القدس والأقصى يدفعان ثمن غزة؟!
الموقع الأصلي:
هذا هو التقويم العام للوضع الراهن... ولكن الآتي أعظم والمخفي وحتى الظاهر، أشد ظلمة وسوءاً. فهو تقويم سوداوي متشائم لكنه بديهي ولا يختلف عن أي تقويم سابق خلال الخمسين سنة الماضية مع تزايد الهجمة الصهيونية وتكريس الاحتلال الاسرائيلي لفلسطين والأراضي العربية الاخرى في الجولان وغيرها. فالأخطار ماثلة باستمرار والايام حبلى بالأحداث والحروب وكلما بكينا من يوم أو حدث بكينا عليه بعد رحيله. الجديد في الموضوع اذن أخطر وأدهى ولا يمكن تصور ردود الفعل المترتبة عليه والنتائج الوخيمة المرتقبة في حال وقوع الزلزال الكبير الذي أضع يدي على قلبي وأنا أراه قريباً وعلى بعد خطوات منا! انه خطر إقدام المتطرفين الصهاينة على اقتحام المسجد الأقصى المبارك وتفجيره لتنفيذ الخطة الجهنمية القديمة المتجددة الرامية لبناء الهيكل المزعوم وهو ما يجري التمهيد له عبر تحركات المنظمات الصهيونية المتطرفة، تحت بصر وسمع وحماية سلطات الاحتلال، تارة بزعم المطالبة بالصلاة في الحرم وتارة اخرى بالدعوة للاحتفال بذكرى احتلال القدس الشريف وضمها للكيان الصهيوني. ولهذا لا بد من تحذير العرب والمسلمين من هذا الخطر الداهم ودعوتهم للتصدي له منذ هذه اللحظة وقبل فوات الأوان حتى لا نعض أصابعنا ندماً بعد وقوع النكبة الجديدة وانطلاق حمم البركان الثائر. نعم الخطر جدي، وما كان يدبر في السر صار يحكى عنه في العلن ويتمثل في التظاهرات والحشود حول المسجد الاقصى ومحاولات اقتحامه وادخال الصهاينة، تحت ستار السياحة الى الحرم الشريف لتدنيسه بحماية السلطات الصهيونية والبيانات والمقالات والتحليلات المنشورة في الصحف الاسرائيلية والتي تجمع على توقع قرب تنفيذ الخطوات العملية للخطة الجهنمية ضد المسجد الاقصى المبارك والتي دأبنا على التحذير من أخطارها منذ احتلال القدس في التاسع من حزيران (يونيو) 1967. وأخشى ما أخشاه ان تدفع القدس ومعها المسجد الاقصى المبارك الثمن الكبير لخطة الانسحاب الاسرائيلي من غزة كجزء من صفقة مقايضة بين ارييل شارون وحكومته الليكودية المتطرفة وغلاة المستوطنين الصهاينة الذين ينتظرون الفرصة السانحة للانقضاض على المسجد الأقصى وتنفيذ أغراضهم الخبيثة. فبعد أسابيع قليلة يفترض أن يبدأ تنفيذ خطوات الانسحاب من غزة وإخلاء المستوطنات القليلة المحيطة بالقطاع المحتل وسط ضجة اعلامية صهيونية ودولية تظهر الأمر وكأنه انجاز سلمي كبير يفترض ان ينال التقدير والترحيب والاشادة بزعم أن اسرائيل قدمت تضحيات «مؤلمة» (حسب المصطلحات الشارونية) من أجل السلام وقامت بمبادرة حسن نية تجاه الفلسطينيين مطلوب مقابلتها بتنازلات فلسطينية وعربية وهرولة نحو التطبيع والمصافحات والصفقات. وحسب المعطيات المتوافرة والتوقعات الواقعية فإن المطلوب من العرب والمسلمين في العالم توخي جانب الحذر والحيطة والاستعداد لمواجهة مفاعيل زلزال لا بد أن يتزامن وقوعه مع هذا الحدث، أي الانسحاب من غزة، حتى لا يدعي أحد منا بعده انه قد فوجئ بالأصداء وردود الفعل أو أنه أخذ على حين غرة. وأغلب الظن ان الصهاينة سيعملون على قبض ثمن متعدد الجوانب والقيم لهذا الانسحاب يمكن أن تكون مرتكزاته في القدس الشريف بعدما تزايدت