مفتاح
2024 . الثلاثاء 2 ، تموز
 
مفتاحك إلى فلسطين
The Palestinian Initiatives for The Promotoion of Global Dialogue and Democracy
 
الرئيسة
 
 
 
 
 
 
 
 
English    
 
 

إن أي محاولة لفهم المشهد الفلسطيني الراهن والأزمة البنيوية المركبة والمتفاقمة فيه، والتي يمتد مسارها وسياقها لأكثر من قرن من الزمان، تغفل ولو لوهلة أو لصدفة الدور الحاسم الذي كان للاحتلال الاسرائيلي ، هي محاولة آثمة بكلل المعاني ، لأنها تتجاوز رؤية ما ترتب عن الاحتلال من تفكيك شامل للبنية الفلسطينية عبر عمل منهجي دءوب ، قام على خلفية كاملة من العدوانية المدمرة والاستباحة المادية والمعنوية للفلسطينيين ، وها هي تصل في واحدة من توتراتها العالية ومفارقاتها المذهلة لإفساد(حتى) فكرة إسرائيل -دولة وعد الرب- نفسها : قيما وجوهرا ومصيرا وحقائق وأوهاما.وهذا الأمر لا يشاء الوعي الحاكم لإسرائيل حاليا أن يراه ويعاند الاعتراف به بكل ما أوتي من قوة العناد الكافر.

وفي نفس الوقت فإن التقليل أو التغاضي عن الدور النوعي (المرموق) للمساهمات الداخلية في إنتاج المأزق الذي يتردى فيه الفلسطينيين هو تحايل وضلال مُبين ضار ، يؤشر عل حجم القطيعة مع الواقع والعزلة عنه. وذات يوم كتب شخص عابر عن فقه النكبة عند الفلسطينيين ، وكيف يساهمون في مكان ما في إنتاج النكبة لأنفسهم فوق النكبة التي يقدمها خصومهم لهم. وهي مسالة لها جذور ثقافية عميقة تستقر في بنية وعيهم ونظم إدراكهم .

بين هذين الحدين على ألأقل وما ينتجانه بالقوة من تواطئات ، يتحرك الشعب الفلسطيني منذ عقود تتطاول، على نحو متعب ومكلف ومؤذ. وأسوة بكل شيء يتعلق بالفلسطينيين، فإن محض التأمل في قضاياهم وأحوالهم بدون أن تطرح على نفسك أي واجب آخر، ينطوي على مشقة وإرهاق، وهذا الأمر ليس وصفا أو انطباعا بمقدار ما يبدو وكأنه قدر راسخ في حياتهم حتى الآن.

إن هذه المفارقة المؤلمة، تحتاج من الفلسطينيين حصرا وعينا، لأن يظهروا يقظة وانتباه من نوع لم يعتادوه ولم يألفوه، لأن الوعي الجمعي الفلسطيني للنخبة السياسية كما للقوى المعنية في المجتمع الأهلي ، لا يجب أن يسمحا لنفسيهما بكل هذا الخمول: سواء في إدراكها أو معالجتها أو وضع حد للاشتباه الذي ينشأ بين الأبعاد الداخلية في المأزق من جهة والأبعاد المتولدة عن الاحتلال من جهة أخرى.

وفي هذا الصدد يمكن الإشارة لمنظومة من العناصر المؤذية التي تتشابك مع بعضها ثم تقوم بالقوة علاقة تحالف موضوعي بينها وبين مقاصد الاحتلال الذي بني إستراتيجيته على إفقار الفلسطينيين بنيويا وماديا ومعنويا ، وإدامة هذا الإفقار حتى يتحول لمصير دائم. عناصر انتجتها خيارات وسياسات فلسطينية بعينها، قدمت مساهمتها الملحوظة في توسيع دائرة الفقر بالمعنى الشامل للكلمة عند قطاع واسع من الشعب الفلسطيني.

