أنابوليس: الصالح والطالح والقبيح
بقلم: هنري سيغمان*
2007/12/13

الموقع الأصلي:
http://www.miftah.org/display.cfm?DocId=8367


كسرت أنابوليس جليد عملية السلام في الشرق الأوسط على ثلاثة أصعدة. فقد أطلقت تفاهمات أنابوليس المفاوضات حول «كل القضايا الجوهرية بلا استثناء» كما صرحت وزيرة الخارجية الأميركية كوندوليزا رايس والرئيس جورج بوش الابن. وقد رفضت إسرائيل قبيل أنابوليس البدء بالتفاوض حول اتفاق نهائي قبل أن يطبق الفلسطينيون واجبهم بموجب خريطة الطريق لتفكيك «البنية التحتية للإرهاب» ونزع سلاح المقاتلين الفلسطينيين. وقد شكل هذا الطلب قمة التناقض بما أنه لا يوجد قائد فلسطيني بوسعه إنهاء المقاومة العنيفة للاحتلال مع رفض إسرائيل الكشف عن حجم الأراضي الفلسطينية التي تنوي الاحتفاظ بها عقب بدء المفاوضات. فبعد أن خسر الفلسطينيون نصف الأراضي التي اعترفت بها الأمم المتحدة في قرار التقسيم في العام 1947 كالإرث المشروع للمقيمين العرب في فلسطين، ليسوا على استعداد للتخلي عن حقهم في القتال إذا ما اقتضى الأمر للحفاظ على ما تبقى لهم من أراضٍ لا تتعدى نسبتها 22 في المائة.

وعبر رفض الطلب الإسرائيلي بتطبيق الفلسطينيين لواجباتهم بموجب خريطة الطريق قبل البدء بالتفاوض، كسب رئيس الوزراء إيهود أولمرت الحق في الطلب أن لا يدخل أي اتفاق حيز التنفيذ الفعلي إلا بعد أن يستوفي الفلسطينيون شروط خريطة الطريق، وهو طلب قبل به الرئيس محمود عباس. وقد شكل هذا الأمر أيضاً تقدماً في غاية الأهمية، لكن لا بد من وجود طرف ثالث حيادي لمراقبة التزام كلا الطرفين ولتقييمه.

وقد قبل الطرفان بقرار الولايات المتحدة أن تكون «المراقب والحكم على تطبيق الطرفين لالتزاماتهما» بعد أن كانت الحكومة الإسرائيلية حتى الآن تنسب هذا الدور لنفسها. ولعل أبرز العوائق التي تعيق تطبيق الاتفاقات السابقة كافة كمن في غياب طرف ثالث مراقب. ولا تزال قدرة الولايات المتحدة على أن تكون حكماً حيادياً فعلياً بحاجة للإثبات. وكما ستجري الإشارة أدناه فإن البداية غير واعدة.

تشكل هذه الانجازات بمجملها انفراجاً محتملاً ذا أهمية وإن كانت تبقى محل إشكال شديد لأسباب سأعود إليها لاحقاً. لكن اذا أخذت كل منها على حدة، لا تستطيع هذه الانجازات تخطي فشل أنابوليس في التعامل مع عدد من العوائق الكبرى المتبقية أمام اتفاق سلام نهائي.

1- أعلن الرئيس بوش ووزيرة الخارجية رايس ورئيس مجلس الأمن القومي ستيفن هادلي في مساعيهم لطمأنة الإسرائيليين مراراً وتكراراً أن الدور الأميركي القادم لن يتخطى «التسهيل». ونظراً للتفاوت في السلطة والثروة والنفوذ الذي تتسم به العلاقة الفلسطينية الإسرائيلية لا يعقل التوصل إلى اتفاق وضع نهائي إذا رفضت الولايات المتحدة تصحيح الخلل القائم بين الطرفين عبر التدخل الإيجابي. ولا ريب في أن المفهوم القائل إن «التسهيل» الأميركي وحده من شأنه تمكين الطرفين من ردم الهوة السحيقة بينهما، هو مفهوم عبثي.

2- تركيز بوش وإصراره - انطلاقاً من إصرار أولمرت - على عدم إمكانية التوصل إلى اتفاق بين خصمين غير متساويين على الإطلاق وعلى اعتماد نجاح عملية السلام التي أطلقت في أنابوليس على الإرادة الفلسطينية للانسجام مع «التنازلات» الإسرائيلية. وهذا طلب غير معقول مطلقاً نظراً إلى أن إسرائيل تحتل الأراضي الفلسطينية وأن الفلسطينيين شعب تحت الاحتلال. وهكذا، لا يملك الفلسطينيون الكثير لتقديمه لإسرائيل عن طريق «التنازلات» غير الخضوع المستمر وسلبهم أملاكهم.

