ماذا بعد مسيرات إحياء النكبة؟
بقلم: منذر سليم عبد اللطيف
2011/5/17

الموقع الأصلي:
http://www.miftah.org/display.cfm?DocId=12653

لا شك بأن ما حدث من مسيرات نحو حدود فلسطين المحتلة في ذكرى النكبة قد شكل مرحلة جديدة ، وظاهرة غير مسبوقة في تاريخ الصراع مع المحتل الإسرائيلي. وبالرغم من محدودية الدعم الذي توفر لتلك المسيرات إلا أنها كانت مدوية ، ولفتت الأنظار لقضية اللاجئين التي هي أصل وجوهر القضية الفلسطينية. لكن في رأيي أن تلك النشاطات التي ترفض الاحتلال وتطالب بالحقوق المشروعة لأصحاب الأرض الشرعيين لا يجب أن يُنظر إليها على أنها نشاطات عابرة أو موسمية تصب في صالح المفاوض الفلسطيني ونهجه ، أو في صالح ما يُعرف بمعسكر المقاومة الفلسطينية وأدواته. إن أقل ما يُقال في هذه المسيرات والنشاطات أنها تشكل أسلوباً ومنهجاً جديداً وخياراً إضافياً من خيارات الشعب الفلسطيني في استرجاع حقوقه.

لقد كتبت مع كثيرين بأن خيار التسوية والمفاوضات قد وصل إلى نهايته ، ببساطة لأن إسرائيل لا تريد أن تعطي شيئاً ، فهي لا تكتفي بأكثر من 80% من أرض فلسطين ، ولا ترغب حتى بعودة اللاجئين إلى أرض الضفة وغزة ، ولا زالت تصف المقاومين والقابعين في سجونها بالإرهابيين وترفض الإفراج عنهم ، ولا زالت تبتلع الأرض الفلسطينية كل يوم وتقيم المدن الإستيطانية الجديدة على أراضي الضفة الغربية والقدس ، ولا زالت تحاصر غزة وتقتل أبناءها , وغير ذلك كثير.

أما نهج المقاومة فقد خسر العديد من أوراقه ، حتى أصبح الوصول إلى معادلة "الهدوء مقابل الهدوء" إنجازاً وطنياً ، وانتصاراً لا يجادل فيه "مواطن شريف"!!. ومن الواضح بأن هناك حاجة ملحة لإعادة تعريف وصياغة العمل المقاوم وعلى رأسه العمل العسكري. لكن من المؤكد أن هذا النهج لن يوصلنا إلى حقوقنا في ظل التشكيلات التنظيمية الفاعلة وموازين القوى الحالي ، مع التأكيد على أن امتلاكنا للقوة العسكرية قد يُشكل أكبر ضمانة لردع المحتل عن استباحة أرضنا وبالذات في قطاع غزة ومناطق أ من الضفة المحتلة.

إن التمترس خلف نهج معين وإعادة إنتاجه بأساليب مختلفة ومصطلحات جديدة لن يحل مشكلة الشعب الفلسطيني , ولن يكون بإمكان ذلك إعادة الحقوق والحرية والكرامة لشعبنا. لذلك كان لا بد لنا من قراءة جديدة للواقع نستفيد فيها من العثرات التي واجهتنا ، ونرمي خلف ظهورنا تلك التركة التنظيمية الجامدة التي لم تنجح في تحقيق أهدافنا وتطلعاتنا ، بل ربما ساهمت سلبياً في أحيان كثيرة. كيف لا وقد تحولت العديد من تنظيماتنا من مربع التضحية وأداء دورها النضالي المقاوم الذي يتجه نحو غايته ، إلى مربع المنظمات الضخمة التي تسعى جاهدة لتوفير الأموال للطوابير الطويلة من الكوادر والقيادات والمؤسسات التابعة لها ، ولو كان ذلك على حساب واجباتها الوطنية و الدور الجهادي المنوط بها. لقد ضاعت فلسطين وتنظيماتنا تتباهى بانتصاراتها وتاريخها!! ، وما فتئت تبشرنا بأن التحرير قريب. وما أخال الماء إلا أنه قد مل من كثرة ما طحنه أولئك دون فائدة ، وفي النهاية متى يستيقظون من أحلامهم ويقتنعون بأن الماء لا يمكن إلا أن يبقى ماءً.

