'يا فلسطيني يا نذل..'!
بقلم: فاروق وادي
2011/4/30

الموقع الأصلي:
http://www.miftah.org/display.cfm?DocId=12606

"كم كَذَبنا حين قلنا: نحن استثناء!أن تصدِّق نفسك أسوأُ من أن تكذب على غيرك"!

محمود درويش

هل خجلت يوماً من فلسطينيتك، وتمنيت لو أنها لم تكن؟! أنا خجلت. تجنبتها كأنها الجذام. خفت أن تلمسني، فارتعبت، وابتعدتُ عنها قليلاً..

لم يكن دم جوليانو، أو دم فيتوريو، وحدهما مصدر خجلي. كان عجزي عن وقف الرصاصة المتجهة إلى رأس الضحيّة، والأنشوطة الذاهبة للالتفاف حول عنق المغدور، هو مصدر الخجل الذي ظلّ يلفني من رأسي إلى أخمص القدمين.

من المفارقة أن يموت جوليانو المير خميس وفيتوريو أريغوني في آن معاً، في وقت كنتُ فيه مُستغرقاً في رسم صورة قاتلهما، المعمّم بالجهل والشوفينيّة الكئيبة والهواجس المرضيّة المعادية للثقافة والابداع ومعاني التضامن الأممي والإنساني والأخلاقي. والأسوأ أن القاتل، على الجانبين، ارتكب فعلته وهو يقرأ كتاب الله، وليس رواية لأرسين لوبين!.

نحن شوفينيون. على ماذا؟!

وخير أمّة.. لماذا؟!

فلسطينيون اقتلعوا من وطنهم، وعاشوا ردحاً طويلاً تحت بساطير رجال المكتب الثاني في لبنان؛ وأقبية المخابرات الأردنيّة وذلّ سجونها الصحراويّة؛ والمكتب الثاني السوري وسجون الحكّام المتعاقبين؛ عاشوا سجون مصر؛ وعانوا من سجون سلطتهم في ما تحرّر من فلسطين؛ ومن سجون حماس في ما حرّرته من أرض السُّلطة.

رصاصة الفلسطينيّ المقاوم، كانت وحدها، في تاريخنا المعاصر، فجر الفلسطينيّ وفخره. انتشلته من ذلِّه وعاره ودفعته نحو أحلامه. فما الذي حدث في زمن الانشطار الفلسطينيّ الكبير، لتصبح الرصاصة مصدراً للعار، والخسّة.. والنذالة.. والانحطاط. تصوّروا، أن شوفينيّة قتلة فيتوريو، وجهلهم بالجغرافيا والتاريخ والحضارة، أباحت لهم بأن يقولوا (في بيان عارهم، عارنا، عار فلسطين كلّها، الذي أعلنوا فيه بطولتهم بالتخلُّص من عاشقٍ لفلسطين من فصيلة أمميّة أصبحت نادرة في هذا الزمان الضنين)، إن فيتوريو ينتمي إلى "دويلة" إيطاليا!؟ أوهامهم المرضيّة صوّرت لهم أنهم يعيشون في أعتى الامبراطوريات، وينتمون إلى دولة عظمى.. جاءها المستعمر فيتوريو لينهب خيراتها ويرفع مكانة "دويلته" بين الأمم!

ثمّ إن علينا أن نكون أكثر شجاعة، لنطرح السؤال الذي لا بدّ من طرحه، حول المكوِّنات الخفيّة الكامنة في الأصول الفكريّة نفسها لهؤلاء، التي تؤيِّد القتل وتسهم في إنعاش التطرُّف والإرهاب. فلا شكّ في أن هذا النبت الأصولي المتميِّز إرهاباً، المتولِّد في الحاضنة نفسها، له أسبابه الكامن بعضها في المكوِّنات الأيدولوجيّة التي أفرزت قتلة.

ودعونا نسأل. هل أعدّ الله الجنّة لمثل هؤلاء الرجال الملتحين، الذين صدقوا ما عاهدوا الله عليه، فنالوا الفردوس لأنهم نافحوا عن الإسلام، وذادوا برصاص بنادقهم العمياء عن مبادئ الدين الحنيف، مدججين بخطابٍ إسلامي النبرة. أم أن الأحق بالتبجيل، رجل شجاع، غير مسلم، ربما كان مسيحياً، أو يهودياً، أو شيوعياً، خاض معارك الحقّ والعدالة، مع شعبه، أو تضامن مع شعب آخر، ودفع دمه ثمناً لمبادئه؟!