طبعاً، الفلسطينيون مرغمون على القيام بكل ما في وسعهم للسيطرة على العنف. أما بالنسبة إلى إسرائيل، فالمتوقع منها ليس «تنازلات» بل تطبيق الحكومة للواجبات القديمة العهد المفروضة بموجب قرارات الأمم المتحدة والقانون الدولي والاتفاقات مع الفلسطينيين. وعندما تتم تسمية هذه الواجبات الإسرائيلية بالتنازلات فان ذلك يهدف الى تقويض المفاوضات قبل بدئها لأنها تشير ضمناً إلى أن بإمكان الولايات المتحدة وإسرائيل الطلب إلى الفلسطينيين التخلي عن حقوقهم بموجب الاتفاقات الراهنة والقانون الدولي إذا أرادوا استحقاق إنهاء الاحتلال الإسرائيلي.

ما انفك موقف حكومة أولمرت حتى بعد أنابوليس يقوم على أن إسرائيل لن تعود إلى حدود ما قبل 1967 وأن إسرائيل ستبقى لها اليد العليا والسيادة الوحيدة على القدس وأنه لن يسمح للاجئين بالعودة إلى إسرائيل. وللسماح بذلك سيضطر الفلسطينيون لإظهار مرونة في المطالبة بحقوقهم لا سيما في ما يتعلق بطلب عودة ملحوظة للاجئين إلى إسرائيل مع العلم بأن هذه الحقوق هي حقاً حقوق فلسطينية حددتها قرارات الأمم المتحدة وخريطة الطريق والقانون الدولي. والمطلوب من إسرائيل وقف انتهاك هذه الحقوق لا القيام بتنازلات. وإذا ما قامت الولايات المتحدة باعتبار طلبات اسرائيل تنازلات فلسطينية مقابل التنازلات الإسرائيلية فإنها بذلك تزيد الطين بلة لأن تدخلها سيكون لصالح الطرف الخاطئ.

3- بغض النظر عن هذه العوائق، على الولايات المتحدة التخلي عن الوهم القائل بإمكانية التوصل إلى اتفاق إسرائيلي فلسطيني ومن ثم تطبيقه مع وجود الانقسامات الداخلية العميقة بين حركتي «فتح» و «حماس» التي مزقت أوصال الوحدة الفلسطينية والتي عززتها عمداً إسرائيل والولايات المتحدة. ومن المتوقع أن يكون القبول الفلسطيني بـ «التنازلات المؤلمة» ناهيك عن تطبيقها غاية في الصعوبة في أفضل الأحوال وسيكون مستحيلاً من دون الوحدة الفلسطينية.

ولم تكتف إسرائيل والولايات المتحدة بمعاملة «حماس» وسورية كقضيتين خاسرتين فحسب بل على انهما جزء من «محور شر» بقيادة إيران لا يمكن إصلاحه. والمثير للسخرية أن أنابوليس فضحت سطحية ذلك التفكير. فسورية تحدت إيران وحضرت أنابوليس على رغم معارضة إيران الشديدة، و «حماس» رفضت حضور مؤتمر إيراني في طهران يرمي إلى مواجهة ونزع صدقية أنابوليس مرغمة بذلك إيران على إلغائه. وليس من مصلحة سورية ولا «حماس» تشجيع أجندة إيران الشيعية أو الهيمنة الإيرانية. ويمكن فك ارتباط المصالح مع إيران بسهولة إذا أخذت الولايات المتحدة والديبلوماسية الغربية جدياً بعين الاعتبار المصالح المشروعة لكل منهما (مقابل نزعاتهما التدميرية). لكن بدلاً من السعي إلى رأب الصدع الفلسطيني سعت الولايات المتحدة ناهيك عن إسرائيل إلى تعميقه عبر توقعها غير الواقعي أن إغراق عباس في الضفة الغربية بـ «الهدايا» الاقتصادية وغيرها بالتزامن مع تضييق الخناق على غزة سيؤدي إلى إلحاق الهزيمة بـ «حماس».

بداية، قطعت وعود مراراً وتكراراً في السابق لتمكين عباس عبر إزالة الحواجز والعوائق التي قطعت أوصال الحياة الفلسطينية، لكن مؤسسات إسرائيل الأمنية والعسكرية ما فتئت تضربها بعرض الحائط. ولم يبقِ إيهود باراك وزير الدفاع في حكومة أولمرت مجالاً للشك في أن هذا الوضع لن يتغير. ولم يعد أي من الفلسطينيين أو الإسرائيليين يأخذ هذه الوعود على محمل الجد وإذا ما كان بوش يصدقها فهو حتماً الوحيد.

