المستوطنون ضد إسرائيل أيضاً
بقلم: د.أحمد رفيق عوض
2012/6/25

الموقع الأصلي:
http://www.miftah.org/display.cfm?DocId=13874

مرة أخرى، و كما في منتصف السبعينات، تعود الحركة الاستيطانية الى كونها حاملة و حامية للمشروع الصهيوني الذي يكشف اكثر فأكثر عن وجهه الحقيقي، كمشروع لا يملك من شرعية سوى شرعية القوة.و مرة أخرى تعود الحركة الاستيطانية الصهيونية الى اعادة التجربة الاولى قبل عام 1948،بمعنى تغيير الواقع الديموغرافي و الجغرافي في البلاد من أجل ادعاء التملك و تحويل الصراع من مربعه الاول كصراع قومي الى صراع محلي.

و مرة أخرى ايضاً، تثبت اسرائيل انها دولة بقانونين و وجهين تسمح لميلشيات مسلحة غير قانونية ان تطبق القانون،ان سماح اي دولة لميلشيات من اي نوع كان ان تعمل خارج المؤسسات الرسمية لهو مؤشر خطير على خلل كبير في العقلية و النظام و المؤسسة و السياسة ايضاً.و بهذا فإن اسرائيل تقدم نموذجاً سيضيق به العالم الحرّ المدعى و لن يستطيع تغطيته الى ابد الابدين. و قبل ان نتحدث عن ذلك الأذى المدمر الذي تلحقه ميلشيات المستوطنين بنا و بممتلكاتنا لا بد من الاشارة الى ان هذه الميلشيات تلحق الاذى ايضا باسرائيل على كل المستويات، فمثل هذه الميلشيات بالذات هي من سيدق مسامير النهاية للمشروع الصهيوني كله، و ليس انا من يقول هذا الكلام، ان كثيراً من منظري و مفكري الصهاينة الكبار يعتقدون بشكل جازم ان التطرف الديني و القومي كان دوماً يقود جماعات اليهود المختلفة الى الانهيار بسبب هذا التطرف و التشدد الأعمى، و يقول هؤلاء اكثر من ذلك أيضاً، فهم يشيرون الى ان التطرف اليهودي في مراحل التاريخ كلها، كان هو السبب الذي وقف وراء التشريد و القتل وو العزل، بعيداً عن فكرة التميز و التمايز الشهيرة. ان الحركة الاستيطانية التي تغولت في السبعينات هي التي كانت مسئولة عن تغيير شكل المجتمع الاسرائيلي كله، وهي الآن الجهة الأكثر قوة في التأثير على الحكومة و السياسة و الاعلام و الثقافة، و بدلاً من أن تكون على الهامش فانها الآن تحكم اسرائيل بشكل أو بآخر، و استطاعت هذه الحركة بما تحمل من فكر مشيحاني متطرف ان تقدم للجمهور الاسرائيلي فكرة أقوى من الفكرة الصهيونية العلمانية الكلاسيكية، فهؤلاء المستوطنون يوحدون بين الارض و الشعب و الله في صيغة حاخامية تلمودية تلقى قبولاً واسعاً في اوساط الجمهور الواسع و النخب المثقفة و الطبقة السياسية الاسرائيلية. ان توحيد الارض و الشعب و الله في رؤية سياسية دينية و دنيوية يجعل من السلام مع الفلسطينين تفريطاً في الشريعة، و يجعل التسوية الاقليمية نوعاً من الكفر، و يجعل من قبول الآخر و التعامل معه خيانة للتاريخ. هذا الفكر المشيحاني الذي حل محل الفكر الصهيوني الكلاسيكي- الذي يقوم في جزء منه على التسويات- اصبح هو المسيطر على كل شيئ في اسرائيل الآن، و هو ما نراه الآن على جلودنا و على ارضنا و على مقدساتنا. ان تزايد الاقتحامات للمسجد الأقصى و الاغلاقات المتكررة للحرم الابراهيمي و الحرق المتعمد و المهين للمساجد، يعني ببساطة ان الحركة الاستيطانية على اختلاف رؤاها تريد ان تحول الصراع الى المربع الذي يريحها و يعطيها الشرعية و الوهم أيضاً في الاستمرار بهذا الطريق، و هي بذلك تريد ان تختطف الشارع الاسرائيلي و تقدم له البضاعة الفاسدة من اجل تكميم الافواه و توحيد المواقف.ان الرؤية المشيحانية المتطرفة التي يؤمن بها هؤلاء تريد ان تقدم صيغة موحدة و واحدة للجمهور الاسرائيلي المنشق على نفسه دائماً، ان مثل هذه الحركة التي تستمد جذورها الفكرية و السياسية و الدينية من افكار الحاخام ابراهام تسفي كوك- الاب و الابن على حدٍ سواء- تريد فعلاً و حقاً ان تسيطر على كل شيء في اسرائيل، الحكومة و الجيش و الكنيسيت و الاعلام و التربية، و قد يقول قائل ان ذلك غير ممكن و غير واقعي بسبب التعددية الطائفية و العرقية في اسرائيل، و لكن، متى كانت اسرائيل دولة منطقية؟ و متى كانت دولة يمكن توقع افعالها؟ ان اسرائيل تغيرت حقاً، فهي لم تعد اسرائيل الخمسينات و الستينات و السبعينات. امامنا الآن اسرائيل مختلفة، اسرائيل اكثر تطرفاً و اكثر عنفاً و اقل احكاماً.

