تكثفت المساعي السياسية والديبلوماسية خلال العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة لايجاد المقاربات الضرورية لتطبيق قرار مجلس الأمن رقم 1860، وتهيئة مستلزمات تحقيق وقف إطلاق النار. وبالتالي تركزت الجهود على تحديد الخطوات العملية لإخراج هذا القرار الدولي إلى حيّز التنفيذ.
وبالطبع يوجد تناقض كامل بين موقف كل من إسرائيل وحركة «حماس» حول هذه الإجراءات وجدولة التنفيذ، فقد حاولت اسرائيل عن طريق القوة المفرطة التي طالت المدنيين بخسائر مرتفعة أن تغير الوضع الذي كان قائما في قطاع غزة قبل بدء عدوانها عليه. وتلخصت أهدافها باستنزاف وإضعاف القدرة المسلحة لحركة «حماس» والفصائل الأخرى الى درجة لا تُمكّنها من استمرار المقاومة المسلحة وإطلاق الصواريخ، وإيجاد سيطرة فعّالة على حدود القطاع مع مصر تضمن منع إدخال السلاح إلى غزة. وستكون إسرائيل سعيدة للغاية إذا استطاعت أن تحقق فوق ذلك هدفها الاستراتيجي المتمثل بتجزئة القضية الوطنية الفلسطينية بتحويل المسؤولية عن القطاع إلى مصر. بالمقابل، ومن خلال مقاومة فعّالة، ومن خلال توظيف تخوّف إسرائيل من اقتحام المناطق الكثيفة السكان في القطاع من ناحية، والاعتماد على حملة تتسع عالميا للمؤازرة والمساندة من ناحية أخرى، أصّرت حركة «حماس» على عدم البحث في أي إجراءات قبل وقف العدوان الإسرائيلي وانسحاب القوات الإسرائيلية خارج قطاع غزة. وتطالب الحركة، بالمقابل، بفّك الحصار عن القطاع بفتح جميع المعابر، وخصوصا? معبر رفح الذي سيؤمن لها منفذا مباشرا على مصر ويُعزّز استمرار سيطرتها على القطاع. كما تطالب أن تكون التهدئة التي سيتفق عليها محدودة الفترة الزمنية وليست مفتوحة. ولذلك ترفض الحركة وجود قوات رقابة دولية في قطاع غزة. وفي المحصلة، إذا تحقق للحركة استمرار سيطرتها على القطاع وتمكّنت من الحصول على رفع الحصار وفتح المعابر فإنها ستعلن الانتصار. أما السلطة الفلسطينية الفاقدة للسيطرة على قطاع غزة والمستمرة في الصراع الداخلي مع حركة «حماس»، فقد وجدت نفسها بين المطرقة والسندان. ولم يكن في جعبتها سوى التحرك السياسي والديبلوماسي لتحقيق وقف إطلاق النار، ولذلك قبلت بقرار مجلس الأمن وبكل المبادرات التي من شأنها تحقيق ذلك. وفي نهاية المطاف ستُعلن السلطة أيضاً الانتصار إن هي خرجت من كل هذا المأزق بمصالحة وطنية تعيد اللحمة السياسية للضفة والقطاع، ولا تمنعها من العودة السريعة لمسار المفاوضات. أما العرب المنقسمون على أنفسهم فقد أعلنوا الانتصار عند صدور القرار 1860، ثم انهمكوا في الصراع حول كيفية الوصول الى وقف إطلاق النار. لا غرابة أن تتركز الجهود الإسرائيلية الحالية على تحقيق الأهداف الموضعية في قطاع غزة. فقد عوّدتنا الحركة الصهيونية في العقود الأولى من القرن الماضي، ومن ثم إسرائيل لاحقاً، على تجزئة التعامل معنا واتّباع سياسة الخطوة خطوة لمراكمة تحقيق الأهداف تباعاً. وهكذا تم