إن الأمر الذي يثير الدهشة ويضاعف الحزن هو أن دماء الفلسطينيين المهدرة لم تعد تجلب للقضية دعماً سياسياً كنا نتوقعه رغم تعاطف الرأي العام ومسيرات الجماهير في قارات الدنيا الخمس تضامناً مع هذا الشعب المقهور وتعاطفاً مع ضحاياه. فلقد خرجت المظاهرات الضخمة والمسيرات الحاشدة تدين المجزرة التي ترتكبها الدولة العبرية في غزة وترفض انتهاكات إسرائيل ضد المدنيين في سابقةٍ جديدة تصل إلى حد ما نسميه «جرائم إبادة» وليس فقط مجرد «جرائم حربٍ» معروفة.
ولقد كشفت إسرائيل عن وجهها القبيح لتؤكد للجميع أنها دولة إرهابية تعتمد نظرية «إرهاب الدولة» بديلاً لبناء جسور الثقة والتطلع للعيش المشترك في المنطقة. لذلك فإن قراءتي لما جرى ويجري تتمثل في أن القيادة الإسرائيلية تتوهم إمكانية البقاء في ظل تخويف الجيران وترويع الفلسطينيين، وأنا شخصياً لا أعتبر ذلك ممكناً بأي حالٍ من الأحوال، فإسرائيل لن تعيش في المستقبل إلا بالقبول الطوعي لها وإقرارها بالحقوق لأصحابها وإعادة الأرض المحتلة لمن سلبتهم إياها، وبغير ذلك سيظل الصراع على ما هو عليه لعشرات السنين المقبلة، خصوصاً أن إسرائيل نجحت بامتياز في حقن الأجيال الفلسطينية الجديدة، بل العربية أيضاً، بمشاعر الكراهية والرفض نتيجة الجرائم الوحشية التي مارستها ضد الفلسطينيين. ويؤسفني مرة أخرى أن هناك من يرى في جرائم إسرائيل المروعة نوعاً من الدفاع عن النفس أمام صواريخ المقاومة التي يرتبط نشاطها النضالي باستمرار الاحتلال ومواصلة السياسة العنصرية للحكومة الإسرائيلية التي تنتهج سياسة العزل والتطويق والحصار من دون مراعاةٍ لأبسط قواعد حقوق الإنسان. ولكن في غمرة هذه العواطف الجياشة وفي هذه الأوقات الصعبة لا بد من تحويل طاقة الغضب إلى نوعٍ من المقاومة السياسية التي تستعيد بها قضيتنا العادلة أرضيتها التي فقدتها في العقدين الأخيرين من دون الاكتفاء بدموع الجماهير وصراخ التظاهرات وهتافات من يدركون حجم جرائم إسرائيل وممارساتها العدوانية. لذلك فإنني أضع أمام القارئ بعض الملاحظات التي تدور حول أسباب تقزيم القضية العربية الكبرى واختزالها في معبرٍ أو بضعة أنفاق، بينما هي أكبر وأسمى من ذلك بكثير، فإسرائيل بارعة في إغراقنا في التفاصيل للهروب من الحل الشامل والانسحاب الكامل، والآن دعونا نتأمل ذلك من خلال المحاور الآتية: 1- إنني أظن - وليس كل الظن إثم - أنه على رغم الدماء والأشلاء فإن حجم التأييد السياسي للقضية الفلسطينية تراجع على رغم أن حجم التعاطف الإنساني يتزايد! ولقد علّمتنا دروس التاريخ أن العبرة تكون دائماً بمدى التأثير السياسي على صانعي القرار وليست فقط بالتأثير العاطفي على رجل الشارع. وقد يقول البعض إن الرأي العام في النهاية هو قوة ضاغطة من أجل اتخاذ القرار السياسي الأفضل، ولكن الأمر يختلف في عصرنا، فالشعوب في واد والحكام في واد آخر حتى مع تسليمنا بنضوج الديموقراطيات وازدهار الحريات. 2- إننا نعتقد أن الوطن العربي يمر حالياً بمرحلة تحوّل يقول البعض إنها تنقل مراكز الثقل من القلب إلى الأطراف، ويقول البعض الآخر إن هناك ما يمكن تسميته بـ «الصهيونية العربية»، بينما يرى فريق ثالث أن العرب لا يجيدون تقديم أنفسهم بالصورة اللائقة لعالم اليوم حتى استهان بهم البعض وانصرف عنهم البعض الآخر، وليس ذلك حديثاً نظرياً بقدر ما هو تحليل واقعي لما يدور حولنا. فقبل عشرين عاماً كانت هناك قوتان آسيويتان كبيرتان تدعمان القضية الفلسطينية بصورة تلقائية وأعني بهما الصين والهند، ونحن نتساءل أين هما الآن؟ وليس الأمر كذلك فحسب، إذ أن قوى دولية كثيرة نظرت إلى العدوان الإسرائيلي الأخير باعتباره نوعاً من الدفاع عن النفس! وهكذا اختلطت المعايير وضاعت المؤشرات وأصبحنا أمام تراجع واضح في مكانة القضية العربية الأولى. 