المصالحة بين المصلحة العامة والمصالح الشخصية
بقلم: عاطف ابو سيف
2012/6/18

الموقع الأصلي:
http://www.miftah.org/display.cfm?DocId=13855

لا يمكن للمرء أن يتفاءل كثيراً؛ إذ إن الأحداث غير المتوقعة أكثر من تلك التي تنتظم وفق قالب المنطق والاحتكام إلى العقل. فكلما اقتربت الأمور أكثر، يبدو أن هناك من يحاول جرها إلى الخلف في لعبة 'سيزيفية' عبثية لا تعود إلاّ بمزيد من الألم والمعاناة، ولكن ليس على حامل الكرة بل على من يربطون مصيرهم به وبأفعاله وأقواله قبل ذلك. وحين تنتظم الأمور وتسير السياسة الداخلية وفق قواعد العقل وكما يقتضي المنطق، فإنه يمكن فقط أن تعود الأمور إلى جادة الصواب. وتلك ميزة كبرى تتمتع بها النظم المستقرة والتي يحتكم مواطنوها إلى لغة الحوار والتفاهم والإجراءات المترتبة على قبول الديمقراطية وسيلة لإدارة البلاد بين سكانها.

يبدو هذا الكلام بعيداً كل البعد عما يحدث عندنا، ونبدو غير قادرين على أن نكون مواطنين صالحين مخلصين لفكرة الوطن فقط بعيداً عن أي ارتباطات أخرى. وليس من شك في أن مثل هذه الصفات غائبة عنا وتبتعد أكثر فأكثر كلما استمر خلافنا الداخلي وكلما أصر بعضنا على أن يعيدنا إلى نقطة الصفر كلما ابتعدنا عنها. فنحن لا نحتكم إلى المنطق بل نخاصمه، ونحن لا نتعامل مع بضعنا وفق قواعد العمل المشترك بل يعمل بعضنا جاهداً على العمل الفردي والخاص ودائماً ثمة نشيد جميل يتم طلي أفعاله السيئة به يتحدث عن الوطن والمقاومة والاحتلال والحرية والكرامة. وكأن ثمة ما يدعو لكل هذا الافتراء إذ إن اللغة تفضح والعبارات تخون أصحابها أو هي أصدق منهم في التعبير عن مكنوناتهم حتى لو لم يقصدوا.

في خضم كل ذلك تضيع المصلحة العامة والخير العام أمام الأهواء الحزبية الضيقة، ويتم استدعاء الخطاب الديني أو التراثي في عمليات تخوين وتكفير وإخراج عن الملة وربما التشكيك في وطنية الآخرين لأن ثمة عملية احتكارية بشعة تقوم باستدراج الوعي المقابل لها من أجل تتويج نفسها مفسراً ومدافعاً عن قداسة الفكرة وطهارة الموقف. المصلحة العامة التي هي أساس أي عمل مشترك وربما هي جوهر وجود الدولة الوطنية ومؤسساتها تتراجع أمام إصرار البعض على الحفاظ على المكتسبات الكثيرة التي راكموها في صراع أبشع لتحويل الوطن إلى مكتسب شخصي وحزبي.