قضم فلسطين، ومن ثم قضية فلسطين، حربا بعد حرب، وتوسعاً بعد توسع، وفرض اشتراطات بعد اشتراطات. وبالمقابل، كان علينا دائما التعامل بردّات الأفعال المُفصّلة على المقاس وتحمّل التراجعات. هذه المسيرة التي يمكن اختزال مسلسلها من قرار التقسيم وحتى القرار 1860، مرورا? بالقرار 242 وغيره من القرارات، جاءت وبالا? علينا لأنها كرسّت التقدم الإسرائيلي عند كل مفصل من مفاصل الصراع. صحيح أن الويلات التي أوقعتها إسرائيل تباعاً بالشعب الفلسطيني كانت من الفظاعة التي أجبرتنا فلسطينياً وعربياً على الانحشار بردّات الفعل الموضعية الضيقة. وصحيح أيضا أن ما يحدث الآن في قطاع غزة من فظائع إسرائيلية يندى له جبين الإنسانية وكان لا بد بالتالي من السعي الحثيث لتحقيق وقف إطلاق النار بصورة فورية. ولكن يجب الانتباه إلى أن تحقيق ذلك لا يتطلب منا ضرورة التقيّد فقط بالالتزامات والإجراءات المطلوب تحقيقها الآن في قطاع غزة، كون ذلك يحقق لإسرائيل أهدافاً استراتيجية في حين يحشرنا فقط في تحقيق وقف العدوان والتقيد بالحيثيات والمستلزمات والمستجدات الناجمة عن ذلك، ما يعني استمرار اتبّاعنا المسار الخاطئ نفسه القاضم لفلسطين وقضية فلسطين. ولن يشفع لأي طرف فلسطيني أو عربي أن جزءاً أساسياً من مواقفنا وتصرفاتنا الحالية ينبع من الصراع الداخلي المحتدم في ما بيننا، ما يفسح المجال عريضاً لإسرائيل وحلفائها لشرذمة مواقفنا وتقزيم طلباتنا. عدا عن قصور الرؤية والقدرة والإرادة السياسية الفلسطينية والعربية والانغماس في صراعات ومحاور غير مجدية، لا يوجد ما يُفسّر منطقياً ويُبرّر عملياً فشلنا الذريع حتى الآن في ربط مطلبنا بضرورة تحقيق الوقف الفوري للعدوان الإسرائيلي على قطاع غزة مع ضرورة المعالجة الجذرية للسبب الرئيسي الكامن وراء استمرار المعاناة الفلسطينية من ناحية، وغياب الاستقرار عن المنطقة من ناحية أخرى. وعلينا الانتباه إلى أنه مع أهمية وضرورة رفع الحصار عن القطاع والتشديد على حيوية فتح معبر رفح بشروط جديدة، إلا أن ذلك لا يصيب مكمن الداء، إلا إذا كان الهدف فقط تعزيز الانقسام الفلسطيني الداخلي وتوطيد سيطرة حركة «حماس» على غزة. إن مكمن الداء هو استمرار الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية ومنع الشعب الفلسطيني من تحقيق حقوقه الوطنية الشرعية بالعودة والحرية والاستقلال. ولا يوجد ما يمنع الآن، بل على العكس يوجد كل ما يبرّر ضرورة فتح ملف إنهاء الاحتلال بكل القوة والعزيمة اللازمة لذلك. فلا يُعقل أن ينتهي هذا العدوان الإسرائيلي الغاشم على قطاع غزة بترتيبات تختص بالقطاع وتلبي الاشتراطات الإسرائيلية فقط، مع بعض المصالح الفئوية الفلسطينية التي ستكرس القدرة الإسرائيلية على الاستمرار في تفتيت وقضم القضية الفلسطينية. بل يجب أن لا يغلق ملف هذا العدوان (وليس تحقيق الوقف الفوري له) إلا بمعالجة جذرية للسبب الرئيسي الكامن وراءه، وهو الاحتلال. واضح