مفتاح
2024 . الأحد 7 ، تموز
 
مفتاحك إلى فلسطين
The Palestinian Initiatives for The Promotoion of Global Dialogue and Democracy
 
الرئيسة
 
 
 
 
 
 
 
 
English    
 
 
ربما يتأخر اعتراف المعلقين وعلماء الاجتماع الإسرائيليين، بأن ما يجري في الدولة العبرية، منذ أن نُصبت الخيمة، التي بدأ بها الاحتجاج في شارع روتشليد في تل أبيب؛ إنما هو متصل بانهيار مريع في منظومة التقاليد التي توافق عليها اليهود الإسرائيليون، في دولتهم العبرية، مثلما أن له صلة مباشرة بالانسداد التام، أمام العملية السلمية. فعلى صعيد هذا العامل الأخير، قيل إن انغلاقاً لا انفتاح له أو معه في أفق التسوية المنظور، يوفر مساحة لطرح القضايا الاجتماعية المدنية. ومثلما هي دائماً مزاودات المتطرفين، التي لا تؤيدها مظاهر السلوك المحترم؛ فقد اتسمت مرحلة نتنياهو بكل ما من شأنه إحباط الناس وإفقارهم، إذ استمرت في تصفية العلمانية، من خلال تعزيز مواقع الأصولية اليهودية المتطرفة، وبخاصة ذراعها الاستيطاني، وظلت هذه الحكومة تبيع للناس كلاماً عن إقصاء الآخرين، وعن الجاهزية للحرب، وعن المخاطر الأمنية الوهمية، وعن الشبح الإيراني، كما دأبت على تكريس مسارات في الحكم وفي السياسة، لا يدفع أكلافها إلا الفقراء!

في هذه الحقبة تراجعت فرص الاحتجاج السلمي المألوفة، وضاق هامش التعبير واتخاذ المواقف، وظهر مستبدون من نوع آخر، تسلحوا بقوانين جديدة، أقرها "الكنيست" وكان آخرها قانون تحريم مقاطعة أية مؤسسة صهيوينة، اقتصادية أو اجتماعية أو ثقافية أو أكاديمية لأي سبب، وهو القانون الذي يُجيز مقاضاة من يقاطع مُنتجاً اقتصادياً أو منبراً أو مركزاً أكاديمياً، حتى دون الاضطرار الى إثبات وقوع الضرر، مثلما ينبغي أن يكون في أعراف التقاضي. ومع التوغل في التطرف على كل صعيد؛ أحس الشبان اليهود، أن حكومة اليمين العنصري المتطرف، التي صدّق المجتمع الإسرائيلي طروحاتها؛ لا تريد أن تسمع شكاياتهم ولا أن تتساهل في مواجهتهم. فهي تستأنس بالأغلبية التي تحظى بها في السلطة التشريعية، وتظن أن الجمهور الذي أوصلها الى هذه الأغلبية، سيظل بذات الحجم الذي كان عليه قبل سنوات. ومن جانبهم، شعر هؤلاء الشبان والشابات، أن من يسحقون حياتهم اليومية، ويزعمون أنهم الغيورون على مصالح الشعب الإسرائيلي، يقابلون احتجاجهم بعداء ظاهر، لولا أن إصرارهم على مطالبهم فرض التراجع على نتنياهو، الذي لا يجرؤ على التخاشن مع المحتجين، أو مواجهتهم بضراوة.

بالطبع، رآها اليسار الإسرائيلي، فرصته لكي يبرهن، وهو اليائس المتضائل، على أن مجاميع الناس التي خرجت في أكبر التظاهرات منذ تأسيس دولة إسرائيل، انصفت خطابه الاجتماعي والسياسي الواقعي، الذي اتسم بالدعوة الى التسوية على قاعدة الحقوق الفلسطينية في أراضي1967. وانتعش اليسار على اعتبار أن خطابه بات هو الذي يتوجب أن يكون خطاب المسحوقين والفقراء. وكان طبيعياً أن يتكىء هذا اليسار على الجموع الهادرة، وكأنما هو يُنبه من جديد، الى أن اليمين، نجح في عملية خداع واحتيال معقدة وعاطفية ونفسية، أوقعت الجمهور اليهودي في حبائلها، حتى بات القائمون على السياسة الرسمية للدولة، يتغابون ويتجاهلون حقيقة أن التسوية التي ينشدها الفلسطينيون والعرب، إنما هي بمثابة نصر استراتيجي تاريخي للحركة الصهيونية. هو نصر يتقبله الفلسطينيون مضطرين، لأن بديل التسوية هو الضياع، وبالتالي يجب الحث عليها، وليس مفاقمة الأوضاع الإقليمية التي تساعد في إنجازها، أو تضييع الفرصة وتعريض الدولة للخطر، بدل أن تنعم بالأمن والسلام!

* * * ولعل من محاسن السياق الاحتجاجي في إسرائيل، ما يُعد درساً بليغاً للواهمين من الفقراء اليهود. فقد انبرى المتدينون دون غيرهم، لا سيما المستوطنون، للهجوم الإعلامي على المتظاهرين، وخرج من يذكّر المستهدفين بالهجوم، أن هؤلاء العتاة النصابين، الذين أمدتهم الحكومة العنصرية بكل عناصر البحبوحة واختصتهم بالمزايا، وأنشأت لهم على الأراضي الفلسطينية فيلات استيطانية فاخرة، تسببت في تعطيل مفاوضات التسوية؛ يرون في صرخات الاحتجاج الاجتماعي، عملية تجريف لمضامين الخطاب السياسي لصديقتهم الحكومة، وربما تؤدي هذه العملية الى إسقاط "أصحاب الفضل". وبدا أن هذه الحسبة، استهوت فقراء اليمين نفسه فتعاظمت التظاهرات. وفي هذا السياق ارتسم خيط فاصل بين مستوى حياة رغدة دون أكلاف، لجمهرة المستوطنين من غير ذوي المآثر أو المستنكفين حتى عن الخدمة في الجيش؛ وحياة شُبان يعتبرون أنفسهم كادحين ومجندين لاحقين او سابقين، بينما المستوطنون المتطرفون بلا مآثر. وبالمحصلة، لم تؤد مواقف الحكومة الإسرائيلية وأفاعيلها لشىء يفيد الشباب المسحوقين أو ينصفهم، وإنما أدت الى إفقارهم!

