الثورة المصرية ووجه مصر القادم
بقلم: عصري فياض
2012/6/25

الموقع الأصلي:
http://www.miftah.org/display.cfm?DocId=13873

نعم، الكيمياء في عقلية المواطن المصري تغيرت،وزمن " أمرك موالي" في ارض الكنانة ولى إلى غير رجعة، اليوم ومنذ الخامس والعشرين من يناير، صحت مصر على تاريخ جديد، وجمهورية جديدة، جمعت كل التاريخ القدم في " كيس من القماش" وبدأت تؤسس لتاريخ جديد، زرعته أنفاس الشباب في ميدان التحرير وكل ميادين مصر التي قبعت " فرعون"، وواصلت السير لقبع من تبقى من أعوانه ومخلفاته ، تماما كما هو المطر، لا يمر على أتربة الصخور مر الكرام،بل يغسل وجهها، وإذا ما اشتد، يصبح سيلا عارما، قد يحتمل زبدا رابيا، لكن الزبد يذهب جفاء وما ينفع الناس يمكث في الأرض.

صحيح أن بداية الانفجار العربي كانت في مدينة سيدي أبو زيد التونسية بجسد محمد بوعزيزي، لكن الصاعق والدخان الأول للانفجار،لم يكن الانفجار الكامل والكبير، هنا في مصر كانت الصورة الكبرى، تغيير بدأ بخطوات، الخطوة الأولى تنحي أو خلع مبارك، والثانية محاكمته واقرأنه ، والثالثة انتخابات مجلسي الشعب والشورى، والثالثة اختيار جمعية الدستور، والرابعة انتخاب أول رئيس مصري بطريقة ديمقراطية 100%،فكان اختيار خيار الثورة في انتخابات الإعادة الدكتور محمد مرسي وبنسبة فاقت 51%، تسجيل النقطة الرابعة لصالح الثورة ضد اعادئها والمتبصرين بها، ومن يحاول تحجيم أحلامها وطموحاتها،فالبرغم من "نجاح" الفلول بعض الشيء في محاولة لململة شظايا أشلائهم التي تبددت على وقع الثورة ،على مائدة الامتيازات التي كانت يمنحها لهم حكم مبارك، من أمنيين وعسكريين ورجال أعمال وغيرهم ، والوعودات التي رافقت حملة المرشح الآخر لهم بإعادة الزمن القديم وتقريب الأقران والخلان في حال نجاح الثورة المضادة ، إلا أن الكيمياء الجديدة في عقل المواطن المصري رأت بالرغم من الخلافات مع وجهة نظر الأخوان المسلمين أن من مصلحة الثورة اختيار الدكتور محمد مرسي كمرشح ثورة على السماح لإعادة إنتاج النظام القديم،وهذا بحد ذاته إصرار من القوى الثورية المختلفة على تقديم مصلحة الثورة على مصلحة الحزب الضيقة، وفي الحقيقة برع الدكتور مرسي في توجيه الرسائل المطمئنة للمرحلة القادمة للإبقاء على مصر دولة مدنية، وانه سيسعى لتشكيل حكومة وفاق وطني ، وإشراك اكبر عدد ممكن من توجهات الشعب المصري خاصة شركاء الثورة ومراعاة حق الطوائف والتوجهات في داخل مصر على قاعدة بناء نهضة مصر الشعار المركزي لحملته الانتخابية، وباعتقادي وحسب ما أطلقه مرسي أثناء حملته الانتخابية من وعودات على جميع الأصعدة ، قابل للعمل وتحقيق النجاحات نظرا لعدة عوامل من أهمها:-

