الأمن أم التعليم..؟!
بقلم: د. حيدر عيد
2012/8/1

الموقع الأصلي:
http://www.miftah.org/display.cfm?DocId=13984

مع (النجاح الكبير) الذي أظهرته قوى الأمن الفلسطينية على مدار السنوات، أي منذ تأسيسها بناءً على اتفاقيات أوسلو، وقيامها بما يطلب منها من (ضبط للأمن) وخدمة سكان الضفة وغزة، بالاضافة للتنسيق الأمني العالي بإشراف جنرال أمريكي، فإنه من المطلوب منا عدم الإعتراض (بحقد!) على تخصيص 35% من ميزانية السلطة الوطنية للأمن..! ومن الطبيعي ان نُتهم بالتطرف وخدمة أجندات خارجية اذا تجرأنا وقارنا ذلك بميزانية التعليم العالي التي تصل الى 1.2%..!! ومن الطبيعي في هذه الحالة أيضا أن يُقال أن هذه المقارنة ظالمة..!

كان من الأجدر لشعبٍ مر بتجاربٍ قاسيةٍ من تطهيرٍ عرقيٍ وتشريد شبه كامل في بقاع الأرض، نتيجة استعمار استيطاني، وتأثير ذلك على هويتة الوطنية والثقافية، وما صاحب ذلك من خسائرٍ ماديةٍ هائلة، أن يتم التركيز على سلاحٍ غاية في الأهمية ألا وهو سلاح التعليم. وتباهى الفلسطينيون لفترة طويلة بإنجازاتهم العلمية وتفوقهم في الجامعات العربية. وكانت كل عائلة في مخيم أو مدينة، على استعدادٍ لبيع كل ما لديها في سبيل أن يحصل أبنها أو إبنتها على درجةٍ جامعية. إذًاً، عُد التعليم العالي إستثماراً للعائلة و للقضية في نفس الوقت، فهو يساهم في صعود العائلة السلم الطبقي ولو لدرجة واحدة. كنا نتباهى، وعن حق، أننا من ساهم في تعليم أبناء الدول الخليجية، وأننا قد محونا الأمية، وأنه لدينا أعلى نسبة من الخريجين الجامعيين والحاصلين على درجاتٍ عليا. ألا يكفينا أن أكبر مفكري القرن العشرين، إدوارد سعيد، فلسطيني من مواليد القدس؟ وأهم شعراء المقاومة، في نفس القرن، محمود درويش من مواليد قرية البروة في الجليل؟ وأن من أوجد مصطلح (أدب المقاومة) هو غسان كنفاتي ابن مدينة عكا؟ ومن ابتدع ايقونة المقاومة (حنظلة) هو ناجي العلي إبن قرية الشجرة، قضاء عكا؟ والقائمة تطول.

ومن الطبيعي في هذه الحالة أن تقوم اسرائيل باستهداف العقل الفلسطيني، حيث أن تحرير هذا العقل كان هدفاً رئيساً لحركة التحرر الوطني الفلسطيني مصاحباً لهدف التحرير الشامل، قبل تصغيره ليصبح إقامة دولة فلسطينية (مستقلة) على 22% من أرض فلسطين، وبالتالي إعادة تعريف الشعب الفلسطيني ليصبح فقط سكان الضفة الغربية وقطاع غزة. وهكذا بعد أن كانت اسرائيل تقوم بتصفية المفكرين الفلسطينيين، وتدمير مراكز البحث الفلسطينية، كما حصل في بيروت، قامت بإغلاق الجامعات الفلسطينية في الضفة وغزة لفترات طويلة.

ومع انشاء السلطة الوطنية الفلسطينية، بعد توقيع اتفاقيات أوسلو، تحول عبء إدارة الشؤون اليومية والصحة والتعليم في غزة ومعظم الضفة الغربية إلى السلطة الناشئة والمتفق على واجباتها وصلاحياتها حرفيا في الاتفاقيات المذكورة. وأي قراءة دقيقة للاتفاقيات توضح الأهمية القصوى التي توليها للجانب الأمني على حساب الحقوق الرئيسية للمستعمَر (بفتح الميم) المضطهَد (بفتح الهاء) في هذه المعادلة.

