الدولة رقم 194
بقلم: د.ناجي صادق شراب
2011/7/23

الموقع الأصلي:
http://www.miftah.org/display.cfm?DocId=12860

دولة الجنوب السوداني هي الدولة رقم 193 التي قبلت عضوا في الأمم المتحدة.. وقد تلتقي معطيات هذه الدولة الجديدة مع معطيات الحالة الفلسطينية ولكن بمنهج مغاير، والتشابه بين الحالتين في المتغيرات الدولية والإقليمية والداخلية بمعنى تلاقي كل الإرادات والفواعل المؤثرة في قيام هذه الدولة، الولايات المتحده تريد هذه الدولة، الإتحاد الأوروبي يريدها، السودان الطرف الرئيس الذي اقتطعت منه هذه الدولة إعترف بها.. أما في الحالة الفلسطينية، فما زالت الولايات المتحده تهدد بفرض عقوبات على الفلسطينيين إذا ذهبوا إلى الأمم المتحدة لإنتزاع قرار دولي صعب للقبول بالدولة الفلسطينية..

موقف أوربي متأرجح ولا يمكن إن يخرج في النهاية عن الموقف الأمريكي.. إسرائيل الدولة المحتلة والمتحكمة في الأرض التي ستقام عليها هذه الدولة تعارض وبشدة قيام الدولة الفلسطينية عبر الأمم المتحدة، لأن المسافة والفارق كبير بين دولة تأتي عبر الأمم المتحدة، ودولة تأتي عبر المفاوضات مع إسرائيل.. ففى الحالة الثانية ستأتي الدولة بما تضعه إسرائيل من شروط تفقد هذه الدولة من مقوماتها الحقيقية، أما في حالة الأمم المتحده المطلوب فقط إن تعلن هذه الدولة عن قبولها لميثاق الأمم المتحدة وأن تكون محبة للسلام، وأن تكون حدودها معروفة، وقبول إرادة الدول الخمس الدائمين في مجلس الأمن.

في الحالتين يتحكم عامل المصلحة في تفسير سلوك الدول السياسي.. في حالة جنوب السودان توجد مصلحة في تجزئة السودان الكبير إلى أكثر من دولة وفقا لرؤية إستراتيجية لإعادة رسم الخريطة السياسية الجديدة للعالم العربي الذي يكون للولايات المتحده دور مباشر فيها.. أما في الحالة الفلسطينية فقيام دولة فلسطين فيه إضافة للدول العربية، وفيه تحديد لإسرائيل كدولة في إطار حدود معلنة لأول مرة، وفيه شكل جديد لصورة التحالفات الإقليمية، وفيه خوف من أن يحكم هذه الدولة في المستقبل الإسلاميون الذين قد يشكلون خطرا مباشرا على مصالح كافة القوى الدولية والإقليمية. وقد سبق أن ذكرنا في مقالة أن هناك فارق كبير بين إعتراف الدول بفلسطين كدولة وهو إعتراف قائم، وبين قبولها كعضو كامل في الأمم المتحدة، فهنا المتغيرات والمصلحة سيعاد النظر فيها من قبل الدول..!!

نحن أمام حالة غير مسبوقة في أدبيات قيام الدول، ففلسطين وعلى إمتداد تاريخها حالت الإرادة الدولية دون قيام هذه الدولة، وأول مرة إتفقت هذه الإرادة الدولية على قيام دولة فلسطينية في القرار رقم 181، وهنا قد تبدو أهمية هذه القرارفي أنه إعلان صريح بقبول الدولة الفلسطينية، لكن هذا القرار وهذا القبول كان مرتبطا بقيام إسرائيل كدولة، فهو مشروط بقبول إسرائيل عضوا في الأمم المتحدة، واليوم توجد بلا شك إرادة دولية بقيام وقبول هذه الدولة ولكن في ظل معطيات جديدة، أبرزها تأثير العامل الإسرائيلي الذي لم يكن موجودا في حالة القرار رقم 181، أما اليوم فدور إسرائيل واضح ومؤثر، وهذا الدور مسنود ومدعوم بالدور الأمريكي. وهذا أول ما ينبغي أن يدركه الفلسطينيون. والأمر الثاني الذي لم يدركه الفلسطينيون أنهم ورغم نضالهم الطويل وتضحياتهم البشرية الكبيرة وعدد الشهداء أنهم قبلوا بالحل السياسي والتفاوضي، وهذا يحتم عليهم اهمية تفعيل الأسلوب التفاوضي بطريقة جديدة، وأقصد بذلك تفعيل التفاوض مع الدول المؤثرة دوليا لتدرك أن لها مصلحة مباشرة في قيام هذه الدولة. وان هذه الدولة ستكون إضافة جديدة في السلام والأمن الدوليين مستقبلا.

