مفتاح
2024 . الإثنين 8 ، تموز
 
مفتاحك إلى فلسطين
The Palestinian Initiatives for The Promotoion of Global Dialogue and Democracy
 
الرئيسة
 
 
 
 
 
 
 
 
English    
 
 
لقد فتحت ثورة مصر صفحات كثيرة كانت مغلقة ليس فقط في مصر ولكن في كل العالم العربي. ومن أبرز هذه الصفحات العلاقة بين الكبار وبين الصغار أو الشباب، وقد انعكس ذلك في الخطاب قبل الثورة وبعد الثورة. فقبل الثورة ساد خطاب أبوي صارم غير قابل للمناقشة، ويقوم على الطاعة العمياء، وساد هذا الخطاب على مجمل الحياة السياسية في مصر وغيرها من الدول العربية، وكان خطابا إقتلاعيا، مهيمنا مسيطرا، يقوم على فرضية أثبتت ثورة مصر خطأها، وهي نفس الفرضية التي تقوم عليها تبريرات الحاكم للإستمرار في الحكم، وهذه الفرضية ولها إمتداد تاريخي يضرب في عمق التاريخ الإنساني والثقافي العربي، وحتى الفكر الديني لا ينجو منه، وهو إن الكبار أكثر حكمة وعقلانية، وأكثر ذكاءا، وأكثر خبرة ودراية بشؤون الحياة والحكم، ومن ثم من حقهم تولي السلطة والحكم وإدارة شؤون الناس..!!

وقد شكل الشباب الهاجس والقلق الدائم لهؤلاء المسنين، الذين كانوا دائما يحرصون على التخلص من طاقة الشباب، وكفائتهم، إما بإجبارهم على الهجرة القسرية أو بنقلهم من مكان إلى آخر، أو بالتخلص منهم بإلقاء التهم عليهم بالتهور، وتضييع المصلحة العامة. وفي التراث القديم كان عندما تنزل محنة أو كارثة طبيعية على البشر يقولون أن ذلك هو نتاج غضب الألهة على الخطايا التي يرتكبها البشر، والمقصود بهؤلاء البشر هم الشباب، ولذلك لا بد من التخلص منهم أو قتلهم أو نفيهم. وظلت العلاقة في مراحلها الأولى تقوم على الصراع والصدام بين هذين الجيلين، وفي مرحلة لاحقة عمل الكبار ومن خلال خطابهم التبريري على محاولة احتواء بعض الشباب وليس كلهم في دائرة الحكم لديهم، وهذا ما لامسنا بعض مظاهره في بعض التعيينات في المناصب العليا ردا على مقولة أن هؤلاء الشباب محرومون، ولا يأخذون فرصتهم في المشاركة، وتحولت هذه الحفنة القليلة جدا من هؤلاء الشباب كأبواق دعاية، وأقلام في يد الكبار لتبرير حكم الحاكم، وتبرير بقاء هؤلاء المسنين في مناصب الجاه والثروة والقوة.

ونظرة سريعة على خريطة القوة والنفوذ في أي مجتمع سنجد من السهولة التعرف على هذه الفئة من الكبار المسنين. وفى مثل هذه مرحلة تراجع الخطاب السياسي لهذه الفئة، والذى أتسم خطابها بالتراجع والتدهور، وتفتيت قوة المجتمع، وبالضعف الذي كانوا يعوضونه بالسيطرة على قوة المال، وقوة القمع البوليسية. وإلى جانب قوة المال والقمع كان هؤلاء الكبار المسنون إما أن يعمدوا إلى صبغ شعورهم ولحيهم وشورابهم حتى يبدون صغارا، أو أن يحيطوا انفسهم بثلة من الحراس الصغار أصحاب العضلات المفتولة، حتى يشعروا الآخرين بقوتهم المزيفة. وفي مثل هذا خطاب لم يكن صراع الأجيال قائما وإن كانت جذوره بدأت تتجذر في نفوس الشباب، وعلى حد قول الكاتب والأديب المصرى الراحل يوسف ادريس أن صراع الأجيال لم يكن موجودا لأن جيل الشباب كان محروما ومهمشا.