وعلى الرغم من ذلك، فأغلب الظن أن بائعي كلام التطرف، لن يكفوا عن طرح بضاعتهم، وبخاصة بعد أن نجحوا في تأجيج مشاعر العداء للعنصر العربي، وبالتالي فإن هؤلاء سيعاودون الكرّة، محاولين الاستمرار في إرضاع وإشباع وإسعاد الناشئة بأنباء تتعلق بإخضاع الفلسطينيين وقهرهم واستلابهم وخنق حياتهم. وفي الحقيقة، لم يتأخر هؤلاء العنصريون في مسعاهم، إذ سرعان ما قيل، في سياق الهجوم على تظاهرات الفقراء، لتشويه مقاصدها، أن واحداً من نشطائها البارزين، كان يتصدر تظاهرة احتاج نظمتها جمعية "عدالة" المعنية بحقوق "الأقلية العربية في إسرائيل"!

ويُستدل من بين سطور كتابات محللين وباحثين إسرائيليين، ينتمون اللى شتى الأطياف، بأن الاحتجاج الشعبي في الدولة العبرية، على وشك الانتقال من الطور العاطفي، ومن مرحلة التشكي العام من سطوة رأس المال والتأسي على فقدان العدالة الاجتماعية؛ الى طور أكثر تفصيلاً وتحديداً، قوامه طرح مطالب محددة، تؤهل طليعة المحتجين وتنسيقياتهم، للدخول في عملية تفاوض جادة ومعمقة. كان الطور الأول كفيلاً بتوفير الجرعة العاطفية والحماسية للمحتجين. أما الطور الثاني فمن شأنه توحيد المسحوقة حياتهم على أهداف اجتماعية اقتصادية معلومة. ومن المفارقات، أن الهبّة الشعبية في الدولة العبرية، أضعفت منطق الذعر من وجود العربي، فتراجعت قليلاً الأولوية في تعريف اليهودي لنفسه بأنه مختلف عن "الآخر" إذ قاربت بين ذوي الشكايات المتشابهة، حتى أن المحتجين اليهود قدموا طبيباً عربياً فلسطينياً، لكي يتحدث كصاحب حق أصيل في الكلام، وليس كمتلقٍ لمجاملة، فشرح الشاب بلغة علمية رصينة، علاقة السياسة الحكومية بالأخطار التي تتهدد نظام الصحة العامة. وفي سياق تحديد المطالب، بدأت نُخب المحتجين تضع أولوياتها وتحدد سقوفها الزمنية بشكل واقعي، وعرفت كيف تُميز بين المطالب التي تحتاج الى وقت، وتلك التي يمكن تلبيتها عاجلاً، كموضوع التغييرات في النظام الضريبي!

لا بد من القول في الختام، إن الإسرائيليين المحتجين، حرصوا على نفي تأثرهم بثورات الشارع العربي، وهم لم يصدقوا في ذلك، إذ تكذّبهم وقائع التطور الفعلي لعملية الاحتجاج، ومناخات القلة التي بدأت به، وأسلوب اعتماد الخيمة، ثم التحشيد والتمترس في الشارع انتظاراً لآلية ذات صدقية لتلبية المطالب. ولم يكن يضير الناطقين باسم الاحتجاجات، الاعتراف بأنهم استلهموا من ثورات المستحيل العربية، التي أسقطت أو هزّت وزلزلت حتى الآن، أنظمة حكم شديدة البطش والإجرام؛ أسلوب وصرامة وزخم وحجم الاحتجاج الشعبي لإسقاط حكومة عفنة، مسكونة بهواجس عنصرية، أفقدت الدولة العبرية مدنيّتها حيال جمهورها، وأبقت على فاشيتها تجاه "الآخر" العربي، وجعلتها دولة كريهة بامتياز في الخارج، ومأزومة في الداخل. وها هي إذن، حكومة نتنياهو، تواجه محتجين من نمط متطور، بقدر ما هي متطورة الصناعات والمقدرة العلمية الإسرائيلية: تقديم المطالب مفصّلة ومشروحة، ثم الأكثر مدعاة للدهشة، تقديم مقترحات منطقية، تتعلق بالمصادر التمويلية لتلبيتها. لذا فإن أصحاب مشروع إغراق المجتمع الإسرائيلي، في تطرف غير مسبوق في وتائره وفي لغته وفي قوانينة المسنونة، باتوا يواجهون الغرق، في مستنقع أفاعيلهم على كل صعيد!

* كاتب فلسطيني من قطاع غزة. - adlisadeq57@yahoo.com

 
 
اقرأ المزيد...
 
Footer
اتصل بنا
العنوان البريدي:
صندوق بريد 69647
القدس
عمارة الريماوي، الطابق الثالث
شارع ايميل توما 14
حي المصايف، رام الله
الرمز البريدي P6058131

فلسطين
972-2-298 9490/1
972-2-298 9492
info@miftah.org
للانضمام الى القائمة البريدية
* indicates required