*الجانب الأمني والاستقرار،وهو ما يشكل القلق الأكبر والاهم في هذه المرحلة للشعب المصري، وهو حالة طبيعية ناتجة عن حالة جاءت بها الثورة من تغيير أصاب عصب النظام القديم، وهذا العصب يحتاج لحالة الاستقرار السياسي لكي يعود يتماسك من جديد ويحمي مصر خارجيا وداخليا، فالفراغ سد قسم كبير منه بانتخاب الرئيس، ويستكمل بالدستور، وإعادة الاعتبار لمجلس الشعب المنحل، أو إعادة تنظيم انتخابات برلمانية جديدة،وما دامت الصلاحيات الكثيرة ستؤول من العسكر للرئيس الجديد، فسيكون هناك تسارع في إعادة حسم مسألة تكوين المجلس التشريعي البرلمان، أو إعادة انتخاب مجلس جديد. بالإضافة أن جوهر النهضة يحتاج للأمن والاستقرار، وهذا ما سيسعى له الرئيس الجديد على قدم وساق من باقي الاستحقاقات.

* الجانب الاقتصادي وهو الجانب الجوهري لمشروع النهضة، وما كشفته الثورة في الحقيقة يفيد أن مصر كانت ولا تزال تملك مقومات هائلة وكبيرة، لكن قسما غير بسيط كان مهدورا بفعل الفساد والمحسوبيات التي كانت في العهد القديم، والتي ذهبت بعشرات المليارات من الدولارات لجيوب المتنفذين، ومع ترسيخ محاسبة الفساد واسترداد مقدرات الشعب، والعمل على التنمية الشاملة على أساس من العدالة، وإجراء مراجعات للعلاقات الاقتصادية التي كانت سائدة في الحقبة السابقة والتي كانت تتناغم مع التوجهات السياسية، فإن مصر المستقبل ستبحث أيضا على علاقات إقليمية ودولية تقوي تعاونها الاقتصادي وتجري تغييرا ما على سياستها الاقتصادية، فقد تعزز تعاونها الاقتصادي مع الكتل الاقتصادية العملاقة في شرق أسيا مثل الصين وروسيا وإيران وماليزيا واليابان وتركيا وجنوب إفريقيا وأمريكا اللاتينية، وسحب الاعتماد الاقتصادي الكبير على الدول الغربية خاصة وأن الأخيرة تأن منذ فترة تحت طائلة الأزمة الاقتصادية العالمية التي أدت إلى انكماش اقتصادي بنسب متفاوتة من دولة لأخرى،ولأسباب سياسية ستسعى مثل هذه الدول المذكورة في طرق أبواب الدولة المصرية لتعزيز التعاون الاقتصادي خاصة الصين التي تضع إفريقيا نصب أعينها كسوق مهم وساحة استثمار، وروسيا التي تسعى لملأ فراغ تراجع الحضور الأمريكي، وتركيا التي تشعر أنها تنتمي لنفس المدرسة المصرية ألان، وإيران التي ترى في فوز مرسي بوابة عبور لمصر بعد جفاء تسبب فيه النظام السابق لعقود طويله، اما دول أمريكيا اللاتينية وخصوصا الدول ذات النزعة الاشتراكية، فحتما ستكون مسرورة بهذا التحول الذي سيضيف الى مدارتها دولة جديدة في خصامها المعلن مع الولايات المتحدة الأمريكية.