وفي الوقت ذاته وقد يشكل هذا أحد أهم العوامل التي تفسر معارضة قيام هذه الدولة عبر الأمم المتحدة، أن القضية الفلسطينية ليست مجرد دولة، ففي حالة دولة جنوب السودان لا توجد نفس المشاكل، لا توجد قضية لاجئين، ولا توجد قضية حدود، ولا توجد مشكلة المساحة، ولا توجد قضايا إقتصادية وأمنية وغير ذلك من القضايا المكونة للقضية الفلسطينية.. فالحالة الفلسطينية حالة إستثنائية في قيام الدول، فالأصل توجد دولة واحدة، واليوم المطلوب إستنبات دولة أخرى من قلب هذه الدولة، ومما قد يزيد الأمور تعقيدا أن الدولة الفلسطينية ستقوم من قلب هذه الدولة، ونظرة واحدة على موقع الضفة الغربية وتداخلها في قلب هذه الدولة يشكل في حد ذاته معضلة أمنية وإقتصادية تحتاج إلى إيجاد حلول إبداعية وتوافقية وتفاوضية. وقد يتساءل البعض أن في هذا الرأي دعوة للعودة للتفاوض لقيام الدولة الفلسطينية، وكما أشرت مفهوم التفاوض قد يكون جديدا وبقواعد جديدة، والدولة الفلسطينية إما أن اتقوم عبر التفاوض، وإما عملية تحرر طويلة، وهذا ما ينبغي أن يقرره الفلسطينيون، وان يحددوا موقفهم أيضا من كل القضايا المكونة للقضية الفلسطينية.. وحتى أكون واضحا فالمسألة ليست بالسهولة التي نتصورها، وعملية الذهاب إلى الأمم المتحدة ليست مجرد رحلة او نزهة أو زيارة يقوم بها الرئيس عباس، وليست مجرد إلقاء خطاب سياسي من على منصة الجمعية العامة للأمم المتحدة.

هي معركة دبلوماسية طويلة، وقد نفشل في مرحلة منها، وقد نحتاج إلى مراحل كثيرة، لذلك الخطأ الذي يقع فيه الفلسطينيون كما وقعوا في ذلك من قبل انهم يصورون المسألة وكأنها منتهية مع آيلول القادم، وكأن الدولة قد أصبحت في يدهم..!!

أعتقد ان هناك فرصة جديدة للتفاوض عبر قواعد وضمانات جديدة من الضرورى الإستفاده منها، وهنا وضع الولايات المتحدة امام خياراتها: إما قيام هذه الدولة، وإما الذهاب إلى الأمم المتحدة، وهذا يتطلب رؤية سياسية وتفاوضية واضحة، ولا يبدو أن هذا متوفر في الوقت ذاته بسبب تعقيدات الحالة الفلسطينية، وإستمرار التناقض والتباعد السياسي في المواقف بين القوتين الرئيسيتين "فتح" و"حماس". والسؤال ثانية هل للدولة الفلسطينية ثمن سياسي لا بد من دفعه؟ وهل قيام الدولة وسيلة من وسائل إدارة النزاع؟ أم وسيلة من وسائل حل القضية؟ وهذا هو باعتقادي أحد مظاهر الخلاف بين الموقفين الفلسطيني والإسرائيلي.. فالفلسطينيون يبدو أنهم يتعاطوا مع قيام الدولة كأحد وسائل إدارة الصراع، وليس حلها، وهو ما يعني إستمرار المطالبة بإيجاد حل لكافة القضايا الرئيسة.. أما إسرائيل ومعها الولايات المتحده تريد قيام الدولة في إطار حل الصراع، وهو ما يعنيى التنازل عن كل القضايا الرئيسة الأخرى، فمثلا هل ستقبل إسرائيل بقيام الدولة وتنفيذ القرار رقم 194 الخاص باللاجئين؟ والوضع ينطبق على القدس؟ والسؤال الأخير هل يعني أن يشكل قيام الدولة الفلسطينية إطارا جديدا لحل هذه القضايا في إطار إقليمي جديد؟

كل هذه المعطيات توضح أن نموذج جنوب السودان يختلف عن النموذج الفلسطيني، وان هناك الكثير على الفلسطينيين القيام به من أجل الوصول إلى هذه الدولة أهمها الإتفاق حول ماهية الدولة التي يريدونها. ولهذه الأسباب يبدو أن الوصول إلى الرقم 194 تكتنفه تحديات وصعوبات كثيرة وقد لا ترتبط بحياة القادة والسياسيين، وهذا فارق آخر بين رؤية سياسيينا ورؤية قادة إسرائيل، السياسيون لدينا يريدون الدولة في حياتهم، ولا يعملون على وضع الأسس الأولى لها، عكس إسرائيل فعندما خرج هيرتزل في مؤتمره عام 1897 وقال أنه يرى قيام إسرائيل كدولة بعد خمسن عاما، لم يكن مجرد رؤية سياسية، بل كانت حسابات سياسية، وإستعدادات لوضع مقومات الدولة التي يريدها، أما في حالتنا فنحن كمن يدور في طاحونة هواء معلقة في السماء..!!

* استاذ العلوم السياسية في جامعة الآزهر- غزة. - drnagish@hotmail.com

http://www.miftah.org