وهكذا بدأت عملية (أسلوة) العقل الفلسطيني من خلال إعادة ترتيب الأولويات بحيث لم يعد التعليم في المقدمة ولم يعد سلاحاً بنفس الأهمية السابقة على الرغم من تزايد عدد مؤسسات التعليم العالي وارتفاع نسبة الخريجين\ات وحاملي\ات الدرجات العليا..! ومع إرتفاع نسبة البطالة وانخفاض معدلات الدخل أصبح المواطن صغير السن أمام خيارين إما الانضمام لأحد الأجهزة الأمنية أو إحدى الجامعات المنتشرة في ربوع الوطن..! وأصبحت الجامعات نفسها، التي ازداد عددها بشكلٍ كبيرٍ، تفرخ أفواجاً من الطلاب كثيراً منهم يفتقد أبجديات التخصص الذي تخرج منه. وصاحب ذلك نمو عقيدة أمنية عملت على تغيير مفهوم (الآخر) بحيث أصبح من كان جزءا من الأنا الوطنية\الثقافية عدواً يجب الغاءه. بل تداخل العمل الأمني مع الأكاديمي وأصبح من الممكن لجهاز أمني تحديد إسم من يرأس مؤسسة أكاديمية، وأصبح هناك مكاتب للأجهزة في بعض الجامعات. بل الأنكى من ذلك أن يستقوي أكاديمي على آخر من خلال قربه من جهازٍ أمني. وأصبح العديد من العاملين في الأجهزة طلاباً جامعيين سعياً لتحسين وضعهم في الجهاز. وأصبح لقب (دكتور) مؤشراً على منصبٍ اجتماعيٍ أكثر من كونه يحمل مضموناً أكاديمياً، فكرياً، وثقافياً..! بل أن العديد من قادة الأجهز الأمنية، أو العاملين فيها، يسعون للحصول على درجاتٍ عليا حباً في اللقب..!

وهكذا مرت كثير من الجامعات الفلسطينية بعملية تغيير كبيرة حيث غُيب مبدأي الشفافية والديمقراطية في الغالبية منها وأصبحت رهينة تجاذباتٍ سياسيةٍ في الغالب ثنائية. وأصبح الأكاديمي الذي يعمل في جامعاتنا، التي من واجبها أن توفر له أجواءً من الحريةِ والتقديرِ المهني، يُحشر في صراعٍ أخذ طابعاً سياسياً ليس له فيه ناقة ولا جمل. إن الموقف الصحيح هو عدم تغليب السياسي الفصائلي على الأكاديمي في المؤسسات الأكاديمية. ولكن الواقع أن ما حصل، وبالذات في قطاع غزة، هو ذلك وبشكلٍ غاية في الفجاجة مما أثر وبشكلٍ مدمرٍ على المسيرة التعليمية والتحصيل الأكاديمي، ليس فقط للطالب\ة بل أيضا للأكاديمي\ة من حيث التطور الأكاديمي والمشاركة في البحث العلمي الذي انحدربشكل مروع، وكثيراً ما يعتمد على القص واللصق.

وهكذا أصبحت المهنية والتطور الأكاديمي المبني على اساس التفكير النقدي الحر شيئا من الماضي حيث أصبح الولاء لتنظيمٍ محددٍ، أو رضى جهازٍ أمني، ما يقرر مركزك الأكاديمي على حساب الأسس المهنية والإنجازات الأكاديمية من أبحاث منشورة وقدرات ادارية مميزة. و لنا هنا أن نتساءل: هل من الممكن أن يتم التعايش بين القبلية الفصائلية السياسية بما تتميز به من محاباة وغياب المحاسبة من ناحية، والتطور الأكاديمي من ناحية أخرى؟ وهل هناك علاقة بين الكفاءة الأكاديمية والادارية و معيار الانتماء (لقبيلة فصائلية) أو أمنية؟

في خضم الأزمة غير المسبوقة في جامعاتنا، والتي هي بالضرورة انعكاس لأزمة سياسية حادة يعاني منها المجتمع الفلسطيني برمته، تبرز عدة علامات استفهام لا شك وانها ستكون غير مرحب بها من الأطراف السياسية ذات النفوذ. إن من ابجديات العمل الأكاديمي والتعيينات الادارية هو أن يتم دراسة السيرة الذاتية المهنية، وليس السياسية، للأشخاص الذين يتم تعيينهم في مناصب قيادية تمثل العقل المحرك للمؤسسة الأكاديمية والذين يجب أن يتميزوا بتغليب الهم العام على اللقب. وهل في الجامعات الأخرى في أرجاء العالم المتحضر يتم النبش في قلب الأكاديمي لاكتشاف هواه الأيديولوجي وهويته السياسية او الحزبية ومن ثم تحديد منصبه الاداري تبعا لذلك؟ هل حصل ذلك مع ادوارد سعيد في جامعة كولومبيا؟ هل من المطلوب مني بوصفي كأكاديمي أن أذكر انتمائي السياسي في سيرتي الذاتية؟ ان الاجابة وبكل بساطة على هذه الأسئلة، والتي بلا أدنى شك ستزعج الكثيرين، أن المهنية العالية والإنجازات الأكاديمية المتميزة والحقيقية، وليس الألقاب فارغة المضمون، هي المعيار.

