخيلته، وتخيلناه، أحداث وذكريات تؤنس ليل وحدتها، وتبدد وحشة الزمن، والمرض الذي استسهل جسدها النحيل.

وفي المستشفى التخصصي في مدينتها نابلس، التي رأت نفسها ذات يوم: "حجارة حيطانها العتيقة"، قد تنسى فدوى طوقان، الراقدة على سرير الشفاء، وجه واسم صديق عادها قبل دقائق، لكنها تقص عليك التفاصيل الدقيقة لأحداث وذكريات عاشتها في رحلتها الطويلة "الرحلة الأصعب"، التي بدأت معها منذ رأت عيناها النور في بيت من بيوت مدينتها العتيقة المسورة بالياسمين في السنة السابعة عشرة من القرن الماضي.

تصحو فدوى بين غفوة وأخرى، وتتمنى، راضية، أن تنتهي رحلة العمر بسلام: "حتى لا أكون عبئاً على أحد"... "خلص، لقد ضعفت صحتي ،واعتل جسدي،وفقدت زهرة الحياة".

لكن الحياة التي ترى ذاتها الجميلة في وجه وقلب شاعرتنا، تتشبث بفدوى، تحاول حمايتها، وصد المرض والكبر والموت عنها ما استطاعت إلى ذلك سبيلا..

وربما كانت النهاية التي تتمناها فدوى عائدة إلى ما انقطع بينها وبين رفيقها الوحيد في رحلة العمر، أي الشعر، فقد أصيبت شاعرتنا منذ أربع سنوات بجلطة دماغية، تركت أثراً بالغاً على بصرها، ما حال بينها وبين القلم والكتاب.. وقبل شهرين أصيبت بكسر في عظمة مفصل الكاحل، ما أقعدها في السرير.

لكن شاعرة ذات إرادة وروح استثنائية من طراز فدوى "عين المرآة، الشاهد، بؤرة العدسة، صياح الديك عند الفجر"، لا تعدم وسيلة للاتصال والتواصل مع الحياة والاحتفاء بها،وهي في ذلك لا تستسلم لقدر أبداً.

ففدوى التي جاءها صوت شقيقها يوسف مجلجلاً ذات يوم مقسماً: "أن لا تخرج من البيت إلا إلى القبر"، بعد أن بلغته حكاية ذلك الصبي الذي لحق بشقيقته في طريق عودتها من المدرسة، ورمى لها وردة بيضاء على سور البيت، اخترقت، بإرادتها وسمو روحها، أسوار ذلك البيت الذي بدا مثل حصن في قلب نابلس القديمة، منطلقة إلى فضاءات الحياة الثقافية العربية والعالمية.

"جاءني أخي إبراهيم (الشاعر إبراهيم طوقان)، يملأه الفرح لأن ثلاثة من تلاميذه كتبوا قصائد صحيحة، فقلت له بحسرة وألم من حرم من ذات الفرصة: يا بختهم".

يقرأ إبراهيم محاولات شعرية لفدوى كما يقرأ لتلاميذه في المدرسة، ويبلغها القرار المصيري: "أنت لديك ميل للشعر، وسأعلمك كتابته".

يحضر الشاعر الكبير الحنون، الأقرب على شقيقته المحبوسة بقيود العادات والتقاليد الاجتماعية لذلك الزمن، ما يؤسس لموهبتها، ويحيل سجنها مدرسة: كتب النحو الواضح (ستة أجزاء)، وكتب البلاغة الواضحة، وكتب ودواوين شعر أخرى، فتحملها بكل فرح وسعادة إلى غرفتها، وتحبس نفسها إلى جانبها.. تقرأ فدوى بنهم، وتكتب بتأني... "كانت أولى قصائدها إلى والدها المعتقل في سجون الإنجليز.. ومن هناك انطلقت فدوى في فضاء الشعر والأدب، فكتبت من الشعر في دواوين: وحدي مع الأيام، وجدتها، اعطنا حباً، أمام الباب المغلق، الليل والفرسان، وعلى قمة الدنيا وحيداً، وتموز والوجه الآخر.

