مفتاح
2024 . الإثنين 1 ، تموز
 
مفتاحك إلى فلسطين
The Palestinian Initiatives for The Promotoion of Global Dialogue and Democracy
 
الرئيسة
 
 
 
 
 
 
 
 
English    
 
 
منذ قرن عبر المفكر الفلسطيني خليل السكاكيني (1878-1953) عن مخاوفه من عودة الامور في البلاد العربية الى ما كانت عليه قبل الحرب العالمية الأولى أي "أن يرجع الناس الى حكومات مستبدة وشعوب كالاغنام.. الى رؤساء دين منافقين ورجال سياسة طائشين وأرباب سيف قساة واغنياء لصوص وشعوب جاهلة خاملة يائسة شقية".. كما أضاف ان السياسة القديمة التي ترمي الى استعباد الناس وامتصاص دمهم واتخاذهم آلات لخدمة ذوي التيجان وأرباب الأموال، أو أفراد قليلين واعتبار البلاد والناس ملكا لهم يتصرفون بهم كما يشاؤون، ان هذه السياسة يجب ان تهدم وتبنى السياسة الجديدة على تحرير الأمم واستقلالها واطلاق الحرية لها كي تعيش كما تريد".

كما أوضح السكاكيني ان بلاء الشعوب أو سعادتها وحريتها تكون دائما نتاجا لأخلاقيات السياسيين.. وقد بين ان هناك أنواع مختلفة من السياسيين "فريق مخلص وطني حر لا يراعي في وطنيته شيئا، وفريق وطني ولكنه جبان ضعيف الرأي سهل الانقياد، فإذا سألت هذا الفريق ماذا تطلب فإنه يراعي في ما يطلب ما يمكن لا ما يجب، وفريق مأجور أو أجنبي النزعة يراعي فيما يطلب إما مصلحة الانكليز أو مصلحة الفرنساويين أو مصلحة الصهيونيين".

ومع فارق الزمن وبعد مرور قرن يحق لنا ايضا ان نتخوف من عودة بروز بعض الممارسات السياسية التي كانت سائدة في مرحلة ما قبل 'الربيع العربي' الى السطح، وذلك بالرغم من أن الشعوب العربية قد قفزت قفزة نوعية سيصعب بعدها العودة الى الخلف، وبالرغم من وجود آليات حديثة (بعضها افتراضية) لعدم السماح باستمرار الفساد والاستبداد، ومن اهم هذه الآليات المحاسبة والمساءلة والمراجعة.

أين المراجعة؟

فبينما نلاحظ انه في أواخر كل عام تكثف الدوائر الاقتصادية والمالية نشاطها للقيام بعملية مراجعة لكل العمليات المالية التي تمت خلال العام المنتهي من اجل التقييم والمحاسبة وسد الثغرات في الميزانيات ووضع خطط جديدة ومستقبلية، كما نلاحظ ان المؤسسات السياسية في الدول الحديثة تقوم ايضا بمراجعة سنوية لسياساتها من اجل وضع استراتيجيات أفضل، نلاحظ بالمقابل ان السياسيين في العالم العربي لا يروا ضرورة لإجراء أي تقييم أو مراجعة لأنهم يتمتعون بامتيازات غير مسبوقة ومن اهمها الحق المطلق بتكرير الاخطاء وبالفشل مئات من المرات وتبديل المواقف والتأرجح بين أجندات متناقضة، يمينا ويسارا، شمالا وجنوبا، دون أيه محاسبة او مراجعة للخسائر التي كثيرا ما تقع على عاتق شعوبهم أكانت في الأرواح أو الأموال او في الزمن الضائع من أعمار وجهود البشر وكأن مصائر الشعوب تشكل حقلا خصبا لتجاربهم وأمزجتهم، وكأنه من المسموح المتاجرة بمعاناة غيرهم. وللأسف لا تختلف الحالة الفلسطينية عن هذا النموذج من الممارسة السياسية، كما ان وجود الخطر الاكبر المهيمن على رؤوس الشعب الفلسطيني، وهو العدو الاسرائيلي، يتسبب بشكل دائم في تأجيل عملية المساءلة والمحاسبة بحجة ان العدو قد يستغلها لمصلحته وذلك حتى في حال عدم تناقض السياسات المتبعة مع المصلحة الاسرائيلية.