تماما أن كل العذابات الفلسطينية، من العدوان على غزة إلى نهش أراضي القدس والضفة باستيطان إسرائيلي مكثف وتقطيعها إلى معازل، كله ناجم عن فشل عملية التسوية السياسية بالطريقة التي جرت بها حتى الآن. فإسرائيل تريد من حل الدولتين أن توصلنا إلى «دولة بقايا»، تستأثر بما تستطيع من أرض وتحشرنا على أصغر بقع متبقية من أرضنا لتصبح دولة لا تملك من المقومات سوى إغلاق ملف القضية الوطنية الفلسطينية. علينا الآن رفض هذا المسار والإعلان عن أننا فلسطينياً وعربياً نريد أن نحاول للمرة الأخيرة إنقاذ الحل القائم على إقامة الدولتين، وبما يحقق إنهاء الاحتلال وإقامة الدولة الفلسطينية على حدود عام 1967 وحل قضية اللاجئين وفق قرارات الشرعية الدولية. هذه المحاولة الأخيرة والنهائية تتطلب مسيرة تسوية سياسية وعملية ومفاوضات ذات صدقية، وصدقيتها تنبع أساساً من تحديد سقف زمني لإنهائها، إذ لا يعقل أن يستمر التفاوض مفتوحاً إلى الأبد ويصبح وكأنه الغاية وليس الوسيلة لتحقيق الهدف. فاذا تحقق الهدف وصلنا الى النتيجة وتصبح جميع المستلزمات والإجراءات المتفاوض عليها جزءاً لا يتجزأ من الرزمة الكاملة المتكاملة. أما إذا تبيّن أن إسرائيل تريد الاستمرار بعملية تسوية سياسية عدمية فعلينا حينها استخلاص العبر وإغلاق الباب الموصد أصلا? على حل الدولتين والتحول إلى خيارات أخرى تقوم على مقاومة الاحتلال بالوسائل المناسبة لتحويل إسرائيل والأرض الفلسطينية المحتلة إلى دولة واحدة. الوقت الآن موات لفتح الملف بكامله، وليس الاكتفاء والانكفاء على معالجة آثار العدوان الإسرائيلي الآني، فقد قضينا عقودا طويلة ونحن ننتقل من معالجة آثار عدوان إسرائيلي إلى آخر، وبات ضرورياً أن نتحول من ردّ الفعل إلى اتخاذ زمام المبادرة. بالتأكيد هذا يتطلب أساساً وأولاً إنهاء الانقسام الفلسطيني والعربي فورا والانطلاق بشكل موحّد لوضع الأجندة الواضحة والمحددة على طاولة المجتمع الدولي. يوجد الآن مناخ ملائم يجب أن يتم استغلاله، فهناك تعاطف دولي شعبي ورسمي عارم مع القضية الفلسطينية، كما ان هناك إدارة جديدة قادمة إلى البيت الأبيض. خلافتنا الداخلية الفئوية الضيقة يجب أن لا تُضيّع الإمكانية المتاحة. أما إذا فشلنا في التقاط الفرصة المواتية، فليس علينا إلا أن نلوم أنفسنا، فلوم الآخرين عندئذ لن يفيد. علينا تقع مسؤولية فتح ملف إنهاء الاحتلال الإسرائيلي فورياً وجدّياً، وليس فقط التوقف عند المطالبة بوقف العدوان على غزة. هذه هي المسؤولية التاريخية الآن، والمرجو والمطلوب أن يكون المجموع الفلسطيني والعربي على قدر هذه المسؤولية. عن صحيفة الحياة اللندنية اقرأ المزيد...
بقلم: ريما كتانة نزال
تاريخ النشر: 2018/7/23
بقلم: جهاد حرب
تاريخ النشر: 2018/5/12
بقلم: وكالة معا الاخبارية
تاريخ النشر: 2018/5/2
لنفس الكاتب
تاريخ النشر: 2009/3/2
تاريخ النشر: 2009/2/19
تاريخ النشر: 2009/2/16
تاريخ النشر: 2009/1/22
|