وفي النثر كتبت: رحلة جبلية رحلة صعبة، والرحلة والأصعب، وأخي إبراهيم.

تطوف فدى العالم مشاركة في مؤتمرات ولقاءات أدبية، تلتقي مع خبرات وقامات أدبية عديدة.

وتحظى شاعرة فلسطين بالتقدير العالي في مختلف المحافل الثقافية والأدبية، وتمنح بجوائز أدبية رفيعة: جائزة الزيتونة الفضية الثقافية، جائزة عرار، وجائزة سلطان العويس، وسام القدس، جائزة المهرجان العالمي للكتابات المعاصرة، جائزة بابطين للإبداع الشعري، شهادة الاستحقاق الثقافي، وجائزة كفافيس اليونانية وغيرها.. وكل هذه الثروة من التجارب والذكريات الجميلة تشكل اليوم زاد فدوى في وحدتها المتجددة، بعد أن فارقت القلم وفارقها الكتاب.

وبروحها المتمردة، الهائمة بحثاً عن كل ما هو جميل وأصيل في الحياة، روحها التي لا تستسلم لقيد من مرض أو من زمن، كما لم تستلم من قبل لقيد من بشر، فإن شاعرتنا تستعيض في مرضها بما تلتقطه الأذن عن ما عجزت عنه العين.. فها هي تستمع إلى رواية الحياة عبر المذياع والتلفاز، فتظل ملتصقة بإحداهما ساعات طويلة من النهار: "وغالباً ما أترك المذياع يروي لي عن أحوال العالم طوال الوقت، فأغفوا على صوته وأصحو عليه".

لكن ما تسمعه فدوى ينغص عليها غالباً، لولا ما يحمله لها أحياناً من صوت فيروز محتفياً بالحياة.

"إلى متى يا رب سنظل نفقد أعزاءنا، وهم كذلك يفقدون، إلى متى"، تحترق الشاعرة في نار السؤال؟؟. والأقسى على قلب فدوى النحيل هو أن: "لا أمل".

"أنا متشائمة، فهم –أي الإسرائيليين- قساة وصعبين، ونحن العرب لا نتعلم من أخطائنا أبداً".

تغسل شاعرتنا أحزانها بالموسيقى والغناء، فهي التي أجادت ذات يوم العزف على العود، ودأبت على عزف أصعب المقطوعات، ترى في الموسيقى: "زاد يومي لا غنى عنه للأرواح".

وهي تحب الغناء الجميل ولا تتقبل غناء الدموع واللوعة والفراق.

ورغم مشاعر التشاؤم التي تسيطر عليها حيال الصراع بين الفلسطينيين ودولة الاحتلال: "الصراع الذي لا يرتوي من الدماء" إلا أن شاعرتنا الكبيرة متفائلة بالمستقبل الثقافي لشعبنا.

"المستقبل الثقافي واعد في بلدنا، فشبابنا متاح لهم اليوم الكثير من وسائل المعرفة والاتصال والنشر التي لم تتح للأجيال السابقة، وأظن أن فرصهم في الإبداع أفضل من التي أتيحت لمن سبقوهم".

وأكثر ما يريح فدوى هو شعورها بأن رسالتها قد وصلت، وهو ما تراه في هذه الأعداد الكبيرة من الزوار الذين يطرقون باب جناحها في المستشفى للاطمئنان عليها.

وزوارها هؤلاء ليسوا من الوسط الثقافي فقط، بل من أوساط مختلفة.

وكثيراً ما يكون زوارها من الأجيال الشابة التي نشأت على شعر فدوى الذي باتت تتلقاه اليوم على مقاعد الدرس، بعد أن اصبح المنهاج فلسطينياً.

http://www.miftah.org