ويتم التبدل بالمواقف والتجارب دون اعلان اسباب التبدل او الفشل وذلك كله بينما يستمر نفس الاشخاص في مناصبهم فلا يستقيلوا أبدا عندما تفشل خططهم ولا يخجلوا من ترديد مواقف وشعارات كانوا يحاربواها سابقا بعد أن قضوا على كل من كان يحملها، عندما كان الرأي مخالفا لرأيهم. فالخسائر كلها التي لا تمس مصالحهم الشخصية لا تحسب (وتعتبر حسب المصطلح الامريكي "كولاترال دامدج" أي الضررالموازي و غيرالمقصود الناتج عن التجارب الفاشلة).

أما تحت بند الأرباح فلا تحسب أيضا الارباح الموازية مثل الممتلكات الشخصية من عقارات وسيارات (بعض السيارات يفوق ثمنها ثمن عقار) ورحلات في أفخم الفنادق وولائم واقساط لجامعات امريكية خاصة الخ..

ولا تدخل هذه المصاريف 'العادية' ولا مسألة توزيع الوظائف على عائلاتهم وأقاربهم ضمن بند الفساد. فالفساد حسب تعريفهم يقتصر في عمليات 'الاختلاس' رغم انها لا تختلف نوعيا بل كميا عن الممارسات اليومية والامتيازات العادية، فالاختلاف في الحجم فقط وليس في الجوهر، حيث يمكن ادراجها كلها تحت بند سوء التصرف في المال العام وتحويله لمنفعة شخصية، الفرق الاساسي هو ان الاختلاس يعتبر قانونيا جريمة بينما الانواع الاخرى من الفساد تصبح 'طبيعة ثانية'، ولكنها في الحقيقة مثل السم الذي يدخل الجسد بجرعات بطيئة حتى تتفاقم توابعه بينما الاختلاس هو الاغتيال المباشر ضربة واحدة.

ولتغطية عدم المراجعة وتفادي المحاسبة تطرح في كل مرحلة قضية وكأنها المسألة الحيوية الأولى وتصبح من أولويات العمل وتنكب كل الجهود عليها وترفع شعارات طنانة حولها وتهمل قضايا اخرى قد تكون أكثر حيوية، وكأن القضايا ألعاب للاطفال يهتمون بها لفترة معينة ثم يتركونها بسبب ملل أو فشل فينقضوا على لعبة اخرى وكأن السياسة هواية وتسلية للبعض وإلهاء للبعض الآخر وذلك في اطار غياب استراتيجية شاملة تربط بين كل القضايا.

أين المصالحة؟!

ونود ان نشير بهذا الصدد الى موضوع شغل الشعب الفلسطيني في الفترة الاخيرة وهو 'الانقسام' ونقيضه 'المصالحة' حيث يمكن اعتبار عام 2012 من اكثر الاعوام التي شهدت نشاطا مكثفا للقيادات الفلسطينية من أجل المصالحة: وفود تأتي وتذهب ولقاءات واجتماعات بين نفس الاشخاص الذين ساهموا في خلق الانقسام من اجل انهاء الانقسام.. لقاءات يلعب فيها الوسطاء العرب دور الاساتذة الكبار بينما تجلس الاطراف الفلسطينية المنقسمة كالطلاب الصغار.

والغريب في هذا الصدد ان المفهومين أي 'الانقسام' من جهة ثم 'المصالحة' من جهة اخرى لم يتم توضيح مغزاهما الحقيقي على ارض الواقع وكأنهما من المفاهيم الأخلاقية النابعة من التفكير المثالي والطوباوي اكثر من كونهما من المفاهيم النابعة عن تفكيرسياسي واقعي.