وقد دعم خطاب الكبار أن هؤلاء الشباب غير مبالين وسلبيين، وهمهم الأوحد الكرة، وقضاء معظم الوقت في المقاهي، والسمر والتسكع في الشوارع حتى آخر الليل. وتناسى هؤلاء الكبار عن جهل أن قوة التغيير والتمرد تكبر في نفوس هذا الجيل، وأن هذا الجيل وبما توفرت لديه من وسائل تقدم وتنكولوجيا عصرية لم يستوعبها الجيل الكبير، أنهم في مرحلة التحول والتمرد على كل ما هو قائم. وبدت المرحلة الأولى من مظاهر الصدام تبرز في العديد من الوسائل إما عبر بعض الإحتجاجات المحدودة، أو عبر بعض الأفلام والمسرحيات، وبعض النقد في عدد من الصحف او وسائل الأتصال مثل الفيسبوك والتويتر وغيرها من الوسائل الحديثة. وفي الوقت ذاته أتاحت فرص الحداثة والتحديث والتعليم، وثورة الإتصال والعولمة العالمية أن ربطت بين هؤلاء الشباب وبين العالم، وما كان أمامهم إلا أن يعيدوا صياغة حاضرهم ومستقبلهم، من خلال البحث عن لغة خطاب سياسي جديد يفند مزاعم كل الخطاب السياسي للكبار، ويبرهن على أن الشباب ليسوا كما يصورون أنهم شرحية بلا رؤية سياسية، أو بدون معرفة دورهم ومكانتهم في المجتمع، فهم يدركون انهم الشريحة الأكثر فعالية وقدرة على التغيير.

وفي هذا السياق كان المغزى الكبير في الجانب القيمي والثقافي لثورة الشباب في مصر. فإلى جانب أبعادها السياسية المهمة، لكن كان لها جانب قيمي وثقافي نجح من خلاله الشباب في أن يدحضوا كل دعاوى ومزاعم الخطاب السياسي للكبار. وجاء الخطاب السياسي للشباب ليعبر عن نضج ووعي وتقدم فكري يسبق أعمارهم بتقديم رؤية سياسية شاملة، وقد تجسد هذا الخطاب ومفرداته في العديد من المقولات والشعارات التي رفع شبابها هذه الثورة مثل: العدالة والحرية والخبز، والفقر، والبطالة ورفع الظلم ومحاربته، واستئصال الفساد بكل شروره، وبالتعددية السياسية، وبالتسامح، وهذا ما لفت نظري في خطابهم السياسي أن هذه الشريحة تؤمن بالتسامح ونبذ العنف. ومن العبارات المهمة في هذا الخطاب الإعتزاز بالإنتماء لمصر وحمايتها، وبالتوحد الإجتماعي والديني، وبالإهتمام بالطفولة والمرأة، وبالتوزيع العادل للثروة، وغير ذلك الكثير من المفردات التي تحتاج فعلا إلى إعادة دراسة وتحليل حتى يستفاد منها.

والمفارقة في هذا التحول الخطابي ما طرأ على خطاب الكبار الذي بدأ يتسم بقدر من التملق والتقرب لخطاب الشباب، وبدأنا نلحظ هذا التحول في الخطاب السياسي للكبار بالتأكيد على دور الشباب، وقدرتهم على التغيير، وبنضجهم ن وبأنهم مثلا "ولاد زي السكر، وهذا هو شباب مصر" والسؤال أين كان هذا الخطاب قبل ذلك او قبل الثورة؟ ولو ساد هذا الخطاب السياسي قبل الثورة، والذي أرى انه أساس لأي عملية إصلاح لساد وترسخ مبدأ من أهم مبادئ التحول الديمقراطي وهو مبدأ تواصل الأجيال وليس صدامها، والذي بتوفره لترسخ مبدأ تداول السلطة من جيل إلى جيل، وطبق مبدأ توزيع العدالة الإجتماعية، ولاستقامت مجتمعاتنا وشعوبنا، وما كنا قد وصلنا إلى هذه المرحلة من الإنحدار القيمي في خطابنا السياسي. وفي إعتقادي هذا جانب مهم من جوانب تداعيات الثورة المصرية على كافة المجتمعات العربية، التي عليها أن تعيد صياغة هذه العلاقة على أسس جديدة تقوم على التواصل بين الأجيال وليس الصدام..!!

* استاذ العلوم السياسية في جامعة الآزهر- غزة.

 
 
اقرأ المزيد...
 
 
لنفس الكاتب
 
Footer
اتصل بنا
العنوان البريدي:
صندوق بريد 69647
القدس
عمارة الريماوي، الطابق الثالث
شارع ايميل توما 14
حي المصايف، رام الله
الرمز البريدي P6058131

فلسطين
972-2-298 9490/1
972-2-298 9492
info@miftah.org
للانضمام الى القائمة البريدية
* indicates required