دعونا نقارن بين موقف القتلة الذين انحدروا من تربية يردّونها إلى الإسلام، متكئين على تأويلات اجتهاديّة أتاحها لهم النّص، فأباحت لهم القتل. لنقارن بين هؤلاء وبين موقف سيِّدة نبيلة، هي أمّ المغدور فيتوريو، التي لا ندري شيئاً عن ديانتها وتربيتها وأخلاقياتها ومبادئها، والتي كتبت تطلب التدخل حتّى لا يتمّ تنفيذ حكم الإعدام في قتلة ولدها. نتلو رسالتها بخشوع، والتي تقول فيها إن فيتوريو كان ينظر إلى الحياة كقيمة عليا، ولذلك فإنها لن تقبل بأن يُحكم بالموت على قاتليه.. فإن لم يحمل موت فيتوريو ثمار الأمل والسلام ـ تضيف ـ، فإن إعدام قاتليه لن يجلب سوى الكراهية والبغضاء. ولا تتردّد والدة المغدور في الدّعوة إلى احترام نداء فيتوريو، مستعيدة صرخته المُدوية: "لنبقى بشراً". فأيّ نصّ إنسانيّ وروحيّ أجمل، وأيّ إعجاز ينطوي عليه مثل هذا النّص؟!

فهل نبقى نحن، بعد هذا النداء الذي يحممنا بالخجل، منطوين على خديعة نصّ آخر يوهمنا (بعد صورتيّ القاتل الأعمى بجهله، والتسامح الواعي الذي أصابت فيه امرأة)، بأننا خير أمّة أخرجت للناس؟! وكيف استطاعت صبيّة، جدّتها يهوديّة، وجدها شيوعيّ فلسطينيّ، ووالدها جوليانو، أن تستعيد وعدها بالحرص على أخوّتها لأبناء مخيّم تطايرت فراشات دم والدها على مدخله. أيّ نبلٍ هذا، من بشر لا يدّعون الانتماء لخير أمّة؟!

لا أطرح السؤال على القتلة، لأن رصاصهم الجبان كان الأسرع في الإجابة. ولكنني أطرحه على من يدّعون التنوير، من قوى وأحزاب ومفكرين إسلاميين، ما زالوا يتجنبون تفكيك، ومحاولة فهم، أصول خطاب يدعو إلى القتل!؟

*** منذ اغتيال جوليانو وفيتوريو، والعبارة التي حملها عنوان المقال تتردّد في رأسي. توقظني مع السعال الجاف من ذلّ نومي.. تمدّ لي لسانها باشمئزاز، فتصيبني بالعار.

كنتُ قد قرأت العبارة عنواناً لمقالة منذ أربعين عاماً، لكاتب يوردها لا ليؤكدها، ولكن لينفيها*، في زمن تمكّن فيه الفلسطيني من امتشاق البندقيّة. وكنّا نحسب أننا حفرنا لمثل تلك العبارة حفرة عميقة ودفناها فيها إلى الأبد، لكننا كنّا كما الحلاق في قصّة الملك ميداس، الذي دفن سراً سرعان ما ردّده الهواء، ليُُعلن للملأ عن قرون نبتت للملك.

في هذا الزّمن، الذي لم يحم فيه أبطال الانقسام الفلسطيني التاريخي، وسادته على الجانبين، لا دم جوليانو هنا.. ولا دم فيتوريو هناك، فإننا نشعر بالعار ونحن نشهد نكوص البندقيّة إلى هذا الدرك السفلي. فالحاضنات السياسيّة والأيدولوجيّة التي هنا، وتلك التي هناك، لم تُنجب سوى قتلة، ما زالوا يجهدون لنزع شرف البندقيّة عن فوهتها. إنهم يعيدوننا، بجهلهم وغبائهم وتخلفهم، إلى زمنٍ مضى، كان فيه الفلسطيني المنكسر، يُصغي مطأطئاً، إلى تلك العبارة التي طالما ترنّم بها الآخرون باحتقار: "يا فلسطيني يا نذل.."!

wadi49@hotmail.com

* فصل من كتاب بعنوان "المحرومون" للكاتب الفلسطيني ـ الأميركي فواز تركي، نشرته مجلة "مواقف" (العدد 23، أيلول ـ تشرين الأول 1972)، بترجمة للفنان كمال بلاطة، تحت العنوان الذي استعرناه هنا.

http://www.miftah.org