في الآونة الأخيرة الهجمات على المسجد الاقصى المبارك لتبرير اقتحامه ومن ثم افتعال أحداث لتدميره والشروع ببناء الهيكل المزعوم. ففي أوائل الشهر المقبل يفترض ان يبدأ التنفيذ، اذا لم يطرأ حدث يؤجله أو ينسفه، والتوقعات في هذا المجال ترتكز على محورين أولهما يتحدث عن احتمال حدوث اضطرابات داخل اسرائيل وسقوط حكومة شارون، أو حتى اغتياله على يد المتطرفين، ويتكهن الثاني بوجود صفقة مقايضة تهدئ الغضب المفتعل للمتطرفين الصهاينة تنص على اطلاق أيديهم الملوثة بدماء الابرياء وغض الطرف عن اقتحامهم للمسجد الأقصى المبارك. وتحركات سلطات الاحتلال لوقف هذه المؤامرة ما هي الا ذر للرماد في العيون ومحاولة لكسب الوقت وانتظار الضوء الأخضر من الحاخامات الذين ما زالوا يحظرون الاقتحام في الوقت الراهن عبر فتوى دينية يهودية تقول: «ان الصلاة الآن في المكان الذي يزعم أن الهيكل فيه ممنوعة لأن ذلك يحمل مخاطر تدنيس المكان الذي كانت توجد فيه الخزنة التي تحتوي على الوصايا العشر». كما أن القاصي والداني يعلم جيداً ان اسرائيل لا تريد الاحتفاظ بقطاع غزة وتعتبره خزان هموم ومتاعب. بل إن اسحق رابين ذهب ابعد من ذلك عندما قال انه يحلم كل ليلة بأنه استيقظ من النوم ليجد غزة وقد غرقت في البحر، تعبيراً عن كره اسرائيل لهذه المدينة الباسلة وأهلها الشجعان وتاريخها العريق وعراقتها التي عرفت بها كغزة هاشم جد الرسول الأكرم صلى الله عليه وسلم. ولم يغب عن بالنا بعد أن اسرائيل كانت وراء تقديم الاغراءات الملغومة قبل اتفاقيات أوسلو وبعدها في اطار خطة «غزة وأريحا اولا» والتي علقنا عليها حينها بالقول «أولاً وأخيراً» بمعنى أن مسيرة السلام ستتوقف عند هذا الحد، لتدفع الضفة الغربية وتاجها القدس الشريف الثمن بتكريس احتلالها وتهويدها وتدمير المسجد الأقصى المبارك. ولهذا حرصت اسرائيل في كل مراحل المفاوضات مع الفلسطينيين على المطالبة بتأجيل بحث وضع القدس الى مفاوضات الحل النهائي من دون تحديد أي جدول زمني لها. ففي المادة 4 من اتفاقية اوسلو جاء النص واضحاً على الشكل الآتي: «نطاق سلطة المجلس ستغطي الضفة الaغربية وقطاع غزة باستثناء القضايا التي سيتم التفاوض عليها في مفاوضات الوضع النهائي: القدس ـ اللاجئين ـ المستوطنات ـ مواقع الجيش والاسرائيليين». ولم يتم احترام المهلة التي حددتها الاتفاقية وهي 5 سنوات للمرحلة الانتقالية بعد الانسحاب من قطاع غزة وأريحا حيث كان من المفترض ان تبدأ مفاوضات الحل النهائي حول القدس وغيرها بما لا يتجاوز بداية السنة الثالثة. أما بالنسبة الى خريطة الطريق التي وضعتها اللجنة الرباعية الدولية (الولايات المتحدة ـ أوروبا ـ روسيا ـ الأمم المتحدة) والتي جمدت بسبب التعنت الاسرائيلي والانحياز الاميركي فقد كان مقرراً ان يتم تنفيذ بنودها هذا العام وتتوج بقيام دولة فلسطينية مستقلة. وهناك أحاديث خجولة هذه الايام عن اعادة بعثها من جديد بعد تنفيذ خطة شارون للانسحاب من غزة، إلا أنها لا تتضمن بنداً حاسماً في شأن القدس، بل تتحدث عن «توصل الأطراف الى اتفاق نهائي وشامل في سنة 2005 من خلال تسوية متفق عليها عبر التفاوض بين الأطراف قائمة على اساس قرارات مجلس الأمن 242 و338 و1397 التي تنهي الاحتلال الذي