عندما يبكي الرجال..

عبد الناصر فروانة وطفلته مها
بقلم: د. عدنان جابر
2011/7/18

الموقع الأصلي:
http://www.miftah.org/display.cfm?DocId=12843

سألني بعض الأصدقاء باستغراب أكثر من مرة، كيف لي أن أستمر في الكتابة عن الأسرى، وفي كل مرة أجد موضوعا أكتب عنه، قائلين لي: ألم تخلص المواضيع؟!

إن كتابتي عن الأسرى هي جزء من واجبي تجاه الأسرى وأهاليهم، جزء من الوفاء تجاه المعاناة والعذاب الإنساني لهذه الفئة الصامدة والمضحية من شعبنا والتي تعد بمئات الآلاف، إذا اعتبرنا ذلك العدد الكبير ممن دخل السجون وخرج منها، وممن دخل السجون وخرج منها أكثر من مرة، وكذلك الأسرى والأسيرات الذين دخلوا السجون ولم يخرجوا منها ولا يزالون حتى الآن وراء القضبان، يصمدون صمود الجبال، ويحترقون كشمعه، ويعانون هم وأهاليهم معاناة هائلة ويدفعون ضريبة حرية الشعب وتحرير الوطن من ظلام وظلم الصهاينة.

إن عالم الأسرى ذاته هو الذي يوفر هذا الكم الهائل من المواضيع والعناوين، ودوري يتمثل في الاختيار والصياغة، وإقامة العلائق بين الواقع واللغة، وبين العام والخاص، وبين الوطني والإنساني، وإقامة جسر بين العذاب من جهة، وحق هذا العذاب في الصراخ والوصول إلى الآذان والضمائر في أربع رياح الأرض.

تأسيساً على ذلك، وأخذاً بالاعتبار ما أوردته آنفاً، فإنني أكتب الآن مقالاً بعنوان: عندما يبكي الرجال، عبد الناصر فروانة وطفلته مها.

ولمن لا يعرف عبد الناصر عوني فروانة حتى الآن، نقول بأنه أسير سابق وابن أسير سابق وشقيق أسير سابق، وباحث مختص في شؤون الأسرى مدير دائرة الإحصاء بوزارة الأسرى والمحررين في السلطة الوطنية الفلسطينية، ومؤسس الموقع الإلكتروني عن الأسرى (فلسطين خلف القضبان) ويعتبر، فلسطينياً وعربياً، من أبرز المراجع الموثوقة بشؤون الأسرى. ومن الجدير بالذكر أن عبد الناصر ينتمي لعائلة مناضلة قدمت الشهداء والتضحيات في سبيل فلسطين، ونذكر على سبيل المثال الشهيد محمد عزمي فروانة الذي شارك في أسر الجندي الصهيوني شاليط. وقد جددت عائلة فروانة في الوطن والشتات وعلى لسان الأسير السابق، الباحث المختص بشؤون الأسرى، عبد الناصر فروانة، مطالبتها للفصائل الآسرة لـ "شاليط" باستعادة جثمان شهيدها محمد عزمي فروانة والمحتجز لدى سلطات الاحتلال الإسرائيلي، منذ مشاركته في العملية الفدائية التي أسر خلالها "شاليط" قبل خمس سنوات، وإدراج ذلك كمطلب من مطالبها وشروطها لإتمام "صفقة التبادل" التي يدور الحديث حولها.

عبد الناصر عوني فروانة..

هذا الخبير بشؤون الأسرى والمواكب لمعاناتهم وشؤونهم وأخبارهم، والذي كان من ضمن مجموعة من الإعلاميين الذين تم تكريمهم في جامعة النجاح بنابلس لدورهم في الدفاع عن قضايا الأسرى، هذا الزميل والصديق الذي أعتز بصداقته، والذي عشت مع والده (الأكثر مرحاً ودعابة ممن خبرتهم في السجون الإسرائيلية) عوني فروانة (أبو العبد) في غرفة واحدة في سجن بئر السبع، قررت أن أكتب عنه لأن طفلته مها (11 سنة) هي الآن أسيرة مرض السرطان وتعالج في مشفى إسرائيلي ترافقها أمها، بينما هو والدها عبد الناصر لم يتمكن من زيارتها حتى الآن، ويعاني من مرض ابنته مها ومن بُعد بقية أطفاله الأربعة عن أ وهم صغار بحاجة لحنانها ورعايتها، وهم: أمل (14 سنة)، سارة (12 سنة)، عوني (8 سنوات)، ومحمد (سنة و8 شهور).

لم يطلب مني عبد الناصر أن أكتب عنه وعن ابنته، لكنني عندما كتبت له رسالة واعتذر لي عن الانقطاع وعدم التواصل معي (لفترة قصيرة فهو المبادر والحريص دائماً على التواصل بالكتابة وبالهاتف) بسبب مرض ابنته، عندها علمت بمرضها وشعرت بمعاناته الهائلة.