علاوة على ذلك، لن يؤدي تضييق الخناق المستمر على غزة مع الوعد بتحقيق ازدهار الضفة الغربية إلا إلى إضعاف عباس الذي سيتم تصويره كخائن فلسطيني، وإلى تعزيز العنف والإرهاب اللذين سيشكلان على الأرجح ذريعة لإسرائيل للتخلي عن المفاوضات التي أطلقت في أنابوليس.

على رغم هذه العوائق المعقدة يصر المتفائلون على أنه إذا ما بدأت المفاوضات بين إسرائيل والفلسطينيين بحسن نية، من الممكن أن يخيم جو إيجابي بين الطرفين من شأنه تمكينهما من التوصل إلى الأهداف المرجوة. لعل ذلك صحيح لكن المشكلة تكمن في أنه بدلاً من حسن النية ظهر سوء نية غير معقول حتى قبل أن يجف حبر البيان المشترك لأنابوليس. وقد وعد أولمرت وسلفه رئيس الوزراء ارييل شارون الولايات المتحدة والفلسطينيين والأسرة الدولية مراراً وتكراراً منذ العام 2003 بأنهما سيعمدان إلى تفكيك وإزالة كل «القواعد العسكرية غير القانونية» وتجميد التوسع الاستيطاني في الضفة الغربية. وهذا الواجب هو أول واجب من سلسلة واجبات متعددة فرضتها خريطة الطريق على إسرائيل. وحتى هذا اليوم، ما انفكت إسرائيل تحنث بهذه الوعود بشكل فاضح.

وعلى ما يبدو فإن اولمرت لا يذكر من خريطة الطريق، بالإضافة إلى ضرورة مكافحة الفلسطينيين للإرهاب، سوى رأي بوش بأن على إسرائيل أن تبقى قادرة على التمسك بمستوطناتها في الضفة الغربية، على رغم أحكام خريطة الطريق القائلة بعكس ذلك. ولا يتمتع بوش بسمعة أفضل لتغيير اتفاق دولي بشكل أحادي اكثر مما يتمتع به أولمرت أو عباس.

وفي هذا المجال، تعهد اولمرت في اجتماع أنابوليس بالعمل أخيراً على تجميد بناء المستوطنات وتفكيك القواعد العسكرية غير القانونية. وقد شكل هذا التعهد شرطاً لمشاركة الدول العربية في الاجتماع. لكن صحيفة «هآرتس» كشفت عقب يومين من رفع اجتماعات أنابوليس أن زملاء أولمرت من وزراء ونواب رئيس الوزراء غير مستعدين لإزالة القواعد العسكرية وتجميد المستوطنات، وأنهم يخططون بدلاً من ذلك «لقوننة» وضع القواعد غير القانونية وتوسيعها وتأمين دعم حكومي لتطويرها إلى مستوطنات دائمة. أما بالنسبة إلى تجميد المستوطنات، فقد وثقت منظمة «السلام الآن» ومجموعات حقوق الإنسان الإسرائيلية كيف يلتف اولمرت حول هذه العقبة عبر إلصاق أسماء مستوطنات قديمة على أخرى جديدة واعتبارها امتدادات لمستوطنات سابقة.

المدهش في هذه الخيبات ليس أنها فاضحة وتنم عن سوء نية فظيع فحسب، بل صمت بوش ورايس وهادلي حتى بعد إعلانهم أن الولايات المتحدة ستؤدي دور «المراقب والحكم» الذي سيسمي الأمور بأسمائها من غير خوف أو تفضيل. ومن هنا على عباس والقادة العرب الذين حضروا أنابوليس بعد إلحاح من بوش أن يفهموا من الصمت الأميركي كل ما يلزمهم معرفته حول ما يمكن توقعه من أميركا مع المضي قدماً بالمفاوضات. كما يكشف هذا الصمت غباء «الرباعية» وبراءة أولئك الذين يتفلسفون على الفلسطينيين حول ضرورة إيلائهم الأولوية لبناء المؤسسات. فنحن نعرف عن مصير انصاف المؤسسات التي بناها الفلسطينيون ولم يبق منها سوى الركام والتي يجب أن تذكرنا بعدم جدوى بذل مثل هذه الجهود مع غياب تفاهمات سياسية تظهر بعض الوعي إزاء الانتزاع المستمر لأملاك الفلسطينيين واحترام حقوقهم السياسية. * مدير مشروع «اميركا - الشرق الاوسط»، استاذ باحث في معهد الدراسات الشرقية والافريقية - جامعة لندن - الحياة 13/12/2007 -

http://www.miftah.org