وتكمن أزمة الأكاديمي الحر، ذو الروح المعذبة، الذي يقاوم كل المغريات، ويرفض ان يتحول لتاجر شنطة يتنقل بين الجامعات لأخذ ساعات أضافية، بالضرورة تساهم في تدهوره الأكاديمي والبحثي، ويرفض الانصياع للضغوط الأمنية، في أنه يحشر في الزاوية وعليه أن يختار بين ما يؤمن به من حرية فكرية و فكر نقدي بناء يتجاوز الزوايا الأيدولوجية الضيقة التي تميز بعض الجامعات، و بين التنكر لهذه القيم الانسانية العليا! إما أن تمارس سياسة النعامة (وتضع رأسك بين باقي الرؤوس) و (أنا مالي) و( المهم الراتب في أخر الشهر،) أو تتمسك بدورك في هذه المرحلة التاريخية في النضال من أجل التحرير وتقرير المصيرعن طريق نقل المعرفة لجيل حرم من أدنى مقومات الحياة الكريمة. موقف يدعوك للانصياع كالخروف او أن،كما قال ادوارد سعيد في (صور المثقف)، تواجه السلطة، أي سلطة، بقول الحقيقة! أن تقول لا لزميل يتصل بك (للتوسط) لطالب\ة رسب\ت في مادتك أو تخسر هذا الزميل و تكسب نفسك! أن تطالب بتطور زملائك في الجامعة، او تتهم بأنك تسعى (لقطع الأرزاق)! أن تطالب بالتزام جامعاتنا بمقاطعة اسرائيل أكاديميا و تجنب كل ما هو تطبيعي، أو تتهم أنك (تزاود) على زملائك؟ أن تطالب ألا يتم الخلط بين الفصائلي|الأيديولوجي والكفاءة عند التوظيف في بعض الجامعات، أو تخاطر بفقدانك للوظيفة؟!

أن تطالب، وهنا قد نُتهم بالهرطقة، بأن تُحول نسبة الـ 35% من ميزانية السلطة الوطنية للتعليم و1.5 للأمن؟!

ان ثنائية إما- أو هي عدو لكل ما هو أكاديمي حيث أن عقلية الباحث الأكاديمي المثقف لا يمكن بأي شكلٍ من الأشكال أن تحصر في هكذا ثنائية. هكذا ثنائيات دائما تكون على حساب الفكر الحر النقدي الخلاق، العملة النادرة في مؤسساتنا الأكاديمية، وان كان بدرجات متفاوتة.

لاشك أن أحد أخطرخطايا الكم الهائل من الدرجات الأكاديمية العليا التي امتلأ بها الوطن، وان كانت من غير مضمون وانجاز بحثي أكاديمي متميز، هو نتاج الخلط بين الأكاديميا و(البزنس). وحينما دخلت الفصائلية القبلية على الخط،و أصبحنا أمام خيار إما-أو، كانت الضحية الأولى هي المهنية متبوعة بتغييب كامل للتفكير النقدي الخلاق.

إن أزمة التعليم العالي في فلسطين بدأت بالتراكم ككرة الثلج المتدحرجة بسبب تسييس التعليم ودخول المحسوبية والمحاباة والمحاصصة التنظيمية في الترقيات والتعيينات الادارية. ولكنها قبل ذلك انعكاسا لأزمة السلطة الوطنية برمتها. وهكذا لم يكن تصريح د. أمجد برهم، رئيس مجلس اتحاد نقابات اساتذة وموظفي الجامعات الفلسطينية، أن (الجامعات الفلسطينية كافة تمر في ازمة مالية غير مسبوقة، سببها تخلّف الحكومة عن تسديد مستحقاتها المالية المقرة) غريبا على الاطلاق..! بل أن النتيجة التي حذر منها منطقية، حينما قال (ان نتائج هذه الازمة الخانقة بدت واضحة اليوم على أداء معظم الجامعات الفلسطينية، وأن استمرار هذه الاوضاع المالية الصعبة في الجامعات سيؤدي لا محالة الى شلل كامل في ادائها، مما يعني القضاء التام على التعليم العالي في فلسطين، الامر الذي يشكل خطرا كبيرا على عملية بناء الانسان الفلسطيني). وان كان سؤاله عن الحكومة واستثمارها في الانسان الفلسطيني وتنميته عن طريق دعم العلم والتعليم يبدو (غريبا) لأن الكل يعلم الحقيقة المرة وهي أن (الأمن) له أولوية على التعليم..!

إذًاً لم تعد نوعية التعليم الذي يتلقاه أبناؤنا مهماً طالما أنهم حملة شهادات..! لم تعد عملية بناء الانسان الفلسطيني وتحريره في سلم أولوياتنا لأن (الأمن)، بمنطق أوسلو، وإن كان تحت حراب الاحتلال والاستيطان والأبارتهيد، هو ما يضمن مقومات الدولة الفلسطينية المستقلة..!

علينا أن ننظر في المرآة جيداً وألا ندير وجهنا للناحيةِ الأخرى عندما نرى وجهاً لا نحب أن نراه..! فالتعليم هو ما تبقى لنا، ليس فقط لتحرير الأرض، بل لتحرير العقل أيضاً. فهل تتدارك السلطة الوطنية الفلسطينية، بشقيها، الأمر وتخصص الجزء الأكبر من ميزانيتها للتعليم، كما تفعل العديد من الدول المتحضرة..!!

* أكاديمي فلسطيني من قطاع غزة، محلل سياسي مستفل وناشط في حملة المقاطعة. - haidareid@yahoo.com

http://www.miftah.org