نعم إنتهينا من إحياء ذكرى النكبة وفقدنا العديد من الشهداء ومئات الجرحى ، ومن المرجح أن يزداد العدد سنوياً ، لكن من يستثمر ذلك وكيف؟ وهل من الحكمة ترك النبلاء من الشباب الذين يدفعهم حب فلسطين للتضحية بأرواحهم ومستقبلهم بهذا الشكل ، ودون خطة معروفة التفاصيل ، وكيف لنا أن نستفيد من الجهد التراكمي لتلك الدماء الطاهرة؟ ومن هي تلك الجهة التي يمكن أن توظف تلك الأحداث لصالح الشعب الفلسطيني وقضيته الوطنية؟

لقد قدمت اقتراحاً قبل أشهر لإعادة صياغة الاستراتيجية الفلسطينية ، ولكن من الواضح أن تنظيماتنا ترفض تغيير عقليتها ولا تعترف بالحقيقة إلا عندما تأتي على لسانها ، بالرغم من العدد الكبير ممن ثمَّن تلك الأفكار وممن تمنوا أن يتم نقاشها بصورة واسعة لأهميتها. وتقوم تلك الاستراتيجية على أساس أن يأخذ العمل الوطني بعين الاعتبار أربعة ركائز أساسية ومتكاملة في نفس الوقت:

أما الركيزة الأولى فتتعلق باللاجئين في جميع أماكن تواجدهم وسعيهم المتواصل سياسياً واجتماعياً واقتصادياً وقانونياً للعودة إلى ديارهم ، وخلق حالة من النشاط والعمل الدءوب عبر المسيرات والمظاهرات والاعتصامات المستمرة حول سفارات الدول الكبرى ، وبعثات الأمم المتحدة ، وعلى الحدود الفلسطينية ، وأمام مباني الأمم المتحدة والمؤسسات الدولية الأخرى ، وغير ذلك من النشاطات للضغط على المؤسسات الدولية لتطبيق قرارات الأمم المتحدة وإعادتهم إلى أرضهم ووطنهم. واليوم أشعر بالسعادة أن جزءاً من ذلك بدأ يتحقق ، وإن كنت أتمنى أن نعتمد كافة الوسائل المذكورة وغيرها ، وبشكل مستمر لا يرتبط فقط بفعاليات ذكرى النكبة ، وأيضاً بما ينسجم مع تفاصيل ذلك كما سيأتي لاحقاً.

أما الركيزة الثانية فتخص الفلسطينيين الذين يعيشون في إسرائيل اليوم وضرورة سعيهم للتوحد والعمل المستمر والمطالبة بحق تقرير المصير ، أو على الأقل – مرحلياً - الحكم الذاتي الكامل الذي يحفظ للفلسطيني هناك حقه في الأرض والهوية والحرية. وهذا مطلب تقره القوانين الدولية وفعلته الكثير من الأقليات. وأكاد أجزم أنها مسألة وقت فقط قبل أن تبدأ إسرائيل بابتلاع أراضي الفلسطينيين في الخط الأخضر ، بحيث تُغير الطبيعة الديموغرافية لتلك المنطقة ، وعندها سيكون الوقت قد فات على المطالبة بالحقوق. وأرجو أن لا ينخدع إخوتنا في تلك المناطق بالحرية النسبية التي يتمتعون بها هذه الأيام ، فدوام الحال من المحال ، وإسرائيل بعقليتها الاستئصالية والعنصرية لن تتركهم وأرضهم ، فالهدف النهائي معلوم وهو دولة يهودية على أرض فلسطين ، بكل شبر من أرضها ، وبدون أي مواطن فلسطيني عليها.

أما الركيزة الثالثة فتعالج الوضع في الضفة الغربية والبرنامج النضالي الذي من الواجب أن يتفق عليه الفلسطينيون بجميع فئاتهم وتوجهاتهم للعمل على تحرير أرضهم بكافة الوسائل والأدوات. ويرتبط بذلك حكومة إدارية من مواطنين أكفاء لا ينتمون لتنظيمات سياسية ، تدير الشأن الحياتي وتوفر كافة مستلزمات الشعب هناك ، مع ترك المجال واسعاً للتنظيمات الفلسطينية والحركات الشبابية لتنفيذ البرنامج النضالي المتفق عليه.

وأخيراً فإن الركيزة الرابعة تتمحور حول القطاع المحرر ، وضرورة إعادة صياغة خطة متكاملة لمستقبله ، تستند على حقيقة أن هذا الجزء من فلسطين منطقة محررة ، يمكن للشعب الفلسطيني ممارسة سيادته عليها بكل ما تعني هذه الكلمة من معنى ، بما في ذلك إطلاق الحريات ، والحكم الديمقراطي ، والسعي لامتلاك التكنولوجيا والتقدم التقني والصناعي ، وبناء المؤسسات الوطنية وغير ذلك. إن هذا السلوك هو ما يمكن أن يحدث فرقاً مهماً في الصراع بيننا وبين إسرائيل وحلفائها ضمن الظروف الدولية والإمكانات المتاحة.