قال لي في رسالته: "صديقي يا صديقي، كنت أود كتابة مقال بعنوان "عندما يبكي الرجال" ولكنني تراجعت. خشيت أن يفهم منه بأنني أستجدي تعاطفا من الناس والقراء لكنني أبكي وأبكي. وكلما تذكرتها أبكي وكلما سمعت صوتها الخافت عبر الهاتف وهي تقول لي تعبانه فلقد أعطوني اليوم جرعة كيماوي أبكي أكثر وأتساءل ما ذنبها؟ كيف يمكن أن تتحمله فنحن لم نتحمل مجرد كونها مريضة فكيف هي ستتحمل قسوة الكيماوي؟ اسمح لي لا أستطيع تكملة رسالتي فعذرا وللحديث بقية. اسمها مها وعمرها عشر سنوات وذكية ومتفوقة جدا وحصلت في النصف الأول من العام الدراسي الأولى على المدرسة وهي الأبرز في الإذاعة المدرسية ومرفق صورتها، فالمعاناة يا صديقي جزء من حياتنا وهي قدرنا وترفض أن تفارقنا، نضحك ونبتسم ونسافر ونتجول هنا وهناك والحزن متجذر بداخلنا يرفض أن يفارقنا أو أن يرحل عنا قليلا نحن كما قلت بشر نضحك ونبكي ونحزن ولكننا نأمل أن نعيش قليلا بلا حزن وبلا بكاء الحمد لله الحمد لله الحمد لله".

لم يتمكن عبد الناصر من زيارة طفلته المريضة مها، وقد وجه رسالة مؤثرة لوزير الشؤون المدنية في السلطة الفلسطينية حسين الشيخ، هذا نصها:

((الأخ / حسين الشيخ .. حفظه الله وزير الشؤون المدنية

تحية الوطن وبعد،

لم أرغب في الحديث عن هذه القضية عبر وسائل الإعلام، لكنني لم أجد طريقاً للوصول إليك إلا عبرها، بعدما فشلت جهود السيد عيسى قراقع وزير الأسرى ومحاولاته المتكررة معكم ومع وزارتكم، وكذلك محاولات الأخت المناضلة فدوى ألبرغوثي، في تحقيق ما أنا بحاجة إليه، بل وحاولت الوصول إليك أو الحديث معك ولكن للأسف دون جدوى.

وصراحة أخي الوزير، لم أكن أتوقع بأنني سأنتظر ردكم لشهرين وما يزيد على طلب تقدمت به عبر وزير الأسرى والمحررين الأخ عيسى قراقع، للحصول على تصريح يمكنني من زيارة طفلتي الصغيرة مها (11 عاماً) والتي تُعالج في مستشفى (ايخلوف) في إسرائيل من مرض سرطان الدم (اللوكيميا) لرؤيتها والاطمئنان عليها... عتبي عليك يا سيادة الوزير حسين الشيخ، فالمسألة إنسانية بحتة، وليس لها علاقة بالتجارة أو الاقتصاد، ومع ذلك استغرق الأمر لأكثر من شهرين، وللأسف لم يأتِ الرد على طلبي حتى اليوم، وبتقديري وجراء هذا الإهمال من قبلكم فلقد اكتساه الغبار وهو على رفوف مكاتبكم.

وما يؤسفني القول بأن الحركة مستمرة عبر معبر إيرز، وأن بعض الشخصيات الفلسطينية من غزة وممن يرغبون ارتشاف فنجان من القهوة على شواطئ تل أبيب أو هرتسيليا، أو لأجل عمل"بزنس" هناك هم ليسوا بحاجة لأن ينتظروا بضع ساعات، أو بأسوأ الأحوال بضعة أيام (لا) تتجاوز أصابع اليد الواحدة.

على كل حال لا بأس، يبدو أن القضايا الإنسانية تتذيل قائمة اهتماماتك، وبعدما فشلت في الوصول إليك، فلعل اللجوء الاضطراري للإعلام يفيدني في الحصول على حق تصريح يمكنني من السفر لزيارة طفلتي الصغيرة التي ترقد على أسرة مستشفيات "إسرائيل" وترافقها والدتها منذ أكثر من ثلاثة شهور.

في الختام أشكرك لأنك أتحت لي فرصة إثارة هذه المسألة عبر وسائل الإعلام وان كان ذلك اضطرارياً، لعلها تصل لسيادة الرئيس "أبو مازن" أو لرئيس الوزراء د. سلام فياض اللذان لم ولن يقبلا التعامل مع القضايا الإنسانية بهذا الشكل وتلك الطريقة)).

حتى تاريخ كتابة هذا المقال، لم يزر عبد الناصر ابنته. ولأن هذا الأسير السابق يعاني من وضعية طفلته أسيرة السرطان، ولأنه سعى في الماضي ويسعى في الحاضر كثيراً لإظهار معاناة الأسرى وأهاليهم والدفاع عن قضاياهم، أشعر أنه من واجبنا ومن حقه علينا، حتى وإن لم يطالبنا، أن نقف مع معاناته، وأن نظهر عذابه، وأن نتضامن معه في محنته، وفي حقه بزيارة ابنته، وندعو من الله العلي القدير أن يمن عليها بالشفاء....

هناك معاناة مسؤول عنها الاحتلال، وهناك معاناة مسؤول عنها تقصيرنا وأداؤنا.

نادراً ما يبكي الرجال. ما أصعب بكاؤهم. إن رأيت رجلاً يبكي فاعلم أن شيئاً كبيراً قد حدث!

المصادر:

1- فروانة يعاتب الوزير حسين الشيخ ويطالبه بتحمل مسؤولياته الإنسانية، فلسطين خلف القضبان 29-6-2011.

2- عائلة فروانة تجدد مطالبتها باستعادة جثمان شهيدها الذي شارك في أسر شاليط، فلسطين خلف القضبان 26-6-2011.

3- من ضمنهم عبد الناصر فروانة، الأسرى يكرمون كوكبة من الإعلاميين تحت شعار جائزة "أحرار الإعلامية" في احتفال أقيم بجامعة النجاح، معاً 25-6-2011.

* كاتب فلسطيني، أسير سابق ومبعد، مقيم في بلغاريا. - adnanjaber13@hotmail.com

http://www.miftah.org