3- ليس المهم أبداً في العلاقات الدولية أن يحبّك الكثيرون وأن تتعاطف معك الأغلبية، ولكن المهم في الدرجة الأولى هو احترامهم لك وفهمهم لدورك خصوصاً أن الكفاح من أجل الخلاص من الاحتلال ليس دائماً كفاحاً مسلحاً، لذلك فإنني أظن أنه كانت هناك خيارات متعددة أمام من يقودون المقاومة، بعضها سياسي وبعضها تنظيمي وبعضها إعلامي، بل ان هناك مقاومة حررت دولة كبرى بالكامل وهي الهند باتباع أساليب سلمية بعيدة عن العنف تقوم على «العصيان المدني» أحياناً والمقاومة السلبية أحياناً أخرى. 4- إن المقاومة في حركات التحرير المختلفة عبر التاريخ عرفت كيف تختار طريقها الصحيح وفقاً لحسابات معروفة، فلم تكن عملية الانتحار الجماعية أو النهج النضالي المغمض العينين، ولكنها أدركت بحسّها الثوري أن هناك توازنات لا بد من وضعها في الاعتبار، حتى أن بعض حركات المقاومة الكبرى ضد النازيين أثناء الحرب العالمية الثانية وازنت بين مقتضيات النضال وبين ضرورة الحفاظ على إمكاناتها وقدراتها وممتلكاتها بدلاً من التدمير الشامل والتخبّط الأعمى. ويهمني هنا أن أسجل أنني لست ضد المقاومة في وجه الاحتلال والعدوان، فذلك حق كفلته الديانات والأعراف والقوانين الطبيعية والوضعية، ولكن الذي يهمني بالدرجة الأولى هو مناقشة كيف تحافظ قوى النضال الوطني على رصيدها وفي الوقت نفسه تتمكن من تقديم قضيتها إلى العالم المعاصر بشكل مقبول ومعقول. 5- إن القضية الفلسطينية جرى اختزالها الآن في معبر رفح أو مجموعة أنفاق، بينما تسعى إسرائيل إلى تصدير مشكلة غزة بالكامل إلى مصر مع أطماع في أجزاء حدودية من صحراء سيناء، وهو مخطط قديم ومعروف وحان الوقت كي يكتشف الجميع ويدرك أن حل القضية الفلسطينية يكون باسترداد الأرض المحتلة وليس باللجوء إلى أرض عربية أخرى فتعود القضية من قضية وطن ودولة إلى قضية لاجئين ونازحين، وعلى الأشقاء أن يدركوا المخطط بوضوح، فنحن جميعاً لا ننام تقريباً بسبب مأساة أشقائنا في غزة، ولكن المخرج من هذا المأزق والخروج من النفق المظلم يكون بفرض السلام الشامل والعادل على الدولة اليهودية التي تمارس أبشع أنواع القمع والقهر والعقاب الجماعي وإبادة الجنس البشري وترتكب أسوأ جرائم الحرب في التاريخ المعاصر. 6- إن القضية أصبحت الآن بحق أمام مفترق طرق، فهي تتعرض لمؤامرة مفضوحة للتفكيك والتصفية ويساعد على ذلك بشكل واضح الانقسام الفلسطيني الذي تأكد مع منتصف يونيو (حزيران) 2007 فنجمت عنه مشكلة معبر رفح التي تناسى فيها الأشقاء الفلسطينيون دواعي الأمن القومي المصري ومشكلاته الداخلية بعد أن انسحبت من الجانب الفلسطيني من المعبر السلطة الشرعية المسؤولة عن إدارته وفقاً لاتفاق 2005، وهو ما أدى في النهاية إلى حملة عربية وإسلامية ضد مصر بلد التضحيات الكبرى والحروب الدامية من أجل التحرير وإزالة العدوان ومواجهة المخططات الصهيونية. 7- إن تديين الصراعات الإقليمية وإلباس قضايا التحرر الوطني رداءً دينياً هو خطر حقيقي على أجندة التحرر وسلامة الوطن، فأنا أرحب بكل اختلاف في الرأي ما دمنا نقف على أرض وطنية مشتركة، أما تجاهل مفهوم الوطنية والانجذاب إلى شعارات أخرى دينية أو عقائدية فهي جناية حقيقية على النضال الوطني ومشروعيته وإجهاض لغاياته وأهدافه. إنني أريد أن أقول صراحة إن القضية الفلسطينية تمرّ حالياً بأصعب مراحل وجودها لأن الاستقطاب الإقليمي انعكس على الخلاف الفلسطيني - الفلسطيني بحيث اتسعت الهوة وأصبحنا أمام موقف شديد الصعوبة بالغ التعقيد، وذلك يقتضي منا - نحن العرب - أن نضع قضيتنا المركزية في مكانها اللائق وأن نخرج بها من إطار التشرذم والانقسام إلى دائرة الضوء الصحيح حتى تعود كما كانت قضية شعب يناضل بكامله من أجل التحرر الوطني ولا يتلقى توجيهات أو توصيات من قوى أخرى، على اعتبار أن الوطن في النهاية ملك لأبنائه، كما أنه تعبير عن الهوية التي ينضوي تحتها كل من ينتمون إليه بغض النظر عن توجهاتهم الفكرية أو انتماءاتهم السياسية، لأن الوطن في النهاية فوق الجميع من دون استثناء. عن صحيفة الحياة اللندنية اقرأ المزيد...
بقلم: ريما كتانة نزال
تاريخ النشر: 2018/7/23
بقلم: جهاد حرب
تاريخ النشر: 2018/5/12
بقلم: وكالة معا الاخبارية
تاريخ النشر: 2018/5/2
لنفس الكاتب
تاريخ النشر: 2009/1/20
تاريخ النشر: 2008/12/16
تاريخ النشر: 2007/12/4
تاريخ النشر: 2005/5/17
|