و لهذا اعتقد ان المستوطنين يدمرون اسرائيل و مجتمعها قبل ان يدمروننا، نحن لا يمكن تدميرنا ابداً، و ما محاولات التخويف و الارهاب و الحرق و القتل و الطرد و التنكيل سوى الرؤية القاصرة لمثل هذه الميلشيات التي تجدنا الطرف الاضعف و الدم المستباح الرخيص لتبعث برسائلها الدموية الى حكومة اسرائيل الضعيفة التي لم و لن تستطيع كبح جماح تلك الجماعات و الميليشيات. ان ضعف حكومات اسرائيل المتتالية امام هذه الجماعات و الميليشيات التي تتغول تدريجياً يعود الى ان تلك الحكومات تعرف جمهور ناخبيها تماماً، و تعرف ان الفكر المشيحاني- الذي لا يريد ان يفهم طبيعة السياسة الاقليمية و العالمية- هو المسيطر الآن على مزاج الجمهور و الدولة، و ان الاصولية أو الاصوليات اليهودية تستيقظ من جديد بشكل أقوى و أوضح، باعتبار ان ذلك لم يعد عيباً أولاً و ان ذلك هو المنبع الحقيقي و الشرعي الوحيد لامتلاك البلاد رغماً عن اصحابها ثانياً.

و بهذا المفهوم فإن اسرائيل مأزومة حقاً، و ازمتها داخلية بحتة قبل ان تكون خارجية، و ان مشكلتها الحقيقية في تعريف ذاتها قبل ان تكون مشكلتها مع المحيط أو مع العالم.

هذا من جهة, اما من جهة هذا السعار الحقيقي الذي يلحق بنا جراء الممارسات التي تقوم بها ميليشيات المستوطنين، فهو يعود لواحد من الأسباب التالية او يعود لها جميعها، فهذه الميليشيات تريد ان تكرر تجربة عام 1948، و هي تهدف بذلك الى ترحيل المواطنين أو احباط دولتهم او تحويل حياتهم الى جحيم،أو تهدف الى استدراج انتفاضة فلسطينية متسرعة حتى تفرض هذه الميليشيات و من ورائها الحكومة الى فرض وقائع خطيرة، أو تصوير الصراع على انه صراع محلي بين اثنيات أو جاليات، و بالتالي فهو صراع صغير لا يؤثر اقليمياً و لا دولياً و لا يحتاج الى تدخل دولي أو اي تدخل من أي نوع، و هو يهدف ايضاً الى تحويل الضفة الغربية الى دولة المستوطنين،

و بالتالي خلق اسرائيل ثانية، اسرائيل تخلو من الديموقراطية و التعددية و الضمان الاجتماعي و المحاكم المدنية، اسرائيل اخرى تماماً، متوحشة يحكمها "الشريف" على الطريقة الامريكية، و يهدف الى احباط العملية السلمية هذا ان بقى هناك عملية سلمية، و هو يهدف ايضاً الى ترجمة العقيدة المشيحانية الى اعمال يرضى عنها الرب، باعتبار ان هذه العقيدة تؤمن بأن المشيح لن يأتي بارادة الهية و انما تأتي بارادة بشرية- و هذا من أخطر وجوه هذا الفكر-. قد تكون كل هذه الاسباب هي ما يقف وراء هذا السعار الذي نشهده الآن، و لكن الأخطر من كل ذلك ان هذا يجري بموافقة أو صمت أو رضى أو دعم من الحكومة الاسرائيلية و الجمهور الاسرائيلي، و هذا يعني اننا أمام سياسة ممنهجة و علنية، فلا بد من الوقوف في وجهها بحزم.

و لأن السياسة الاسرائيلية الحالية هي سياسة واحدة لها أوجه عدة، فلا بد من مواجهة هذه السياسة كرزمة واحدة أيضاً. اسرائيل الآن تكرس الاستيطان و توسعه و تعمقه، وتضرب بعرض الحائط بأية تسوية سلمية، و ترفض التفاوض مع الفلسطينين الا باعتبارهم جماعة ادنى ليس لها ذات الحقوق،و تحاصر القطاع و تبقيه على حد السكين، ثم تطلق ميلشيات المستوطنين لتحويل حياة المواطنين الى جحيم، هذه السياسة هي رزمة واحدة، و مواجهتها تكون كذلك أيضاً. لا يمكن تجزيئ الاحتلال أو سياساته، كما لا يمكن تجزيئ النضال الفلسطيني أو تحويله الى موسمي أو شعاراتي أو رسمي. نحن الآن في ذروة اللحظة الأسوأ.اما بقعة الضوء الوحيدة في هذا المشهد القاتم هو ان الوقت لم يفت بعد على فعل كل ما يجب فعله.

http://www.miftah.org