لقدتعامات السلطة الفلسطينية ومنذ لحظات تشكلها الأولى حتى اللحظة ، مع قضايا الوضع العام ومتطلباتها وحاولت معالجتها ما استطاعت ولكن ذلك تم بناءً على منطق ارتجالي وجزئي . وجراء وجود اعتلال في الرؤية والتقدير لم نعاين تبلور رؤية تنموية ذات صبغة حيوية ومقاومة تعزز صمود الناس وتساهم في تحصين أمالهم ورهاناتهم ، ولم تظهر السلطة لما يشير لتعاملها مع الفقر(مثلا)، بما هو عدوان شامل على اغلب الشعب يمس المناعة الوطنية والوجودية للناس ، تترتب عنه نتائج وخيمة في كل صعيد، من شانها أن تمس وترهق القدرةالفلسطينية للإنعتاق من الاحتلال والتخلص منه. كشرط تحتاجه السلطة نفسها لتعزيز إمكانياتها المختلفة بما في ذلك مصلحتها في تزويد ذاتها بالشرعية وطاقتها على التحكم والهيمنة على الحقل الفلسطيني، وفي إدارتها للتفاوض كصراع مع الخصم.

ولكننا شاهدنا مقابل ذلك وجود نسق تنموي شبه متكامل من الأوهام والافتراضات، تشارك فيه تيار رئيسي من المجتمع السياسي مع مزاج متفاعل واسع النطاق من المجتمع الأهلي الفلسطيني ، أوهام جرى البناء عليها وتحولت لجزء أصيل في المشهد ، بيد أن الأوهام تبقى بحكم طبيعتها أوهاما ، وفي لحظة الأزمة تتحول إلى عبئ ثقيل يبعث على اليأس.

وبينما كان الفقر والتفقير الشامل يتواصل بمنهجية معينة في بيئة مناسبة، فقد كان يؤشر على واحدة من اهم عوامل انتاجه المتمثلة في الفساد، والفساد هو أعمق من الفهم المبسط الذي يحمله الوعي الفلسطيني له ، لآن مد اليد الى المال العام او أو استخدام النفوذ بصورة غير مشروعة، هي تعبيرات عن خلل موجود في مكان أخطر، هو الوعي والإرادة والأخلاق، وعن فساد ما ألم بها فعطلها عن القيام بالتوقعات الايجابية منها. وقد إنعكست هذه المسالة في مستويات عدة كان أخطرها ، ما يمكن وصفه بعطب متكرر في إدارة ما لدى ما لدى الفلسطينيين من مقدرات وإمكانيات مهما كانت ، وقد تجلى هذا الأمر في الاقتصاد والثقافة والقيم والسياسة وغيرها.

وفي العقد الاخير توتر المأزق الفلسطيني وانفلت ليبلور إحدى أسوء مخرجاته المتمثلة في الانقسام السياسي وتكاليفه الباهظة سواء على صعيد العواطف والقيم او على الصعيد الرمزي أو السياسي أو الاقتصادي، وكان الانقسام عنوانا لخسارة جمعية باهظة آت في لحظة حرجة، اغتنمتها إسرائيل على كل وجه ممكن، كما استفاد منها ووظفها أشخاص أو تحالفات أو أطراف هنا وهناك ، لكن الفلسطينيين دفعوا حتى اللحظة أكلافها المعنوية والمادية بدون رحمة ، لا من أنفسهم ولا من أحد غيرهم.

إن الاجتماع الموضوعي لهذه العوامل ومفاعيلها وزواجها بالإكراه مع أغراض الاحتلال ومقاصده، قد ساهم بصورة جوهرية في خلق معادلة قاسية تحكم حياة الفلسطينيين، كما تمخض عنها ظهور بيئة مناسبة لحالة فلسطينية عامة وعابرة للفئات والقوى، تشعر بحالة من السأم والقنوط واليأس واللامبالاة التي تصل لتخوم الاستقالة من الدور وشتى انواع الفاعلية والحضور، حيث يتحول مبدأ نفض اليد من الامل في أي تغير، لعادة تفكير تستقر بارتياح عندهم ، وهي حالة خطرة جدا عندما تنتاب الجماعات، تجفيف أهم مصادر قوتها ، خصوصا عندما يتعلق الأمر بشعب كانت قدرته ذات منشأ معنوي ثقافي وجداني ، وقاوم الإحباط " بتربية الأمل" على ما قال محمود درويش يوما.