* الجانب السياسي، وهذا الجانب كان احد أركان توجه المصري نحو الثورة والتغيير،وكل التوجهات والأحزاب التي شاركت بالثورة تحمل أجندة سياسية تختلف تماما عن النظام السابق، خاصة في مسألتين، الأولى العلاقة مع الولايات المتحدة التي سخرت النظام السابق ليدور في فلكها عقودا طويله، والثانية العلاقة مع إسرائيل والاتفاقيات الموقعة معها، والموقف منها ومن توجهاتها ومشروعيتها، وحول الموقف الأول، وهو العلاقة مع الولايات المتحدة، اعتقد أن الدوران في الفلك الأمريكي في العهد الجديد لن يكون ممكنا، وأيضا لن يرحل أو ترحل أثاره بالسرعة المطلوبة، لان عجلة التغير والنهضة تتطلب التروي، فهي لا تحتمل العمل المغامر غير محسوب العواقب،ولعل الولايات المتحدة الأمريكية تدرك هذه الحقيقة، وهي ستسعي بكل ما أوتيت من جهد لتطويق تداعياتها وأثارها، والحد قدر الإمكان من خسائرها، ولعل ما سيساعد النظام المصري الجديد، أن القاعدة الثورية له هي ضد ممارسات الولايات المتحدة سواء كان ذلك لجهة دعم إسرائيل أو احتلال العراق وأفغانستان وغيرها من السياسات التي تحركها المصالح الامبريالية المعادية للشعوب، ولابد لان يكون لذلك اثر بائن، كما أن القيادة المصرية القادمة ستستشعر ملامح رحيل بعض الثقل الأمريكي عن المنطقة، وان المنطقة العربية الآن تقترب من ملامح الفراغ السياسي القادم، وهذا سيؤدي لان تعمل مصر بصفتها اكبر دولة عربية مؤثرة على حجز مكان لها في عملية سد الفراغ، نظرا لدورها القادم من جهة، ومنافسة روسيا وإيران وتركيا اللواتي يعملن ليلا ونهارا في تعبئة الفراغ السياسي الناتج عن هذه الحالة، ولما لمصر من خصوصية الأم الكبرى للدول العربية ، فأعتقد أن أمر تكوين دور إقليمي لمصر سيتراوح بين التنافس والتعاون مع هذه الدول،مما يفرض بذل جهود كبيرة من القيادة المصرية في السياسات العربية والإقليمية.

أما لجهة إسرائيل، فالموقف المعلن هو احترام الاتفاقيات، مع إمكانية بحث إعادة مراجعة بعض جوانبها ، خاصة لجهة اتفاقية الغاز المجحفة بحق الشعب المصري، أو لجهة بسط السيطرة الأمنية الكاملة على سيناء عبر توسيع دائرة الحضور العسكري المصري في سيناء والمكبل منذ توقيع اتفاقيات كامب ديفيد في العام 1978،وبرأيي لن تكون هذه المراجعات نهاية المطاف مع إسرائيل، بل مقدمات مرحلة جديد ستكون قابله للمد والجزر وفق تطورات المنطقة، فمثلا من المستحيل مثلا السماح لأي مسؤول إسرائيلي إعلان حالة الحرب على غزة من عمق القاهرة أمام مسمع ومرأى وزير خارجية مصر كما كان لتسيفي لفني وزيرة خارجية إسرائيل السابقة والتي أعلنت من مصر قرارها شن حرب على غزة أمام أبو الغيط وزير خارجية مصر السابق في مؤتمر صحفي مشترك. أو لجهة موقف القيادة المصرية الجديدة لجهة التعامل مع معبر رفح ستكون مختلفة وبشكل جوهري وكبير، وهذا احد وعودات الرئيس الجديد الدكتور مرسي، وأيضا لجهة العلاقة مع إيران وما تمثله من موافق تجاه إسرائيل والولايات المتحدة الأمريكية، او الموقف من برنامجها النووي والتهديدات الإسرائيلية والغربية لها، خاصة وإذا ما توقعنا أن مصر قد تسعى لأحياء مشروع إنشاء الطاقة النووية كإحدى مجالات ومتطلبات النهضة المرتقبة، وانه في حالة تراجع الاعتماد على الغرب، فإن تعاونها مع روسيا والصين وإيران في هذا المجال سيكون واردا.

من هنا ندرك أن التغيير في مصر قد انطلق، ولا رجعة عنه، وان الثورة مصممة بطاقتها الشعبية على رسم حدود وملامح مصر الجديدة، وأنها السيل الجارف الذي لا يتوقف أمامه العوائق مهما حاولتا الثورة المضادة الوقف في طريقها، فالمطر لا يهزم، والسيول تترك لتواصل مسيرها لتستقر في منتهاها، "أما الزبد فيذهب جفاءا واما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض ".

http://www.miftah.org