أما دور المقاومة من غزة فينحصر في الدفاع عن القطاع والرد على الاعتداءات ، وهذا ما أثبتت الأيام قدرة المقاومة على فعله ، وفي هذه الحال لن تجد إسرائيل ما يكفي من الذرائع لاستباحة القطاع بالقتل والتدمير كما تفعل هذه الأيام كلما تم إطلاق رصاصة أو صاروخ صوبها. لكن من البديهي أن تسعى المقاومة لامتلاك أنواع الأسلحة التي تناسب مهمتها الدفاعية في المرحلة الراهنة ، التي تتجمع فيها عناصر القوى المقاتلة في جهاز واحد يتبع قيادة واحدة ، وينفذ أهدافاً محددة.

إن مثل هذا المشروع لا يمكن أن تستوعبه الأطر التنظيمية للحركات الفلسطينية القائمة حالياً ، والتي لكل منها رؤيته الخاصة ، وارتباطاته العربية والإقليمية والدولية ، فضلاً عن مشاكله الداخلية ، وانسجام وجوده بالعمل غالباً في الفضاء الرمادي ، والتأطير الإعلامي التحريضي ، الذي يحتكر الحقيقة ويتهم كل ما عداه ، إضافة إلى الاختلافات البينية التي وصلت حد العداء والاقتتال الداخلي.

نعم أقولها بوضوح – وللأسف - بأن ما لدى فصائلنا وحركاتنا وتنظيماتنا من إمكانيات مادية ورؤى سياسية وتنظيمية لا يمكن أن يؤدي لا إلى تحرير ولا إلى عودة ، وإنما ستعيد تلك الأطر إنتاج الموجود من مسار سياسي فاشل ، أو مقاومة تفتقر للفعالية والانضباط والقدرة القيادية ، إضافة إلى استقطاب داخلي يمكن أن ينفجر في أي وقت. لا أقول ذلك تجنياً ولا اجتهاداً ولكن هذا ما رآه الشعب الفلسطيني وذاق مرارته ممارسة واقعية. نعم المطلوب حركة جديدة جامعة تؤمن ببرنامج سياسي مشترك يمكن أن تشكل الركائز المذكورة أعلاه أساسه لتحقيق طموحاتنا وأهدافنا المشروعة.

إن ترك الأمر على حاله دون إيجاد تلك الحركة الجامعة سيترك المجال مفتوحاً أمام نفس القوى السياسية الحالية لإعادة إنتاج ما أنتجته الانتخابات السابقة ، وإن كان ذلك تحت عناوين وأسماء ومصطلحات ووعود جديدة ، وهذا سيؤدي بدوره إلى مأساة لا يمكن تخيُل انعكاساتها على المواطن الفلسطيني والقضية الفلسطينية.

وعودة إلى مسيرات ذكرى النكبة التي سالت فيها الدماء الطاهرة ، فقد كانت إسرائيل تنتظر بفارغ الصبر – في تقديري – أن تتخلل تلك المسيرات مظاهر عنف حتى تجد المبرر لقمعها ، وأهم من ذلك أن تجد المبرر مستقبلاً كي لا تتكرر. لذلك أدعو إلى أن تكون مسيراتنا سلمية ، لا تعتمد أي عنف ، لأننا ببساطة لن نستطيع إيذاء إسرائيل بهذا القدر من العنف. أريد لتلك المسيرات أن تكبُر بأقل قدر من الخسائر ، كي تخرج ليس بعشرات بل بمئات الآلاف ، تطلب شيئاً واحداً ألا وهو العودة إلى الديار والأرض التي طُرِدنا منها ، وعندها لن يستطيع أحد الوقوف في وجهها. وقس على ذلك التجمعات حول السفارات الغربية ، ومقرات الأمم المتحدة والمنظمات الدولية ، وخيام الاعتصام ، وغيره. كل ذلك بطريقة سلمية واضحة وبتنظيم متقن ومطلب وحيد ألا وهو العودة ، ليس في ذكرى النكبة فقط ، ولكن في كل يوم وعلى مدار الساعة. إن العمل ضمن هذا الفهم سيضمن الاستمرارية وسينزع الذرائع المختلفة لقتل هذا النوع من مقاومة التهجير والتغريب ، وذلك من قِبَل إسرائيل ، وأيضاً من قِبَل دول الطوق التي يمكن أن تجد من استخدام العنف مبرراً لمنع تلك النشاطات ، أو تجد فيها ما يمكن أن يزعزع استقرارها ، وخاصة أننا ضيوف على أرضهم.

إذا أراد شباب فلسطين في الداخل والخارج هدفاً جامعاً ومشروعاً عملياً يخدمون عبره قضيتهم ، فها هو أمامهم واضح المعالم , لا يحتاج إلا إلى عزيمتهم.

وفي الختام ، لا بد من تحية أولئك الذين فتحوا هذا الباب بدمائهم التي يجب ألا نضيعها سدى ، وأرجو من الله تبارك وتعالى أن يتقبلهم عنده مع قوافل الشهداء ، وأن يُحسِن عزاء ذويهم.

http://www.miftah.org