يصلح هذا للتعليق على وضع المصالحة الفلسطينية هذه الأيام وفي غيرها من السنوات الخمس السوداء التي مرت على شعبنا. ففيما اجتاز الانقسام السنوات الخمس في الرابع عشر من حزيران، بدت المصالحة قريبة وقريبة جداً خاصة بعد توقيع اتفاق القاهرة التفصيلي حول الإجراءات الواجب اتخاذها من أجل تنفيذ اتفاق الدوحة السابق، والقاهرة الذي سبقه من فتح مكاتب لجنة الانتخابات المركزية في غزة وبدء عملية تحديث السجل الانتخابي في غزة بالتزامن مع بدء المشاورات التي يجريها الرئيس بوصفه مكلفاً برئاسة الوزارة لتشكيل وزارة توافق وطني تكون مهمتها التحضير لإجراء انتخابات تشريعية ورئاسية ووطنية واحدة في مدة أقصاها ستة أشهر. وفعلاً تم قطع بعض الخطوات الواضحة في هذا المجال، خاصة بعد قدوم وفد لجنة الانتخابات المركزية إلى غزة وتداول أسماء مقترحة بيت حركتي فتح وحماس للحكومة الجديدة وارتقاب اللقاء بين الرئيس محمود عباس وخالد مشعل للفصل في ذلك. بالطبع ثمة قدر عال من المسؤولية التي بدت واضحة في حوارات المصالحة، وهي ما قادت إلى هذه الخلاصات، خاصة مع تقدم حماس خطوة صغيرة للأمام كانت مترددة فيها وعطلت المصالحة ربما سنوات وكلفت الشعب المزيد من المعاناة. رغم ذلك فإن ما حدث مهم ومفيد ويمكن البناء عليه في سبيل طي هذه الصفحة السوداء التي لا يمكن تذكرها إلا بالكثير من الأسى والحزن على الوحدة الوطنية التي ديست ببساطير المسلحين وأريقت دماء من دافعوا طوال سني عمرهم عن الوطن والقضية. إلا أن البحث في الماضي لا يساعد كثيراً إلاّ في التعلم منه وفي محاولة رأب الصدوع التي أحدثها في حياة الناس، وهي كثيرة وعميقة وبحاجة للمزيد من الاهتمام حتى يعاد تصليب المجتمع ورتق ما تهتك من نسيجه الاجتماعي.

إلا أن المرء بعد مراقبة بعض التصريحات التي صدرت، أخيراً، خاصة في الذكرى الخامسة لانقلاب حماس في الرابع عشر من حزيران يظن أن ثمة من يصر على أن تعود الأمور إلى نقطة البداية وكأن لم تكن هناك جهود بذلت وساعات طويلة قضيت في البحث عن توافق ممكن أو يمكن له أن يعيش في ظل مواقف الأطراف المختلفة. من باب هذا الحديث عن استحالة المصالحة مع العلمانيين في استحواذ مريع للمفاهيم والقيم الدينية والأخلاقية وبلغة مختلطة المقاصد والدلالات. أو إعلان يوم حدوث الانقلاب يوم عيد للشرطة وكأن ما تم في ذلك اليوم هو تحرير القدس مثلاً. أو أن ما حدث في ذلك اليوم لم يكن وصمة عار في جبين الشعب الفلسطيني الذي أطلق النار على وحدته الوطنية ووأد جهود الحوارات الوطنية التي تم تتويجها في اتفاق مكة في حينه وإعلان حكومة الوحدة الوطنية. لم يكن من الحكمة نبش الماضي وليس من الحكمة أيضاً نسيانه، لكن الحكمة تقتضي كيفية التعامل مع هذا الماضي حتى لا يصبح عبئاً ومعيقاً في طريق تتويج المصالحة الحقيقية. بدلاً من ذلك لابد من البحث عن سبل تعزيز الوحدة والبحث عن القواسم المشتركة من أجل الخروج من النفق المظلم. وهذا يقتضي ضمن أشياء كثيرة التغليب الفعلي للمصلحة العامة على المصالح الحزبية والشخصية وعدم الانجرار وراء البلاغة الزائدة في توصيف الأشياء، لأن الأمر لا علاقة له إلا بالقدر الكافي من الحكمة لإدارة هذه المرحلة الصعبة والانتقالية من أجل الوصول إلى الوفاق الحقيقي بالعودة للناس لكي يقولوا رأيهم ويختاروا الطريقة التي يريدون أن يديروا حياتهم وفقها. ثمة مسافة كبيرة بين المصلحة العامة والمصالح الحزبية والشخصية بحاجة لجهد وصدق وجهاد نفس لقطعها.

http://www.miftah.org