فعبر المراجعة النقدية للمفهومين اللذين شغلا الساحة السياسية الفلسطينية (اكثر من انشغالها في بعض الاحيان بالاستراتيجيات الاسرائيلية) سنتمكن ربما من التوصل لفهم اعمق لأسباب فشل المحاولات اللامتناهية لتحقيق مصالحة هلامية تبدو وكأنها سراب، فكلما يدعوا الاقتراب من التوصل اليها تهرب مرة اخرى ليركضوا خلفها.. وتستمر اللعبة دون التوصل الى نتيجة والعودة الى المربع الأول. فإذا حاولنا التعمق في هذا المجال سنجد ان الفشل في التوصل الى نتيجة ليس بسبب تعنت طرف او آخر، ولكنه ناتج عن طرح المشكلة بشكل خاطئ بالأساس.

فقبل الحديث عن المصالحة يجب تحديد معني وسبب الانقسام بين الطرفين الأساسيين، وذلك عبر طرح عدة اسئلة قد يؤدي الجواب عليها الى تصور افضل لطبيعة الإشكالية، فيجب التساؤل أولا: هل الانقسام ايديولوجيا؟ وثانيا: هل الانقسام سياسيا أم جغرافيا؟ وثالثا: إن كان الانقسام سياسيا فهل هو انقسام تابع لسياسات محلية أم اقليمية أم دولية؟ ورابعا:هل سبب الانقسام استراتيجيات متناقضة أو فقط مصالح متعارضة ومتنافسة؟!

فان كان الانقسام ايديولوجيا يجب التساؤل الجدي: هل يمكن المصالحة بين ايديولوجيتين متناقضتين؟

وان كان الانقسام جغرافيا فهل يمكن الحديث عن مصالحة او عن اعادة اللحمة والوحدة بين الطرفين؟!

وان كان الانقسام ليس بين طرفين متناقضين فهو إذن انقسام بين طرفين متشابهين ولكن متنافسين للوصول الى نفس الهدف، حيث لايريد كل طرف ان يحصل الطرف الآخر على حصة اكبر من التي سيحصل عليها هو، وفي هذه الحالة يجب ان نتساءل حول طبيعة الحصص: حصص من ماذا؟ هل الانقسام هو حول تقسيم 'كعكة' فتصبح المصالحة عبارة عن عملية اعادة توزيع الحصص؟ ولكن لكي يكون هناك حصص ألا يجب ان يكون هناك 'كعكة'؟

فإن كان الخلاف فكريا وايديولوجيا، يصبح مفهوم المصالحة باطلا لأن عملية حل الخلاف بين الايديولوجيات المتصارعة والمتناقضة لا يمكن أن ينتهي الا عبرعملية تاريخية معقدة وطويلة المدى حتى التوصل الى مرحلة جديدة تدمج بين النقيضين في اطار قالب جديد، أما إذا كان الخلاف شكليا بين طرفين متشابهين أو وجهان لنفس العملة فتطرح عملية المصالحة سؤالا شديد الخطورة وهو: ان كنتما متشابهين فلماذا أضعتما وقت الشعوب في منافسات عبثية؟ والى أي فريق من السياسيين، الذين ذكرهم خليل السكاكيني منذ قرن، تنتمون؟!

* كاتبة وباحثة فلسطينية في الشؤون الاستراتيجية والدولية. - khalaf.noha@gmail.com

 
 
اقرأ المزيد...
 
Footer
اتصل بنا
العنوان البريدي:
صندوق بريد 69647
القدس
عمارة الريماوي، الطابق الثالث
شارع ايميل توما 14
حي المصايف، رام الله
الرمز البريدي P6058131

فلسطين
972-2-298 9490/1
972-2-298 9492
info@miftah.org
للانضمام الى القائمة البريدية
* indicates required