ولجماعة تعيش منذ عقود تتوالى في مهبات الرياح العاتية التي تجتمع عليها من كل صوب، وفقدت منذ زمن بعيد ترف وجود ارض تحتها كي تميد بها ، فإن التفسخ الحاصل في ارضي محيطها في العاميين المنصرمين تحديدا وما يحمله ذلك من احتمالات مقلقة في كل الاتجاهات، تتكفل بوضع المأزق الفلسطيني إزاء أفق قد يكون غير مسبوق من حيث صعوبته ومخاطره.

* * *

بعد تجربة خصبة من الصبر والجلد وبلورة مقاومات متعددة ، يعيش الفلسطينيون مستويات متقدمة من تشتت الوعي، ويشهدون ضعفا وضمورا في الهياكل الاجتماعية والسياسية والثقافية والاقتصادية ، فيما تحيط بهم وتحاصرهم أثقال الاحتلال من كل حدب وصوب، ويقفون إزاء لحظة مركبة شديدة التعقيد بدون عدة كافية في مجتمعهم السياسي والمدني: من القدرة والاستعداد والانتظام والتقدير المناسب للتحديات والتأطير الملائم لما لديهم من إمكانيات مهما، وبدون مشروع جاذب أيضا، ويبدون وكأنهم في ارض يباب.

غير أنهم شاءوا ذلك أم أبو، واستطاعوا أم لم يستطيعوا، يقفون (سلطة ومجتمعا أهليا كل من موقعه وموقفه) عند نفس خط الحاجة، لثقافة تدبر وتعاط وانفعال مختلفة عما عرفوه وعهدوه، تدبر يجاهد بالمعنى الحرفي للكلمة للخروج بهم، من حالة التيه والرخاوة والضمور ويتلافى ما استطاع لذلك سبيلا عواقب الاحتمالات الخطرة القائمة.

لذلك يحتاج الأمر لتبلور كتلة فلسطينية جديدة لها مرجعياتها ودليل عملها وتوافقاتها ومشروعها ونمط تفكيرها المختلف، لانهاء الاحتلال باستخدام الأشكال التي تناسب تحقيق الاهداف ، في نفس الوقت الذي تبلور فيه مشروع اجتماعي اقتصادي ثقافي بالضد من الفقر والفساد والانقسام واليأس، يصون التوقعات المشروعة للفلسطينيين ضمن ممكنات الواقع والسياسة أو فوقها.

كتلة قادرة على قيادة نفسها بصورة تجعل من المشروع الاجتماعي الذي تحمله جبهة كاملة ضد الاحتلال والفقر معا . وتذهب بالاحتجاج الحالي من كونه "فشت خلق" تعبر- بارتجال ليس واعدا- عن احتقان وضغط يتوفران بمعدل يفوق طاقة الفلسطينيين على الاحتمال - لن تكون بعيدة عن إغتنمها من أطراف عَدة بصورة تحرفها عن مسارها- تضغط باتجاه بلوره الإحتجاج وتأطيره في حركة اجتماعية يحملها فاعلون اجتماعيون حقيقيون ومعنيون لهم مصلحة ولهم جذر وموقف وموقع وافق، وتطرح على نفسها القيام بمهمات الضغط والتبدل والتغير في مشهد يتهالك على نفسه.

إن هذا ما يتطلبه الواقع الفلسطيني، رغم أن أغلب المعطيات تشير لغياب قوام مثل هذه الحركة وشروطها وحامليها واهم شيئ حالة وعي حقيقية بضرورتها على نحو يجعل الحديث عن هذه الحاجة " لغوا" لا طائل منه ولا فائدة ، إلا ان فقه الضرورة والبقاء والاستمرار واستعادة الذات والوعي التي يحتاج اليها الفلسطينيون بشدة ، لها رأي لا يمت للغو بصلة، ألا اذا ما كانوا قد أجمعوا على الذهاب في خيار الضمور والتلاشي، عندها لا يصبح حتى للغو أية ضرورة.

 
 
اقرأ المزيد...
 
Footer
اتصل بنا
العنوان البريدي:
صندوق بريد 69647
القدس
عمارة الريماوي، الطابق الثالث
شارع ايميل توما 14
حي المصايف، رام الله
الرمز البريدي P6058131

فلسطين
972-2-298 9490/1
972-2-298 9492
info@miftah.org
للانضمام الى القائمة البريدية
* indicates required