بدأ عام 1967 وتشمل حلاً واقعياً وعادلاً ومتفقاً عليه لموضوع اللاجئين وحلاً متفاوضاً (؟!) عليه لوضع القدس يأخذ في الاعتبار اهتمامات كلا الطرفين السياسية والدينية ويحمي المصالح الدينية لليهود والمسيحيين والمسلمين في العالم...». هذا النص الغامض لا يمكن تفسيره إلا بأنه تعجيزي يميل لمصلحة المفهوم الاسرائيلي القائم على التعنت ورفض التنازل عن القدس والحرم الشريف بشكل خاص. ونتأكد من ذلك في الوثيقة التي تم التوصل اليها في طابا عام 2002 بشأن قبول الطرفين مبدأ اقتراح الرئيس الاميركي السابق بيل كلينتون بصدد السيادة الفلسطينية على «أحياء عربية» والسيادة الاسرائيلية على أحياء يهودية واصرار اسرائيل على السيادة الكاملة على الحرم وما يسمى بحائط المبكى وهو في الواقع حائط البراق ويعتبر جزءاً لا يتجزأ من المسجد الأقصى المبارك والحرم الشريف (الجدار الغربي) ويدعى البراق النبوي الشريف حيث ترجل الرسول صلى الله عليه وسلم من على ظهر البراق حين وصوله الى بيت المقدس ليلة الاسراء والمعراج وفيه موضع الحلقة التي ربط بها البراق. وتدحض الوثائق التاريخية والجغرافية مزاعم الصهاينة حول القدس والمسجد الأقصى المبارك وتؤكد ان القدس عربية منذ أكثر من 5 آلاف سنة. وتسجل ان الكنعانيين، وهم قبائل عربية نزحت من شبه الجزيرة العربية قد استوطنوا في فلسطين حوالى عام 3 آلاف قبل الميلاد ومنهم اليبوسيون الذين استوطنوا المنطقة المحيطة بالقدس. كما تؤكد هذه الوثائق والوقائع ان الحرم الشريف بكامله، ومن ضمنه المسجد الأقصى (مسجد عمر) ومسجد قبة الصخرة المشرفة عربي اسلامي النشأة والبناء، وحاول الصهاينة ايجاد أي اثبات أو دليل على وجود أي أثر يهودي في القدس أو تحت المسجد الاقصى من خلال الانفاق والحفريات التي بدأت، إلا أنهم فشلوا واعترف بعض علماء الآثار الأجانب والصهاينة بهذا الفشل. ورغم كل هذه الدلائل فإن الصهاينة يصرون على المضي في تنفيذ خطتهم الجهنمية هذه والتي يتحدث بعضهم عن دنو ساعتها، مما يدفعنا للتحذير من مخاطر أي انتهاك أو مساس بالمسجد الأقصى المبارك والمقدسات الاسلامية الأخرى. فالأصداء ستكون مدمرة، قد تصل الى اشاعة الفوضى والعنف وربما تشعل نار حرب مدمرة. والعرب ومعهم كل المسلمين في العالم لا يمكن ان يسكتوا على هذه الجريمة النكراء وسينتفضوا دفاعاً عن مقدساتهم مهما غلت التضحيات، وويل للجميع إذا انطلق المارد من قمقمه رغم كل ما نعاني به الأن من لا مبالاة وهوات وغيبوبة. وإذا كان من واجب الدول العربية والاسلامية التحرك الفوري لتطويق هذا المخطط ومنع وقوعه بكل الوسائل المتاحة ومن بينها تحذير الولايات المتحدة من مغبة قيام الاسرائيليين بهذا العمل الأخرق فإن من الواجب ايضاً افهام اسرائيل بأن القدس والمسجد الأقصى خط أحمر ستدفع ثمناً باهظاً ومؤلماً اذا تجاوزته، وانها ستفتح على نفسها باب جهنم إذا وقع أي مكروه للمسجد الاقصى أولى القبلتين وثالث الحرمين الشريفين بالنسبة لمئات الملايين من المسلمين. ومن يزرع الريح لن يحصد إلا العاصفة ومن يزرع الكراهية لن يحصد سوى الحقد والقتل والعنف والدمار ويدفن آمال السلام الى الأبد. كاتب وصحافي عربي - (الحياة اللندنية 13 حزيران 2005) - http://www.miftah.org |